لم تعد الاعتداءات على الأطباء والعاملين في المنظومة الصحية في مصر مجرد حوادث فردية عابرة، بل تحولت إلى ظاهرة مقلقة تهدد الأمن الوظيفي للأطباء وسلامة المنظومة الطبية ككل.
فخلال السنوات الأخيرة، تكررت وقائع الاعتداء البدني واللفظي ضد الأطباء والممرضين داخل المستشفيات الحكومية وحتى الخاصة، وسط عجز الدولة عن إيجاد حلول حقيقية، مما أدى إلى تصاعد الغضب في الأوساط الطبية والشعبية.
ظاهرة متكررة تكشف هشاشة النظام الصحي
مع كل حادثة جديدة تتداولها وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي، يتضح أن الاعتداءات على الأطباء لم تعد استثناءً. فمشادات مع ذوي المرضى سرعان ما تتحول إلى اعتداء جسدي، وتكسير في المستشفيات، وإرهاب للعاملين.
الأسباب المعلنة غالبًا واحدة: تأخر الخدمة، نقص الإمكانيات، أو وفاة مريض. لكن خلف هذه المشاهد تقف أزمة أكبر؛ نظام صحي منهك بإمكانيات محدودة، وبنية تحتية متهالكة، ونقص كوادر طبية.
حوادث بارزة تكشف عمق الأزمة
- في يونيو 2022، شهد مستشفى قصر العيني اعتداءً عنيفًا من أقارب أحد المرضى على طاقم الأطباء والممرضين بعد وفاة مريض بالقسم الداخلي، ما تسبب في إصابة عدد من العاملين.
- في يناير 2023، تعرض طبيب نساء وتوليد في مستشفى المحلة العام للضرب المبرح داخل غرفة العمليات من أسرة مريضة، مما أثار موجة غضب عارمة على مواقع التواصل.
- وفي أبريل 2024، وقعت واقعة شهيرة في مستشفى الزقازيق الجامعي حينما اقتحم عدد من ذوي المرضى قسم الطوارئ واعتدوا على الأطباء، ما أدى إلى توقف العمل لساعات.
هذه الحوادث ليست معزولة، بل تمثل سلسلة طويلة من الاعتداءات التي تتكرر بصورة شهرية تقريبًا، وفق ما تؤكده بيانات نقابة الأطباء.
قصور تشريعي وحماية غائبة
رغم المطالب المتكررة من نقابة الأطباء بضرورة إصدار تشريعات صارمة لتجريم الاعتداء على الأطباء ومنشآت الرعاية الصحية، فإن القانون المصري ما يزال عاجزًا عن توفير الحماية الفعلية.
وغالبًا ما يتم التعامل مع الاعتداءات باعتبارها "مشاجرات" عادية، تنتهي بالتصالح أو الغرامة البسيطة.
هذا القصور في التشريع جعل الأطباء عرضة للتهديد اليومي، ودفع بعضهم إلى الاستقالة أو الهجرة إلى الخارج، حيث تتوافر حماية قانونية ومجتمعية أفضل.
تداعيات نفسية ومهنية خطيرة
الاعتداءات لا تتوقف عند حدود الإصابة البدنية أو التهديد، بل تترك أثرًا نفسيًا عميقًا في الأطباء. يشعر كثيرون بأنهم يعملون في بيئة عدائية لا تحترم دورهم ولا توفر لهم أبسط ضمانات الأمان، ما ينعكس على أدائهم المهني وعلاقتهم بالمرضى.
وفي بعض الحالات، يرفض الأطباء العمل في أقسام الطوارئ أو المناطق الشعبية الأكثر عرضة للعنف، ما يؤدي إلى تراجع مستوى الخدمة الصحية في تلك المناطق، ويضاعف من معاناة المرضى الفقراء.
الحكومة بين التبرير والتقصير
الحكومة الانقلابية، ممثلة في وزارة الصحة، تكتفي غالبًا ببيانات إنشائية عن "عدم التهاون في حقوق الأطباء"، لكنها لم تقدم حتى الآن حلولًا ملموسة.
لم يتم تشديد القوانين بالقدر الكافي، ولم تُخصص قوات أمنية دائمة لحماية المستشفيات الكبرى، كما لم يتم تحسين ظروف العمل ولا الأجور التي تدفع الأطباء للاستمرار.
هذا التراخي الحكومي جعل من قضية الاعتداءات ملفًا متشابكًا يفضح خلل السياسات العامة، إذ تتحمل الدولة الجزء الأكبر من المسؤولية بسبب إهمالها الطويل في تطوير المستشفيات ورفع كفاءة المنظومة الصحية.
أزمة تعكس تآكل الثقة
الاعتداءات على الأطباء ليست مجرد جرائم فردية، بل مرآة لخلل عميق في العلاقة بين الدولة والمجتمع.
فحين يفقد المواطن الثقة في الخدمات، يوجه غضبه إلى الحلقة الأضعف: الأطباء. وحين تغيب القوانين الرادعة، يتحول الاعتداء إلى ظاهرة.
إن استمرار الوضع على هذا النحو ينذر بكارثة مزدوجة: هجرة متزايدة للأطباء من جهة، وانهيار ثقة المواطنين في المنظومة من جهة أخرى.
ولا سبيل للخروج إلا بقرارات جريئة: تطوير البنية الصحية، رفع الأجور، وتوفير حماية قانونية وأمنية صارمة للأطباء. بدون ذلك، ستظل المستشفيات المصرية ساحات للفوضى والعنف بدلًا من أن تكون أماكن للشفاء.