في خطوة قضائية غير مسبوقة على مستوى أوروبا، أصدر قضاة تحقيق فرنسيون مذكرات اعتقال أوروبية بحق سبعة من كبار المسؤولين السابقين في سوريا، من بينهم رئيس النظام المخلوع بشار الأسد، على خلفية جريمة استهداف مركز صحافي في مدينة حمص عام 2012.
وتأتي هذه الخطوة بعد سنوات طويلة من العمل القضائي والحقوقي، في إطار ما تسمح به القوانين الفرنسية من ملاحقة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية داخل محاكمها، حتى لو وقعت خارج الأراضي الفرنسية.
 

استهداف متعمد للصحافة الحرة 
القضية تعود إلى 22 فبراير 2012، حينما سقط صاروخ على "المركز الصحفي غير الرسمي" في حي بابا عمرو بمدينة حمص، والذي كان يمثل نافذة الإعلام الحر لنقل معاناة المدنيين تحت حصار قوات النظام.
وأسفر الهجوم عن مقتل الصحافية الأميركية الشهيرة ماري كولفين، والمصور الفرنسي ريمي أوتليك، فيما أصيب عدد آخر من الصحافيين الأجانب والمترجمين.
وبحسب التحقيق القضائي الفرنسي، فإن الهجوم لم يكن عملاً عشوائياً، بل جرى بشكل متعمد بهدف إسكات التغطية الإعلامية التي فضحت جرائم النظام ضد المدنيين خلال تلك المرحلة الحرجة من الحرب.
 

اتهامات واضحة بجرائم حرب
منظمة الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان أكدت أن المسؤولين السبعة متورطون في التواطؤ بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكونهم شاركوا في التخطيط أو إعطاء الأوامر لاستهداف المركز الإعلامي.

كما أوضح المركز السوري للإعلام وحرية التعبير أن التحقيقات أثبتت بوضوح أن استهداف الصحافيين كان جزءاً من سياسة ممنهجة اتبعها النظام السوري لإرهاب الإعلاميين وإجبارهم على مغادرة البلاد.

وقال المحامي مازن درويش، المدير العام للمركز، في بيان إن "استهداف المركز الإعلامي في بابا عمرو كان جزءاً من سياسة صريحة تقوم على مطاردة الصحافيين الأجانب ومنعهم من نقل الحقيقة، وهو ما يشكل جريمة حرب موصوفة وفق القانون الدولي".
وأضاف: "معركة العدالة لضحايا نظام بشار الأسد لم تنته، ونأمل أن تفتح هذه المذكرات الطريق نحو عدالة انتقالية حقيقية في سوريا".
 

البعد القانوني والسياسي
تمثل هذه المذكرات الأوروبية رسالة قوية بأن الإفلات من العقاب لن يستمر إلى الأبد، حتى مع مرور أكثر من عقد على ارتكاب الجرائم.
فالقانون الفرنسي يتيح ملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية أينما كانوا، ما يعني أن بشار الأسد، ومسؤولي أجهزته الأمنية والعسكرية، باتوا رسمياً مطلوبين للعدالة الأوروبية.
ووفقاً لمصادر قضائية، فإن المذكرات صدرت في يوليو 2025، وهي قابلة للتنفيذ فور دخول أي من المتهمين إلى أراضي الاتحاد الأوروبي، ما يشكل ضغطاً سياسياً متزايداً على روسيا، التي تؤوي الأسد منذ هروبه إليها في ديسمبر 2024 بعد انهيار نظامه تحت ضربات المعارضة السورية.
 

سقوط نظام الأسد وهروبه إلى روسيا
التحول الدراماتيكي في مسار الأحداث السورية جاء مع الهجوم الخاطف للمعارضة المسلحة أواخر 2024، الذي أدى إلى سيطرتها الكاملة على دمشق ومناطق واسعة من البلاد، منهياً حكم عائلة الأسد الذي استمر لأكثر من خمسة عقود.
ووفقاً لتقارير حقوقية، فقد فر بشار الأسد إلى روسيا محمّلاً بأسرار الدولة وملفات حساسة، في مشهد اعتبره السوريون بمثابة إغلاق لصفحة سوداء من تاريخهم الحديث.
 

العدالة المؤجلة
رغم أن العدالة جاءت متأخرة لأرواح الصحفيين الذين فقدوا حياتهم في حمص، إلا أن مذكرات الاعتقال الأوروبية تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من المحاسبة.
فهي لا تستهدف الأسد وحده، بل تشمل رموزاً من الأجهزة الأمنية والعسكرية التي كانت العصب الرئيسي لآلة القمع والقتل، ما يضعهم جميعاً في دائرة الملاحقة.
 

رسالة للعالم
إصدار مذكرات الاعتقال يمثل لحظة فارقة في مسار العدالة الدولية، ورسالة واضحة بأن الجرائم ضد الصحافيين والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
كما يثبت أن ثمن الجرائم التي ارتكبها النظام السوري سيدفع عاجلاً أو آجلاً، حتى لو طال الزمن.
وبينما يحاول الأسد الاحتماء بروسيا، فإن ملفات الجرائم الموثقة تظل تلاحقه، وتؤكد أن معركة الشعب السوري نحو العدالة لم تنته بعد، وأن الحقيقة لا يمكن طمسها بالقوة إلى الأبد.