في أكبر عملية انتشار عسكري مصري خارج البلاد منذ حرب الخليج عام 1991، تستعد القاهرة لإرسال قوات إلى الصومال ضمن بعثة الاتحاد الإفريقي لحفظ السلام. ورغم ما تحمله الخطوة من خطاب رسمي يتحدث عن "دعم الاستقرار ومكافحة الإرهاب"، إلا أنها في الواقع تثير الكثير من علامات الاستفهام حول جدواها ومخاطرها، لتبدو أقرب إلى مغامرة غير محسوبة الثمن، يدفع الجيش المصري ثمنها من دماء جنوده، دون أن يكون للشعب أي مكسب ملموس.
 

أولاً: صومال مضطرب لا يستقبل الغرباء
الصومال بلد غارق في الفوضى منذ ثلاثة عقود. حركة الشباب المتطرفة تقاتل بلا هوادة لإقامة مشروعها المزعوم، وتسيطر على مساحات واسعة من جنوب ووسط البلاد. ومع أن الحكومة الصومالية والاتحاد الإفريقي رحّبا بالقوات المصرية، إلا أن الواقع يشير إلى أن أي قوة أجنبية في الصومال تتحول بسرعة إلى هدف مشروع في نظر الحركة، التي وصفت من قبل جميع القوات الإفريقية والأجنبية بـ"القوات الغازية".

الإذاعات المرتبطة بالحركة مثل "راديو الأندلس"، لمّحت بالفعل إلى اعتبار مصر جزءًا من "الحملة الصليبية" في الصومال. وهذا يعني أن الجنود المصريين سيكونون عرضة لهجمات بالعبوات الناسفة والكمائن، كما حدث مع القوات الكينية والأوغندية والإثيوبية من قبل.
 

ثانياً: صراع بالوكالة مع إثيوبيا
لا يمكن فصل هذا الانتشار عن سياق أزمة سد النهضة. وجود القوات المصرية في مناطق مثل جوهر وبلعد ومهداي وبورني، فضلاً عن قاعدة بلّيدوجلي، يضعها على تماس مباشر مع مناطق النفوذ الإثيوبي. وهذا يعرض المهمة لخطر الاحتكاك العسكري غير المباشر بين الجيشين المصري والإثيوبي، تحت غطاء البعثة الإفريقية.

بدلاً من حل أزمة المياه عبر الدبلوماسية والضغط السياسي، تغامر الحكومة بإقحام القوات المصرية في ساحة معركة بالوكالة، تجعل من جنودنا أوراق ضغط في صراع إقليمي معقد.
 

ثالثاً: تكلفة بلا مردود
الانتشار العسكري خارج الحدود يحتاج إلى موارد مالية ولوجستية ضخمة. مصر، التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة وتضخم متصاعد، لا تستطيع تحمل أعباء مغامرة عسكرية لا علاقة مباشرة لها بأمن المواطن. فالصومال يبعد آلاف الكيلومترات عن الحدود المصرية، ولا يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي، على عكس التحديات في سيناء أو على الحدود الغربية والجنوبية.

في المقابل، ما المكاسب؟ لا استقرار مضمون في الصومال، ولا نفوذ مضمون للقاهرة، في ظل تنافس إقليمي شديد مع تركيا وقطر والإمارات وإثيوبيا. أي أن مصر قد تجد نفسها "تقاتل بالنيابة" فقط، فيما يحصد الآخرون الثمار السياسية والاقتصادية.
 

رابعاً: خطر تكرار سيناريو أفغانستان
رغم نفي الحكومة الصومالية صحة تقارير عن قرب انهيار أمني يشبه سيناريو كابول مع طالبان، إلا أن الواقع الميداني يكشف عكس ذلك. استيلاء حركة الشباب مؤخرًا على بلدة تاردو الاستراتيجية وسط البلاد، دليل على قدرتها على التمدد رغم الضربات الجوية الأمريكية.

إرسال قوات مصرية إلى هذا المستنقع، يضعها في مواجهة تنظيم يجيد حرب العصابات، وله جذور اجتماعية داخل المجتمع الصومالي. ومع غياب نصر عسكري حاسم في الأفق، قد تتحول المهمة إلى حرب استنزاف طويلة، بلا نهاية واضحة، شبيهة بحروب الآخرين الخاسرة في الصومال.
 

خامساً: استغلال داخلي وخارجي
حركة الشباب لن تفوّت فرصة استغلال الوجود المصري في دعايتها. ستصوّر الحكومة الصومالية على أنها "تابعة للخارج"، وستشيطن مصر باعتبارها "قوة غازية"، وهو ما يضر بصورة القاهرة في إفريقيا أكثر مما يفيدها.
داخليًا، ستُتهم الحكومة بأنها تستهلك موارد الجيش المصري في معارك لا تخص المواطن، بينما يئن الداخل تحت وطأة أزمات اقتصادية ومعيشية متفاقمة.
 

سادساً: معادلة خاسرة
الرئيس الصومالي يحاول اللعب على التوازن بين مصر وإثيوبيا، مستفيدًا من تنافسهما. لكن في نهاية المطاف، هو يستخدم الحضور المصري كورقة تفاوضية، فيما لا يملك أي ضمان لحماية القوات المصرية من الهجمات أو لتأمين نجاح المهمة.
من جانبها، تؤكد القاهرة أن وجودها لا يستهدف إثيوبيا، بل دعم استقرار الصومال. لكن الواقع أن كل المؤشرات تقول إن المهمة تخفي أجندة أوسع مرتبطة بالصراع مع أديس أبابا على مياه النيل والبحر الأحمر. وفي هذا السياق، تصبح القوات المصرية أداة ضغط سياسي أكثر منها قوة سلام حقيقية.
 

دماء المصريين ليست ورقة تفاوض
إرسال الجيش المصري إلى الصومال مغامرة غير مجدية، لأنها تضعه في مواجهة مع عدو دموي هو حركة الشباب، وفي احتكاك محتمل مع جيش إقليمي قوي هو الجيش الإثيوبي، دون أي ضمان لمكاسب ملموسة.
بدلاً من إنفاق الموارد والدماء في صراعات بعيدة، كان الأجدر بالحكومة الاستثمار في الداخل، ومعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تضرب حياة المواطنين. أما أن يُستخدم الجيش في مغامرات سياسية لإرسال رسائل لإثيوبيا أو غيرها، فذلك مقامرة بأرواح الجنود وبسمعة مصر، بلا عائد حقيقي.