مع انطلاق عام دراسي جديد، يعود ملف «التجريبات التعليمية الأجنبية» إلى الواجهة، لكن هذه المرة الصورة تبدو أشد تعقيداً: توسع حكومي ظاهر في نماذج ومدارس شتّى من اليابان إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا والصين والولايات المتحدة، مقابل حالة من العجز عن تقديم خطة قومية موحدة قادرة على ضمان هوية ومصلحة تعليم أكثر من ربع سكان البلاد — نحو 28.5 مليون تلميذ في التعليم قبل الجامعي.

 

الملخص التنفيذي

تتبّن وزارة التربية والتعليم سياسة تشاركية مع شركاء أجانب متعددة الأوجه: مدارس مصرية يابانية، شبكات مدارس فرنسية وألمانية قيد التفاوض، برامج مشتركة مع الصين وإيطاليا، وإشارات دعم لتبني نماذج بكالوريا بديلة مستوردة.

رغم العناوين الإعلامية الكبرى والاتفاقيات، لا تبدو هناك رؤية مركزية واضحة تُجيب عن سؤال أساسي: كيف ستتكامل هذه النماذج الأجنبية مع المناهج الوطنية، وما آلية الرقابة على المحتوى والقيم داخل هذه المدارس؟ في المقابل، كشفت فضيحة «ران» عجزاً واضحاً في الآليات الرقابية، وأثارت مخاوف مجتمعية وأمنية تتعلق بقدرة النظام التعليمي على حماية الهوية القيمية للمجتمع.

 

كيف تحوّل مشهد التعليم إلى «بازار» من النماذج؟

من نهاية 2024 حتى صيف 2025، تبدو أجندة وزارة التربية والتعليم وكأنها جولة دبلوماسية مكثفة مع القارات:

  • 24 ديسمبر 2024: اتفاقات أو خطوات لتدريس اللغة الصينية في 21 مدرسة مصرية كلغة ثانية.
  • 16 يناير 2025: تصريحات داعمة لانفتاح على نظام البكالوريا الأميركية.
  • 12 فبراير 2025: اتساع الأكاديميات الفنية الإيطالية إلى ثلاثين أكاديمية.
  • 20 مارس 2025: إعلان خطة لإنشاء 100 مدرسة فرنسية بحلول 2030.
  • 10 يوليو 2025: بحث إطلاق مشروع مدارس مصرية-ألمانية مع طموح مئة مدرسة إضافية.

تتابع هذه اللقاءات يشي بحراك دبلوماسي وتعامل إعلامي مع ملف التعليم كأداة علاقات عامة واستثمار دولي، لكن دون تفسير واضح لكيفية ملاءمة هذه التجارب المتباينة مع هدف وطني موحد.

 

فضيحة «ران» — عندما يتقاطع المحتوى مع حساسية المجتمع

قضية مدرسة «ران» الألمانية في التجمع الخامس (10 أبريل 2024) كانت بمثابة صدمة: كتاب أحياء للصف السادس احتوى فصلاً بعنوان «الميل الجنسي» — بحسب شكوى أولياء الأمور — مع نصوص وصور اعتبرها كثيرون «صريحة» وغير ملائمة لبيئة تعليمية مصرية. ردود الفعل شملت ترجمة رسمية للكتاب، بلاغاً إلى النائب العام في 15 أبريل، واستجواباً برلمانياً، لكن إدارة المدرسة حاولت احتواء الأزمة عبر تكتيكات وصفها أولياء الأمور بـ«المخادعة»: أمور مثل مطالبة الأهالي بتمزيق صفحات، توقيع إقرارات، وإقصاء معلمين معارضين. هذه الحادثة، كما يصفها منتقدون، كشفت فراغاً رقابياً وغياب آليات حماية فعّالة للمناهج الأجنبية داخل مصر.

 

السياسات الرسمية المتضاربة: انفتاح استثماري مقابل تحفّظ أمني-سياسي

في ظل السماح للأجانب بتملك مدارس دولية وخاصة منذ يناير 2021، حتى بملكية قد تحمل جنسية إسرائيلية، يتضح اتجاه اقتصادي وسياسي يدعم الاستثمارات الأجنبية في قطاع التعليم.

في المقابل، راجت سياسات تثقيفية-أمنية تقيد امتلاك أو إدارة مدارس مرتبطة بجماعات إسلامية (قرار التحفظ على 104 مدارس إسلامية في 2018 مثالاً). هذا التباين يوحي بأن المعيار في التعاطي لا يرتبط بمحتوى برامج التعليم فحسب، بل أيضاً بالعلاقة السياسية والولاءات، ما يثير تساؤلات حول عدالة المعايير وأهدافها الحقيقية.

 

الهوية الوطنية والأمن القومي: مخاوف الخبراء

يقدّم الخبير التعليمي خالد خيري قراءة متشائمة: «ما يجرى اليوم هو هيمنة متزايدة للمدارس الأجنبية والمناهج المستوردة»، ويصف ذلك بأنه «حرب مفتوحة على الهوية الوطنية». يخشى المختصون من أن تتحول هذه المدارس إلى أدوات لتفريخ أجيال «منزوعة الطابع الثقافي»، ما يحوّل القضية من نقاش تربوي إلى مسألة تتعلق بالأمن القومي. كما ينتقد خيري «التخبط» وغياب خطة مركزية واضحة، ويشير إلى أن الموارد والجهد تتجه نحو مدارس نخبوية بينما تبقى المدارس الحكومية المكتظة في وضع مزرٍ.

 

أثر ذلك على العدالة التعليمية

المفارقة أن المشاريع الأجنبية تُسوّق غالباً كـ«إنجازات» و«مبادرات تحديث»، بينما لا يوجد مؤشر واضح على استثمار مماثل في حل أزمة الكثافة، توسيع الفصول، تدريب المعلمين، أو تحديث المناهج على نطاق واسع. النتيجة المتوقعة هي تعميق الفجوة بين طبقات المجتمع: مدارس نخبوية بخدمات وبنى تحتية متقدمة مقابل ملايين التلاميذ في التعليم الحكومي يعانون من ضعف جودة التعليم.

 

لماذا الفوضى الخطرة؟

الفوضى في التعيم المصري تطرح أسبابًا كثيرة للقلق متعدد الأبعاد، ومنها:

  • غياب رؤية منهجية: تشتت النماذج المستوردة دون معايير دمج واضحة أو تقويم لمدى ملاءمتها للمجتمع المصري.
  • نقص الرقابة: فضائح مثل «ران» تكشف ثغرات في آليات مراجعة المناهج والمواد الأجنبية.
  • ازدواج المعايير: انفتاح استثماري مع تحفظ أمني-سياسي على مدارس بأيدي جهات معينة.
  • تهديد الهوية: القلق من نقل قيم وثقافات متباينة قد تتعارض مع السرد القومي والديني للمجتمع.
  • عدم الإنصاف: تخصيص الاهتمام والموارد لشرائح محدودة يعزز عدم المساواة.