تشهد منطقة الإسكندرية منذ سنوات احتجاجات متكررة واستغاثات من مئات الصيادين الذين يعانون من قرارات حكومية مفاجئة تمسّ أرزاقهم بشكل مباشر. أبرز هذه القرارات تمثل في إغلاق ورش وتصاريح المراكب والسفن، وفرض قيود صارمة على ممارسات الصيد في البحيرات والمناطق البحرية، خصوصًا في بحيرة البردويل.

ما يُقدَّم على أنه "قرار مفاجئ" بشأن غلق أو تقييد عمل ورش صيانة المراكب في الإسكندرية، ليس حادثة منفصلة، بل استمرار لسلسلة سياسات أمنيّة وإدارية أضعفت صناعة محلية عمرها أجيال، وقطعت أرزاق آلاف العاملين والعمّال والصيادين.
 

سياسات متتالية: إغلاق، تقييد، وإهمال
هذه السياسة ظهرت بأشكال متعددة: وقف التراخيص، إغلاق الورش، تقييد توفير الوقود، وحملات أمنية يصاحبها إجراءات إدارية مشددة، دون أي تعويض أو بدائل واضحة.
 

متى بدأت القيود؟
أزمة الورش والترسانات البحرية في الإسكندرية ليست جديدة. قرار المحافظين وبعض الأجهزة الحكومية بوقف إصدار تراخيص للّنشات والسفن بدأ منذ عقود، وتحوّل إلى سياسة رسمية منذ أوائل الألفينات، تزامنًا مع قرارات محلية تقضي بوقف تراخيص اللنشات السياحية. هذا القرار تسبّب في تجميد نشاط التصنيع والتجديد في الورش.

وقد وثّقت تقارير صحفية شهادات من حرفيي الأنفوشي، أكدوا فيها أن غياب التراخيص والتضييقات الأمنية حوّلت النشاط إلى حالة شبه متوقفة.
 

حجم الضرر وعدد المتأثرين
منطقة الأنفوشي وحدها تضم عشرات الورش. تذكر مصادر صحفية وجود نحو 65 ورشة داخل مجمع واحد، بالإضافة إلى ما بين 20 و35 ورشة في مناطق مجاورة. ورشة واحدة قد توظف عشرات العاملين وتخدم عشرات المراكب.

حرائق وسنوات من الجمود أدت إلى خسائر مادية مباشرة بملايين الجنيهات. على سبيل المثال، حريق واحد خلّف خسائر تجاوزت مليوني جنيه، بينما تتكرر الحوادث دون تعويض أو حماية.

لكن هذه الأرقام تعكس فقط الخسائر المُعلنة، ولا تشمل خسائر الدخل المتواصل لعشرات الآلاف من الأسر التي تعتمد على الصيد وصيانة المراكب كمصدر دخل وحيد.
 

أرقام مؤلمة من بحيرة البردويل
بحيرة البردويل تُعد من أهم مناطق الصيد في مصر، ويعتمد عليها حوالي 3500 صياد بشكل مباشر.

  • في 6 و7 يناير 2025، اعتُقل خمسة صيادين في المنطقة.

  • القانون رقم 146 لسنة 2021 الخاص بحماية البحيرات يفرض غرامات من 10,000 إلى 100,000 جنيه، مع عقوبات بالسجن من 6 أشهر إلى سنتين للصيد في الفترات المحظورة.

  • في أكتوبر 2024، بدأت الحكومة مشروعًا تطويريًا في البحيرة دون استشارة أو تعويض للصيادين.

  • في الإسكندرية، سُجل حوالي 4000 صياد رسميًا عام 2021، مهددون الآن بفقدان عملهم بسبب قرارات إغلاق الورش ومرافق الصيانة.
     

القرار المفاجئ: ضربة قاضية للرزق
في 31 أكتوبر 2024، أعلنت حكومة السيسي أن "جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية" سيبدأ أعمال تطوير في بحيرة البردويل، وهو ما اعتبره الصيادون تهجيرًا قسريًا ومصادرة لأرزاقهم.

يمتلك حوالي 3500 صياد في البحيرة مصدر رزقهم الوحيد من الصيد، وقد سبق أن وُضعوا تحت طائلة القضاء العسكري بمرسوم رئاسي في 2019، ما حوّل أي خرق بسيط لقانون الصيد إلى قضية أمن قومي.

الصيادون عبّروا عن رفضهم لهذه السياسات، مؤكدين أن "التنمية الاقتصادية" المزعومة تعني، في واقع الأمر، إزاحة الصيادين وغلق ورشهم بقوة القانون، دون أي خطط لتعويضهم أو إعادة دمجهم في منظومة اقتصادية بديلة.
 

المحاكمات العسكرية: سلاح جديد ضد المدنيين
في يناير 2025، اعتقل جهاز شرطة عسكرية خمسة صيادين من بحيرة البردويل، وأُحيلوا لمحاكمات عسكرية بتهم تتعلق بالصيد في فترات الحظر.

المشكلة لا تكمن فقط في طبيعة التهم، بل في طبيعة المحكمة. فالمحاكمات العسكرية للمدنيين في مصر تُعرف بانتهاكها لحقوق الدفاع وعدم السماح بالإجراءات القانونية الكاملة، ما يجعلها أداة قمع لا وسيلة عدالة.
 

شهادات من الميدان: "قطعوا رزقنا"
الصيادون أعربوا بصراحة عن غضبهم:

"فوجئنا بقرار منعنا من النزول بمراكبنا، وإغلاق ورش الصيانة. تم قطع أرزاق أكثر من 200 أسرة"
"مش هنلاقي ناكل ولادنا"

هذه العبارات تتكرر في مقابلات ميدانية وتحقيقات صحفية، تعبّر عن شعور الصيادين بأن ما يجري هو عقاب جماعي لا يفرّق بين مخالف وغير مخالف، بل يعاقب المجتمع كله على خلفية سياسات أمنية لا علاقة لها بأرض الواقع.
 

الأسباب المعلنة... والمسكوت عنها
الحكومة تبرّر هذه الإجراءات بأسباب أمنية (مكافحة التهريب والهجرة غير الشرعية)، أو بيئية (حماية المخزون السمكي). لكن التنفيذ الفعلي يتم دون بدائل أو تعويض، وغالبًا ما يصدر بأوامر أمنية مباشرة، ما يجعل تلك السياسات تبدو كقرارات عقابية لا تنظيمية.

من ناحية أخرى، توجد أبعاد اقتصادية خفية: توقف التراخيص دفع إلى احتكار نشاط اليخوت السياحية، على حساب الصيد التقليدي، الذي بات يُنظر إليه كعبء أكثر منه موردًا شعبيًا يجب الحفاظ عليه.
 

من يتحمل المسؤولية؟
اللوم الشعبي يقع بشكل مباشر على الحكومة والأجهزة التنفيذية، التي تتخذ قرارات أمنية واقتصادية دون أي دراسات أثر اجتماعي أو حماية للفئات الأضعف.

الصيادون وأصحاب الورش طالبوا مرارًا بإلغاء قرارات وقف التراخيص، أو على الأقل تنظيم الورش وتحويلها إلى منشآت قانونية وآمنة، لكن الاستجابة الرسمية كانت غائبة تمامًا.
 

خاتمة:
ما يحدث في الإسكندرية وبحيرة البردويل ليس مجرد تضييق على مهنة، بل عملية تفكيك ممنهجة لقطاع اقتصادي شعبي عريق.
آلاف الأسر مهددة بالتشريد، ومهنة الصيد التي ورثها الأبناء عن الأجداد تواجه خطر الانقراض تحت وطأة قرارات أمنية، ومحاكمات عسكرية، وغياب أي نية حقيقية للإصلاح أو التعويض.

القرارات الأمنية لا يمكن أن تكون بديلًا عن السياسات الاجتماعية. وإن استمر هذا النهج، فإن الدولة تُحوّل قطاعًا كاملًا من المواطنين إلى عاطلين عن العمل وملاحقين قضائيًا... فقط لأنهم أصرّوا على الصيد لكسب قوت يومهم.