لم تعد مسألة استيراد الغاز الإسرائيلي إلى مصر مجرد اتفاق اقتصادي عابر، بل تحولت إلى واقع يومي يلاحق المصريين في طعامهم وشرابهم وأماكن عملهم وحتى في إنارة بيوتهم.

فبموجب الصفقة الضخمة التي أُعلن عنها مطلع أغسطس الجاري بقيمة 35 مليار دولار، ستتدفق كميات هائلة من الغاز الإسرائيلي إلى السوق المصرية حتى عام 2040، وهو ما يعني أن ملايين المصريين سيستهلكون يومياً غازاً قادماً من حقول يصفها خبراء بأنها "منهوبة من الفلسطينيين"، سواء في إعداد وجباتهم الشعبية أو تشغيل مصانعهم أو إنارة مدنهم.
 

الغاز في "ساندويتش فول وطعمية"
المواطن البسيط الذي يتناول "ساندويتش" فول أو وجبة كشري في أحد مطاعم القاهرة أو الإسكندرية، قد لا يدرك أن اللهب الذي أعد به طعامه ربما يكون مصدره الغاز المستورد من حقلي ليفياثان أو تمار في شرق المتوسط، واللذين تسيطر عليهما إسرائيل.
حتى صاحب المحل نفسه لا يعرف على وجه الدقة مصدر الغاز الذي يشعل أفرانه، فشبكات التوزيع باتت معقدة ومتشابكة، لكن المؤكد أن جزءاً كبيراً من هذا الغاز يأتي عبر الأنبوب الإسرائيلي الممتد إلى الأراضي المصرية.
 

من المنازل إلى المصانع الكبرى
الأمر لا يقتصر على المخابز والمطاعم، بل يمتد ليشمل قطاع الطاقة والصناعة. تشغيل أجهزة التكييف أو المصابيح أو مواقد الطهي في بيوت المصريين قد يعتمد اليوم على غاز إسرائيلي يغذي محطات الكهرباء.
وعلى نطاق أكبر، مصانع الأسمنت والأسمدة والحديد والسيارات والبتروكيماويات المنتشرة في مدن صناعية مثل السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان وبرج العرب ونجع حمادي، تعتمد بشكل متزايد على الغاز المستورد.
وقد شهدت هذه المصانع توقفاً عن الإنتاج في أوقات سابقة عندما أوقفت إسرائيل التصدير مؤقتاً، لا سيما خلال الحرب الأخيرة مع إيران في يونيو الماضي أو المواجهات مع حزب الله.
 

من الاكتفاء الذاتي إلى العجز
قبل سنوات قليلة، كانت الحكومة المصرية تبشر المواطنين بأنها حققت "الاكتفاء الذاتي من الغاز" مع اكتشاف حقل ظُهر العملاق.
لكن الواقع الحالي يكشف صورة مغايرة:

  • عجز يقدر بـ 45% في احتياجات الغاز.
  • تغطية العجز عبر 30% من الغاز المسال المستورد و15% من الغاز الإسرائيلي عبر الأنابيب.
  • تراجع إنتاج حقل ظُهر بشكل حاد.
  • انقطاع الكهرباء وتوقف مصانع كبرى عند أي تعثر في تدفق الغاز الإسرائيلي.
     

الأمن القومي في مهب الريح
صفقة الـ 35 مليار دولار، التي تشمل توريد 130 مليار متر مكعب من الغاز بين عامي 2026 و2040، أثارت انتشاءً في الأوساط الإسرائيلية.
فقد صرح وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين بأن الاتفاق الأخير "يثبت اعتماد جيران إسرائيل عليها"، في إشارة واضحة إلى مصر.
هذا الاعتماد المتزايد يضع مصر، بحسب خبراء، في "مصيدة الغاز الإسرائيلي"، إذ باتت قطاعات حيوية كالكهرباء والصناعة مهددة بالشلل في حال توقف الضخ من تل أبيب.
 

بين الرواية الرسمية والواقع
على مدى سنوات، رُوِّج للمصريين أن الغاز الإسرائيلي سيُعاد تصديره عبر مصر إلى أوروبا، في إطار خطة تحويل القاهرة إلى "مركز إقليمي للطاقة".
غير أن الوقائع تكشف أن جزءاً كبيراً من هذا الغاز يُستهلك محلياً، سواء بشكل مباشر في بيوت المصريين أو في المصانع.