في مداخلة هاتفية مع الإعلامي أسامة جاويش ببرنامج آخر الكلام، كشف الدكتور مصطفى جاويش، وكيل وزارة الصحة الأسبق، عن كوارث متراكمة في ملف الدواء بعد إنشاء هيئة الدواء الموحد وهيئة الشراء الموحد، التي أُسندت إدارتها إلى لواءات من الجيش، مؤكدًا أن ما يحدث اليوم هو نتيجة مباشرة لفشل العسكرة في إدارة الدولة، ورغم إقالة اللواء بهاء الدين زيدان الذي تولى رئاسة هيئة الشراء الموحد لسنوات، وسط أزمات متصاعدة في قطاع الدواء وتأخر المستحقات، إلا ان السيسي اسند القطاع للواء آخر.
من وزارة الصحة إلى قبضة اللواءات
يشير جاويش إلى أن وزارة الصحة كانت تاريخيًا الجهة المسؤولة عن ملف الدواء، بما فيه من تراخيص وتصنيع وتوزيع ورقابة.
ورغم ما شابه من أزمات، فإن الوضع لم يصل قط إلى حالة الانهيار الحالية. فمع إنشاء هيئة الدواء الموحد، ثم هيئة الشراء الموحد، جرى سحب الصلاحيات بالكامل من وزارة الصحة، وأصبحت إدارة الملف في أيدي لواءات متقاعدين لا خبرة لهم في الصناعة أو السوق.
النتيجة – بحسب جاويش – أن الهيئتين تحوّلتا إلى كيانات فوق المساءلة، تعمل دون رقابة حقيقية، ما أدى إلى خلل بنيوي في سوق الدواء المصري.
انهيار المصانع وتوقف الإنتاج
من أبرز الكوارث التي رصدها جاويش أن عشرات المصانع خرجت من الخدمة بسبب تأخر هيئة الشراء الموحد في صرف المستحقات المالية.
هذه المستحقات تمثل شريان حياة للمصانع، وبغيابها لم يعد بالإمكان استيراد المواد الخام أو تشغيل خطوط الإنتاج.
الأمر انعكس مباشرة على المرضى، حيث تفاقمت أزمة نقص الأدوية والمستلزمات الطبية، وباتت السوق في حالة شلل حقيقي، وسط مطالب متكررة من الشركات برفع الأسعار لتعويض الخسائر.
الفساد يضرب المستشفيات
جاويش عرض مثالًا صادمًا من مستشفى 6 أكتوبر للتأمين الصحي: جهاز الكاسيت المخصص لعلاج المياه البيضاء في العيون، والمفترض استخدامه لمريض واحد فقط، أعيد تعقيمه واستعماله لعدة مرضى بسبب عدم صرف المستحقات لشراء أدوات جديدة.
النتيجة كانت مأساوية: أربعة مرضى فقدوا بصرهم.
هذا المثال يوضح كيف أن سياسة شراء مستلزمات أقل جودة، أو إعادة استخدام أدوات مخصصة للاستعمال لمرة واحدة، لم تعد مجرد خلل إداري بل تحوّلت إلى جريمة طبية بحق المرضى.
خلل هيكلي في هيئة الشراء
من أخطر ما كشفه جاويش أن هيئة الشراء الموحد دخلت على ملف الأدوية دون أي خبرة حقيقية، بينما الهدف الأساسي المعلن كان "خفض التكلفة وتوفير المستلزمات".
النتيجة العملية جاءت عكس ذلك:
- نقص مستلزمات في مستشفيات التأمين الصحي.
- شراء خامات وأدوية أقل جودة بسبب السعي وراء الأرخص.
- تأخير توريد الأدوية لعدم وجود سيولة مالية كافية.
جاويش أكد أن المقارنة بين الوضع الحالي وما كان قائمًا أيام وزارة الصحة تظهر بوضوح أن الأزمات تضاعفت بعد عسكرة القطاع.
أرقام ودلائل على الفشل
- 6.5 مليار دولار هو حجم سوق الدواء المصري سنويًا (بحسب بيانات الصناعة)، ومع ذلك، تعاني السوق من نقص متكرر في أدوية أساسية مثل الأنسولين والمحاليل الوريدية.
- خروج عشرات المصانع من الخدمة بسبب أزمة المستحقات، ما قلل الطاقة الإنتاجية للقطاع بنسبة ملحوظة.
- ارتفاع أسعار الخامات المستوردة بنسبة تجاوزت 40% بسبب ضعف قدرة الهيئة على السداد في المواعيد المحددة.
- استمرار شكاوى النقابات الطبية والمستشفيات من عجز المخزون، خاصة في الأقاليم، حيث يُجبر الأطباء على وصف بدائل أقل فعالية أو الامتناع عن وصف العلاج.
المديونيات تتضاعف
بحسب تقديرات رسمية من شعبة الدواء باتحاد الغرف التجارية، فإن المديونيات المستحقة لشركات الأدوية قبل إنشاء الهيئة لم تكن تتجاوز 10 – 12 مليار جنيه.
ورغم بطء السداد حينها، فقد كان القطاع يعمل بشكل مستقر نسبيًا. لكن بعد تولي هيئة الشراء الموحد، قفزت المديونيات إلى أكثر من 30 مليار جنيه غير مسددة، ما أدى إلى توقف مصانع عن الإنتاج لعدم قدرتها على شراء المواد الخام.
هذا التدهور لم يكن نتيجة نقص عالمي أو أزمات خارجية فقط، بل بفعل سوء الإدارة وهيمنة البيروقراطية العسكرية على سوق معقد وحيوي.
فوق المساءلة.. وتحت الحماية العسكرية
الهيئة – كما يؤكد جاويش – أصبحت تعمل دون مساءلة فعلية رغم تبعيتها لمجلس الوزراء. اللواءات الذين يديرونها يتمتعون بغطاء سياسي وأمني يجعل من المستحيل محاسبتهم، حتى بعد الكوارث التي تُوثَّق علنًا. النتيجة هي تفشي الفساد، وتضاعف الأزمات بدل حلها.
المقارنة بين وزارة الصحة سابقًا وهيئة الشراء الموحد بعد العسكرة
قبل إنشاء هيئة الشراء الموحد، كان ملف الأدوية والمستلزمات الطبية يُدار عبر وزارة الصحة مباشرة، بآليات فيها قدر من المرونة والمساءلة البرلمانية والإدارية.
رغم وجود أزمات في التسعير أو التوزيع، فإن السوق كان يحافظ على قدر من التوازن:
- الشركات كانت تحصل على مستحقاتها وإن بتأخير نسبي.
- المديونيات لم تتجاوز الحد المقبول.
- الأطباء والمستشفيات كانت تتعامل مع أصناف أدوية مستقرة ومعروفة.
لكن بعد العسكرة عبر إنشاء هيئة الشراء الموحد برئاسة لواءات سابقين:
- تحولت الهيئة إلى كيان فوق المساءلة بحكم تبعيتها المباشرة لمجلس الوزراء وسيطرة العسكر عليها.
- تفاقمت أزمة المستحقات للشركات حتى خرجت بعض المصانع من الخدمة.
- جرى شراء مستلزمات رديئة أو أقل جودة بدعوى ترشيد الإنفاق، ما انعكس مباشرة على المرضى (حالات العمى الناتجة عن إعادة استخدام جهاز الكاسيت مثال صارخ).
- فقد السوق الدوائي مرونته، وأصبح يخضع لقرارات إدارية مغلقة بعيدًا عن رقابة حقيقية.
هذه المقارنة تؤكد أن الانتقال من إدارة مدنية إلى إدارة عسكرية لم يحل الأزمات بل ضاعفها، ورسخ مناخًا من الغموض والفساد بدلاً من الشفافية والمساءلة.
فشل العسكرة ومستقبل أكثر قتامة
ملف الدواء ليس حالة استثنائية، بل يعكس نمطًا واسعًا من عسكرة الاقتصاد المصري:
- في الزراعة، استولى الجيش على مساحات هائلة تحت شعار الاستصلاح، لكن الاستيراد من الخارج تضاعف.
- في الإسكان، تركزت مشروعات الجيش على المدن الفاخرة والكباري الضخمة، بينما تفاقمت أزمة السكن الشعبي.
- في الصحة، تحولت بعض المستشفيات إلى كيانات ربحية تحت إدارة عسكرية، بينما تراجع مستوى الخدمة العامة.
كل هذه الأمثلة تؤكد أن عسكرة المؤسسات لم تؤدِ إلى الانضباط أو الكفاءة، بل أنتجت مزيدًا من الفساد والشلل الإداري.
وأخيرا فما يحدث في قطاع الدواء ليس حالة منفصلة، بل هو جزء من نموذج أكبر لفشل عسكرة مؤسسات الدولة. فكما فشلت المؤسسة العسكرية في إدارة ملف القمح، والطرق، والإسكان، ها هي تفشل اليوم في أهم ما يمس حياة المواطن: الدواء.
جاويش ختم مداخلته بالتأكيد أن المستقبل لن يكون أفضل في ظل استمرار هذه السياسات، بل هو مرشح لمزيد من الفساد والفشل، ما لم يُعاد الملف إلى وزارة الصحة.