في الوقت الذي يعيش فيه المصريون واحدة من أسوأ الأزمات المعيشية في تاريخهم الحديث، خرج نقيب الفلاحين حسين أبو صدام بتصريح مثير للجدل، اتهم فيه بعض الجزارين بأنهم «يذبحون المواطنين» عبر رفع أسعار اللحوم بدلًا من ذبح العجول.
لكنه، في المقابل، تجاهل السبب الجوهري وراء هذا الغلاء، وهو السياسات الحكوميّة التي أرهقت المواطن ودفعت بأسعار الغذاء واللحوم إلى مستويات غير مسبوقة.
 

تجاهل المسؤول الحقيقي
تصريح أبو صدام بدا، وفق مراقبين، محاولة لتحويل الأنظار عن المسؤولية المباشرة لحكومة الانقلاب السيسي في انهيار قدرة المصريين الشرائية.
فبدلًا من أن يطالب وزارة الزراعة أو وزارة التموين بوضع خطط عاجلة لخفض الأسعار ودعم الإنتاج المحلي، اختار أن يحمّل المسؤولية لفئة من التجار، وكأنهم السبب الوحيد في الأزمة.
هذا الخطاب يعكس، بحسب خبراء، نمطًا متكررًا من إلقاء اللوم على حلقات وسيطة في السوق، بينما تُعفى السلطة التنفيذية من النقد، رغم أن سياساتها هي التي خلقت بيئة التضخم وفقدان السيطرة على الأسواق.
 

أزمة الغذاء المتفاقمة
بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تشير إلى أن معدل التضخم السنوي في قطاع الغذاء تجاوز 40% في الأشهر الأخيرة، في حين ارتفعت أسعار اللحوم الحمراء بنسبة تصل إلى 70% مقارنة بالعام الماضي.
هذه الأرقام الكارثية تُظهر أن الأزمة أعمق من مجرد «جشع بعض الجزارين»، بل هي نتيجة مباشرة لسياسات الاستيراد غير المدروسة، وانخفاض الإنتاج المحلي، وارتفاع تكلفة الأعلاف بسبب انهيار العملة، وغياب الرقابة الحكومية.
 

الخبراء يردون
الدكتور ممدوح الولي، الخبير الاقتصادي والرئيس السابق لمجلس إدارة الأهرام، أكد أن تصريحات نقيب الفلاحين «تغطي على السبب الجوهري للأزمة».
وقال: «حكومة الانقلاب تخلّت عن دورها في دعم المزارعين وتوفير الأعلاف بأسعار مناسبة، وهو ما رفع تكلفة الإنتاج، ثم تركت السوق بلا رقابة، فكان طبيعيًا أن ترتفع الأسعار بهذا الشكل الجنوني».

من جانبه، أوضح الدكتور رشاد عبده، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أن تحميل الجزارين المسؤولية وحدهم «تبسيط مخل».
وأضاف: «المشكلة الحقيقية تكمن في السياسات الاقتصادية الكليّة، بدءًا من تحرير سعر الصرف الذي ضاعف تكلفة الاستيراد، وصولًا إلى غياب استراتيجية واضحة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من اللحوم».

أما الباحث في الشؤون الزراعية عبد التواب بركات فانتقد بشكل مباشر تجاهل نقيب الفلاحين لدور السلطة، قائلاً: «من غير المعقول أن يتحدث أبو صدام عن جشع بعض التجار، بينما يعلم جيدًا أن انهيار قطاع الثروة الحيوانية سببه السياسات الحكومية، بداية من رفع أسعار الأعلاف وحتى إهمال دعم المربين».

ويشير مراقبون إلى أن مثل هذه التصريحات تأتي في إطار سياسة التخفيف عن النظام وإلقاء اللوم على التجار والوسطاء، بينما الحقيقة أن قرارات الحكومة الاقتصادية، وفشلها في ضبط الأسواق، هي التي دفعت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، وأفقدت ملايين الأسر القدرة على شراء اللحوم.
 

ردود فعل غاضبة
تصريحات أبو صدام أثارت استياء بين المواطنين الذين يرون أنها تعكس «انفصال النقابات الرسمية عن واقع الناس».

فالنقابة التي يُفترض أن تدافع عن مصالح الفلاحين والمستهلكين معًا، اختارت أن تهاجم شريحة صغيرة بدلًا من مواجهة حكومة الانقلاب السيسي التي تتحمل المسؤولية الكبرى.

كتب أبو عادل: «الا هو فايدته إيه.. ضد الفلاحين ولا معهم؟ شيكارة اليوريا بـ ١٤٠٠ جنيه.»

 

وسخر أستاذ مكرونة: «أمال الحكومة بتعمل إيه في الناس؟»

 

وأوضح رجب: «بني آدم رَمّى ولا ليك عازة.»

 

المواطن يدفع الثمن
اليوم، ومع وصول سعر كيلو اللحم إلى أكثر من 400 جنيه في بعض المناطق، لم تعد الأسر المصرية قادرة على تلبية أبسط احتياجاتها الغذائية.
المواطن البسيط الذي كان يعتبر اللحم وجبة أساسية في المناسبات لم يعد يجد إليها سبيلًا إلا نادرًا.
هذه المأساة لا يمكن اختزالها في «جشع جزار»، بل في منظومة فاشلة تقودها حكومة الانقلاب لا تعير اهتمامًا لحقوق الشعب في حياة كريمة.

بينما يواصل نقيب الفلاحين إلقاء اللوم على الجزارين، تظل الحقيقة واضحة: السياسات الحكومية برعاية قائد الانقلاب السيسي هي السبب الأساسي في موجات الغلاء التي تذبح المصريين يوميًا.
تصريحات أبو صدام ليست سوى محاولة لإبعاد الأنظار عن جوهر الأزمة، لكن وعي المواطنين وخبراء الاقتصاد يفضح هذا التلاعب.

الأزمة لن تُحل بخطاب دعائي أو اتهامات جزئية، بل بإصلاح جذري يبدأ من الاعتراف بمسؤولية السلطة عن تدمير الاقتصاد الزراعي وترك الأسواق نهبًا للمضاربين.