شهدت الساحة الدولية خلال الأيام الأخيرة زخماً غير مسبوق في المواقف المعلنة تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة.
ففي حين اتجهت إسبانيا نحو خطوات عملية متصاعدة ضد إسرائيل، بما في ذلك إلغاء صفقات أسلحة بمئات الملايين من اليوروهات، واستدعاء ممثلي تل أبيب دبلوماسياً مراراً، والتهديد بمقاطعة فعاليات رياضية وثقافية دولية في حال مشاركة إسرائيل، فيما اكتفت القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة بإصدار بيان إدانة قوي في العبارات، ضعيف في الأفعال، ليعيد إلى الأذهان الفجوة التقليدية بين مواقف الشعوب وما ينتظر من الحكومات العربية والإسلامية.
إسبانيا: خطوات تصعيدية وقرارات ملموسة
منذ اعترافها الرسمي بدولة فلسطين في مايو 2024، دخلت إسبانيا في مسار مواجهة علني مع حكومة بنيامين نتنياهو. وقد اتخذت مدريد سلسلة إجراءات غير مسبوقة في الاتحاد الأوروبي:
- دبلوماسياً: استدعاء القائم بالأعمال الإسرائيلي أكثر من مرة احتجاجاً على تصريحات مسيئة من نتنياهو ووزير خارجيته جدعون ساعر بحق رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز.
- عسكرياً: إلغاء صفقة أسلحة بقيمة 700 مليون يورو، إضافة إلى عقود أخرى، مع حظر استيراد منتجات المستوطنات ومنع عبور السفن والطائرات العسكرية الإسرائيلية.
- ثقافياً ورياضياً: التلويح بالانسحاب من مسابقة "يوروفيجن" إذا لم تُستبعد إسرائيل، وإلغاء سباقات رياضية محلية ودولية شاركت فيها فرق إسرائيلية تحت ضغط شعبي متنامٍ.
- قانونياً وإنسانياً: تشديد الحظر على أي عقود تسلح مستقبلية مع إسرائيل، وزيادة الدعم الموجه لوكالة "الأونروا".
إسبانيا لم تكتفِ بالتصريحات، بل تبنّت خطوات عملية واضحة، ما جعلها عرضة لهجوم إسرائيلي غير مسبوق، وصل إلى حد اتهام سانشيز بـ"معاداة السامية" وتذكيره بمحاكم التفتيش الإسبانية وطرد اليهود.
القمة العربية الإسلامية: لغة قوية بلا أدوات ضغط
على الطرف الآخر، انعقدت القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة بعد تعرض قطر نفسها لقصف إسرائيلي ووسط تواصل حرب الإبادة على غزة. البيان الختامي تضمّن:
- إدانة "الإبادة الجماعية" و"التطهير العرقي" في غزة.
- شجب الاعتداء على قطر واعتباره تجاوزاً لكل الخطوط الحمراء.
- دعوة لمراجعة العلاقات مع إسرائيل، ومطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته.
لكن عند الأفعال، لم تُعلن القمة عن أي عقوبات اقتصادية أو سياسية أو قانونية ضد إسرائيل.
لم يُقطع التمثيل الدبلوماسي، ولم يُتخذ قرار بوقف التطبيع أو تجميد العلاقات، بل بقيت القرارات في إطار البيانات المعتادة التي تُطلق في كل أزمة فلسطينية منذ عقود.
الفارق بين الموقفين
المقارنة بين الموقف الإسباني والموقف العربي الإسلامي تكشف بوضوح:
- إسبانيا واجهت الكلفة: مدريد خسرت صفقات أسلحة كبرى وعرّضت علاقاتها مع تل أبيب واللوبيات الداعمة لها للتوتر.
- العرب والمسلمون تجنّبوا الكلفة: اكتفوا ببيانات إدانة لم تتبعها إجراءات عملية، رغم أن بعض الدول العربية والإسلامية تملك أوراق ضغط هائلة (النفط، الأسواق، العلاقات التجارية، النفوذ الجغرافي).
- الشعوب ضد الحكومات: في إسبانيا، ضغط الشارع أسفر عن تعطيل فعاليات كبرى وإجبار الحكومة على تبني مواقف أكثر صرامة. بينما في العالم العربي، تظل الفجوة قائمة بين غضب الشارع وصمت المؤسسات الرسمية.
دلالات سياسية
إسبانيا تتحرك منفردة في أوروبا: قراراتها الجريئة تضعها في مواجهة مباشرة مع إسرائيل وحلفائها الغربيين.
القمم العربية تُعيد إنتاج العجز: رغم الزخم الإعلامي للحضور الكثيف والتصريحات النارية، لم تُترجم القمة أي بند إلى آلية تنفيذية، ما يُضعف مصداقيتها أمام شعوبها وأمام العالم.
إسرائيل ترد بعنف لفظي ودبلوماسي: بينما تهاجم إسبانيا بشراسة، تدرك أن بيانات القمم العربية لا تحمل تهديداً حقيقياً.
وبينما تتصرف إسبانيا كدولة أوروبية تتحمل مسؤولية أخلاقية وقانونية تجاه ما تعتبره إبادة جماعية في غزة، تظل القمم العربية الإسلامية أسيرة الخطابات واللغة الرمزية، دون خطوات تعكس وزنها الحقيقي أو إرادة شعوبها.
الفارق بين الموقفين لا يكمن فقط في القدرة بل في الإرادة؛ فإسبانيا، برغم محدودية قوتها العسكرية، اختارت أن تواجه، بينما القمة العربية الإسلامية، رغم امتلاكها أوراق ضغط هائلة، اختارت الاكتفاء بالكلمات.