بينما تُعلن الحكومة في كل مناسبة عن عزمها محاربة الفساد وتحسين جودة التعليم، تكشف الوقائع اليومية أن المدارس الحكومية تعيش تحت وطأة ممارسات إدارية فاسدة تتنوع بين تحصيل غير قانوني من أولياء الأمور، عقود صيانة وتوريدات متضخمة، ومحسوبيات في التعيينات والتحويلات.
الأخطر أن هذه الممارسات لا تجري في الخفاء، بل في وضح النهار، تحت أعين المسؤولين الحكوميين الذين يكتفون بالتصريحات دون اتخاذ إجراءات رادعة.
هذه الأزمة لا تعكس فقط خللاً في إدارة المنظومة التعليمية، بل تكشف أيضًا عن سياسة ضمنية تقوم على رعاية الفاسدين أو غضّ الطرف عنهم.
أولياء الأمور بين "التبرعات الإجبارية" والصمت الحكومي
التحصيل غير القانوني من أولياء الأمور أبرز صور الفساد الإداري. رغم تعليمات وزارة التربية والتعليم المتكررة بمنع فرض "تبرعات إجبارية"، ما زالت إدارات المدارس تمارس هذه الضغوط.
الدكتور كمال مغيث، الباحث التربوي، يرى أن الحكومة تتعمد ترك المدارس تجمع أموالًا بطرق غير قانونية لتعويض ضعف موازنة التعليم، معتبرًا أن ذلك "نوع من الجباية غير الرسمية".
الدكتورة بثينة كشك، وكيلة وزارة التربية والتعليم السابقة، أكدت في تصريحاتها أن هناك مدارس تُسيء استخدام مصطلح المشاركة المجتمعية لتبرير جمع الأموال من الأهالي، محملة الإدارات التعليمية المسؤولية عن غياب الرقابة.
العقود الوهمية وإهدار المال العام
توريدات الصيانة والأثاث والأنشطة التعليمية غالبًا ما تتم عبر عقود مبالغ فيها، ما يشير إلى شبكة مصالح بين بعض المديرين وشركات معينة.
الدكتور عبد الخالق فاروق، الخبير الاقتصادي، يؤكد أن الفساد في العقود التعليمية يمثل جزءًا من "الفساد المؤسسي" الذي يهدر مليارات الجنيهات، لافتًا إلى أن غياب الشفافية في المناقصات يفتح الباب أمام عمولات ورشاوى.
المستشار هشام جنينة، الرئيس الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات، صرّح أكثر من مرة بأن التعليم من أكثر القطاعات التي تشهد وقائع إهدار للمال العام، مشيرًا إلى أن تقارير الجهاز وثّقت ذلك بالأرقام قبل أن يتم التعتيم عليها.
المحسوبية والتعيينات: التعليم رهينة الوساطة
من أبرز أوجه الفساد الإداري اعتماد التعيينات والتحويلات على الوساطة والمحسوبية بدلًا من الكفاءة.
الدكتور عماد الدين حسين، الكاتب الصحفي وعضو مجلس الشيوخ، قال إن استمرار هذه الممارسات يعكس إرادة سياسية غائبة، وأن غياب العدالة في التعيين يُفقد المعلمين الحافز ويضعف ثقة المجتمع في المدرسة الحكومية.
الدكتور محمد معيط، وزير المالية الأسبق، أشار في إحدى ندواته إلى أن التوظيف غير المبني على الكفاءة لا يضر فقط بالتعليم بل يضاعف كلفة الدولة، لأن الجهاز الحكومي يزداد ترهلًا ويصبح أقل إنتاجية.
غياب المحاسبة: حماية الفاسدين سياسة لا استثناء
رغم تكرار الإعلان عن حملات لمكافحة الفساد في التعليم، فإن المحاسبة غالبًا ما تكون شكلية أو تطال صغار الموظفين دون المساس بالكبار.
الدكتورة نيفين مسعد، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ترى أن المشكلة ليست في وجود الفساد فقط بل في غياب "الإرادة السياسية" الحقيقية لمواجهته، مؤكدة أن الدولة تستخدم قضايا الفساد كأداة إعلامية أكثر من كونها معركة إصلاح.
تكشف آراء الخبراء أن الفساد الإداري في المدارس الحكومية ليس أزمة محلية عابرة، بل جزء من منظومة فساد أوسع ترعاها الحكومة بصمتها وتقصيرها في المحاسبة.
وبينما يواصل أولياء الأمور دفع "الجباية"، وتُهدر الموارد في عقود وهمية، ويستمر التعيين بالمحسوبية، تظل الحكومة تتحدث عن تطوير التعليم في خطابات رسمية لا يصدقها الشارع.
الإصلاح الحقيقي يبدأ من مواجهة هذه الممارسات بجدية، ومحاسبة كبار المسؤولين قبل صغار الموظفين، وإلا سيظل شعار "محاربة الفساد" مجرد ستار لإخفاء واقع أكثر قتامة.