د. محمد عبد الله المطر

باحث كويتي في الفكر الإسلامي

أثار الدكتور أحمد موفق زيدان الكاتب الناشط المعروف، والمستشار الإعلامي للرئيس السوري أحمد الشرع، في مقالته المنشورة مؤخرا على موقع الجزيرة نت، سؤالا حاسما يعكس رؤية سياسية محددة بالدرجة الأولى، وفكرية بالدرجة الثانية، وهو: "متى ستحل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا نفسها؟" محولا بذلك قضية سياسية معقدة ذات جذور تاريخية وفكرية عميقة إلى خيار ثنائي صارم لا يراعي طبيعة مرحلة الانتقال الديمقراطي، ومقترحا حل الجماعة بوصفه الحل الوحيد واجب التنفيذ.

أَسْتند الدكتور أحمد في طرحه إلى منطق سليم قائم على المقدمات والنتائج؟ أم إنه بدأ بالنتيجة، ثم راح يبحث لها عن مبررات؟

لي مع هذا الطرح وقفات، أبدؤُها بما يلي:

 

أولا: الإخوان المسلمون جماعة ذات جذور عميقة

إن الحركات الاجتماعية ذات الجذور الفكرية والتاريخية العميقة مثل الإخوان المسلمين، الذين يمثلون تيارا فكريا إسلاميا مبنيا على أفكار الإمام حسن البنا، وشخصيات أخرى في سوريا كالشيخ مصطفى السباعي، والشيخ عصام العطار، والشيخ سعيد حوى، وغيرهم، فهذه شخصيات ثرية في بنائها الفكري والشرعي. وأدبياتها أثرت في أجيال كثيرة من شخصيات ومؤسسات في العالم.

والتجربة والنضال والتضحيات المقدمة لا يمكن أن تمحى بقرار إداري يتوج بعبارات عاطفية وشعارات عامة مثل: (قامت بواجبها، تجاوزها الزمن، جامدة، قيادات، ديناصورات… إلخ)، بل يكون ذلك من خلال آليات دستورية وقانونية تضمن المساءلة والشفافية داخل النظام السياسي، مستندة إلى قوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" (الشورى: 38)، الذي يؤكد الشورى أساسا للحكم الإسلامي الذي يجمع بين الدين والسياسة دون إقصاء، وتستند إلى المنظومة الديمقراطية المعاصرة التي تضمن الحريات الفكرية، والعملية السياسية.

وأما النهج الذي يفرض حل الجماعة وانصهارها الكامل بالدولة تحت راية حزب أحادي، فسيولد مشكلات ضخمة لم تتعظ بدروس التجارب السابقة، حيث أدى مثل هذا الإجراء إلى تعزيز التوترات بدلا من حلها في كثير من الدول.

كما يؤكد الواقع في تجارب قمعية كثيرة أن الفكر والعمل التنظيمي لا يمكن قمعه؛ فمهما جرت تصفيته سيعود للحياة بشخصيات جديدة وأساليب مختلفة، كما حصل في تجارب سابقة مثل عودة الإخوان بعد القمع الشديد في العهد الناصري، وعودة حركة النهضة وفوزها بعد عقود من قمع النظام العلماني المتطرف في تونس، والأمثلة كثيرة لا يسع هذا المقال ذكرها.

 

ثانيا: إرضاء القوى الدولية والإقليمية ليس معيارا للشرعية الوطنية

لوحظ من المقال أن هناك فكرة مركزية تسكن نفس الكاتب وربما يعبر عنها نيابة عن غيره، وهي أن حل جماعة الإخوان سينتج عنه مكاسب خارجية، وأما بقية الأفكار والملاحظات فهي مقدمات وضعها لتسعفه في الوصول للنتيجة التي يطمح إليها.

والسؤال للدكتور أحمد: لماذا يطرح مقترح "حل التنظيمات" كـ"ثمن" لرضا عواصم ومنظمات وشخصيات من الخارج؟! ألا يعيد ذلك إنتاج نموذج الوصاية الخارجية، حيث يقدم الأمن الإقليمي والعالمي على حقوق الداخل، مما يتعارض مع مبادئ السيادة الإسلامية.

في سوريا الجديدة يجب أن يكون معيار الشرعية الوطنية مبنيا على الالتزام بالقانون والدستور، والمنافسة الانتخابية العادلة، والاحتكام للقضاء الدستوري، لا الرضوخ لاشتراطات متقلبة.

ومن الخطأ النظر للأحزاب والجماعات على أنها منافس أو مناهض للدولة؛ فكل الديمقراطيات الحقيقية تقوم على تنوع الأحزاب ووجودها الذي يمنح شرعية للدولة، كما في تجارب أوروبا الغربية، حيث تعزز الأحزاب التنوع السياسي والاستقرار.

من الممكن والمنطقي تفهم المطالبة بـ"حل التنظيمات العسكرية والفصائل المسلحة"؛ لأنها تهدد السيادة، ولكن ما الحاجة إلى حل القوى المدنية؟! وبخاصة صاحبة التاريخ مثل الإخوان الذين ساهموا في النضال ضد الاستبداد منذ عقود؟

وهنا يبرز تعليق على أخطر عبارة في مقال الدكتور أحمد موفق زيدان: "ومن الذي أولى بتثبيت الحكم، أبناء سوريا وتنظيماتها، أم دول إقليمية ودولية هبت لدعم الدولة الوليدة؟!"

فالسؤال الأساسي: أَتُستمدُّ الشرعية الأقوى من الشعب ومكوناته الداخلية أم من قوى خارجية، خاصة أنها غير مضمونة وغالبا ما تفضي إلى فقدان السيادة، كما في أمثلة ما بعد الثورات في ليبيا وأفغانستان، حيث أدى الاعتماد على الدعم الخارجي إلى عدم استقرار.

 

ثالثا: أسطورة "الديناصور"

وصف الجماعة بـ"الديناصور" أمر غير متوقع من الدكتور أحمد، خاصة لتاريخه وأدبه وفهمه لتجربة العمل الإسلامي، وفيه إشكاليات عديدة، منها: عدم الدقة في الزعم بأن كل الجماعة في سوريا من كبار السن، ولا يليق أن توصف بالديناصورات رموز قدمت تضحيات كبيرة صونا لفكرها ومقاومة للمستبد، وعيشا في غربة عن الوطن لعقود طويلة، فقد أفنوا أعمارهم خارج أوطانهم حتى شابت لحاهم وضعفت صحتهم وعافيتهم. وإن سلمنا جدلا بذلك، فما الذي يضير من وجود تجمع من "ختيارية" في واقع سوريا وتوازناته؟!

 

رابعا: ما هي "الأساليب القديمة" المرفوضة تحديدا؟

للابتعاد عن التهم المطاطية، تُتناول هذه القضية كثيرا بطريقة عاطفية أو "شعاراتية" عامة دون تحديد موطن الخلل. فالأساليب القديمة لا تعني بالضرورة أنها سيئة أو منتهية الصلاحية، وأيضا من الخطأ تعميم بعض هذه الأساليب على جميع المنتمين للجماعة في كل زمان.

مع الإشارة إلى أن هذه الأساليب متفاوتة في تقييمها وتطبيقها بين الدول والقيادات بقناعاتها وتكوينها؛ فهي ليست قالبا واحدا، بل يمكن الحوار فيها، وترشيدها لتناسب السياقات الديمقراطية، فعلى سبيل المثال:

يتحول التنظيم إلى بيئة مفتوحة تشترط تسجيلا علنيا وحوكمة داخلية شفافة.

إذا تزامن النشاط التنظيمي مع تولي العضو مناصب مهمة في الدولة، يعالج ذلك بلوائح تضارب مصالح ومعايير استحقاق موضوعية.

تضبط لغة الخطاب الهوياتي المستقطب عبر ميثاق مواطنة يركز على دولة وطنية وحقوق متساوية.

يقنن التمويل بإفصاحات دورية وتدقيق مستقل من جهات رقابية على أموال الأحزاب.

يطور العمل نحو منع تداخل الدعوي والسياسي في الجماعة بفصل وظيفي ملزم: فتصبح جماعة مدنية مسجلة كمنظمة مجتمع مدني، وحزبا سياسيا مستقلا يخضع لقانون الأحزاب.

فهذه مجموعة من الإصلاحات الملموسة تمثل حصونا حامية أمام من يفرغ الساحة ويغري بالارتداد السلطوي، وتعتمد على مبادئ إسلامية مثل الشفافية والعدل.

 

خامسا: دروس من تونس والمغرب والسودان

تشير التجارب في تونس والمغرب والسودان إلى أن التنازلات السياسية من قبل الحركات الإسلامية، من دون ضمانات دستورية ملزمة، غالبا ما تؤدي إلى تراجع ديمقراطي لاحق، مما يؤكد أفضلية الإصلاح الداخلي على اللجوء إلى الحل الشامل للحركة، وفي ذلك بعض التفاصيل:

تونس: في نهاية 2013 تنازلت حركة النهضة عن الحكومة عبر "الحوار الوطني" لحماية المسار الديمقراطي وتمهيد الطريق لدستور جديد وانتخابات، مستلهمة من الفكر الإسلامي الوسطي الذي يؤمن بالتداول السلمي، وخففت لهجتها في كثير من المسائل الفكرية والتنظيمية والشرعية، لكن خصومها لم يزدادوا إلا طعنا وتحريضا، إلى أن قام الرئيس التونسي في 25 يوليو 2021 بتغيير المشهد السابق، ومن ذلك سجن الشيخ راشد الغنوشي رجل المرحلة بتسامحه في وقتها.

المغرب: تعرض حزب العدالة والتنمية لهزيمة مدوية في انتخابات 2021، خاسرا أكثر من 90% من مقاعده بعد عقد من المشاركة في الحكم، وربطت تحليلات واقعية كثيرة الانهيار بـ"التماهي" مع قرارات عليا حساسة، مثل التطبيع مع الكيان الصهيوني في ديسمبر 2020، ومع تنازلات أخرى فكرية وتنظيمية، ولكن لم يثبت جدواها.

السودان: وتجربة السودان توضح هذه المشكلة؛ فقد ابتعد حسن الترابي عن تنظيم الإخوان المسلمين، وقدم دراسات ولقاءات ناقدة للجماعة، كما في كتابه "الحركة الإسلامية في السودان"، ومع ذلك لم يسْلم من وصف "الأخونة". كذلك فإن الرئيس عمر البشير، الذي انفصل عن الجماعة منذ تسعينيات القرن الماضي، لم يتمكن من تجنب هذا الوصف، ولم يؤدِ ابتعادهما عن الإخوان إلى تعزيز النهضة أو الاستمرار في السودان، بل واجهت حكومتهما عدم رضا شعبي حتى بين المحافظين.

لذلك، بعد عرض هذه النماذج ليس الحل في مصادرة الحق في التنظيم؛ فالخلاصة العملية: التنازلات السياسية تفقد قيمتها إذا لم ترافقها منظومة ضمانات دستورية ورقابية تلزم الجميع، وإلا عاد ميزان القوى ليبتلع الطرف الأضعف في أول فرصة.

 

سادسا: أين الدليل على أن "الإخوان عائق للنظام الجديد"؟

الادعاء بأن الجماعة تشكل "عائقا" يتطلب أدلة محددة وموثقة:

ما المخالفة القانونية الملموسة؟

ما الضرر الأمني المباشر؟

ما الوقائع التي عطلت مؤسسات الدولة الوليدة؟

فمن دون ذلك يتحول الادعاء إلى حكم قيمي غير موضوعي. وفي تجارب قمعية كثيرة- منها العراق، وتونس، ومصر في مرحلة عبدالناصر- ثبت أن الحظر لم ينهِ الحضور الاجتماعي، بل فتح أبواب الاحتقان ودفع النشاط إلى الظل، مما يثبت الوجود بصورة مناهضة للدولة، وكانت هذه الجماعات المحظورة حاضرة بقوة بعد فترة منعها وقمعها، وفي التاريخ شواهد كثيرة.

 

سابعا: الفكر الإخواني بين الإسلام والسياسة

الجدير بالذكر أنه من الصعب الفصل بين وجهة نظر الكاتب زيدان وتلك الخاصة بالمؤسسة التي يرتبط بها، مثل الرئاسة أو الهيئات الرسمية، إذ قد تعكس الدعوة لحل الجماعة أجندات سياسية أوسع، كما في مقاله الأخير الذي يدعو لحل الإخوان كشرط للاستقرار.

والجواب على فكرة "الحاجة للوجود" التي طرحها الدكتور زيدان في مقاله أن الإخوان المسلمين، كفكر مبني على الإسلام، يمتلكون منظومة تفكير وتنظير خاصة بهم، يتفقون فيها مع غيرهم أو يختلفون، ولا يعني ذلك أنهم غير ملتزمين بالعمل للدين؛ بل قد يعمل غيرهم للدين بصورة أفضل أو مختلفة، لكن الحل الشامل يعني تفكيك فكر وسطي يسعى للعمل بحرية ضمن الإطار الديمقراطي.

كما يعد الإخوان تيارا معتدلا يوازن بين المكونات السنية في وجهات نظرها المتباينة عقديا ومذهبيا وسياسيا.

وقد وقف الإخوان مع الثورة السورية ضد نظام الأسد، ولعبوا دورا رئيسيا في الاحتجاجات منذ 2011، وكان مشهودا لهم بتنظيم المعارضة رغم القمع السابق، وكانوا جزءا من تاريخ النضال ضد الاستبداد منذ السبعينيات؛ فهم جزء من هذا التاريخ، مما يجعل تقييم "الأساليب القديمة" أو "أخذ الفرصة" بحاجة إلى نهج علمي موضوعي- لا عبارات عامة عاطفية- مدعوم بدراسات مقارنة لتجنب التحيزات.

 

ثامنا: موقف الإخوان المسلمين في سوريا من النظام الحالي

أما هدف الإخوان وكل الأحرار فهو بقاء سلطة النظام الحالي بعيدا عن تقييم حالته ورموزه، ولكن لكونه أكثر حرية من السابق وأقرب إلى الدين إلى الآن، فهم ليسوا خصوما له، بل شركاء في تعزيز الاستقرار عبر الفكر الوسطي.

وأيضا، بالمقابل، من مصلحة النظام بقاء الإخوان، كونهم يمثلون الفكر الوسطي الذي يوازن بين المكونات السنية في وجهات نظرها المتباينة في العقيدة والمذهبية والنظر للسياسة، مما يمنع التطرف ويعزز الوحدة الوطنية، وخاصة مع التناحر والفتن الحالية التي تستهدف الحالة الدينية في سوريا، بمختلف أنواع التطرف وصورها وتقابلاتها.

لذلك، للدكتور أحمد موفق زيدان ومن يحمل فكرته، مهما كانت نواياهم وأهدافهم التي نحسن الظن بها: يرجى التريث والتحقيق في هذه القناعة؛ فربما تنكشف أحداث واقعية تبين عدم صحتها.