بقلم: وائل قنديل
وسط ضجيج "الحرب" في "تيك توك"، وهستيريا الصراخ الخائف من هدم الوطن، لأن مجموعات صغيرة من الناس وقفت أمام سفارات مصرية تطالب بإنهاء سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على معبر رفح، لم تصل صرخات استغاثة وزراء وسفراء سابقين، ومعهم علماء وسياسيون، من الموت تنكيلاً وقهراً وقمعاً، داخل سجن بدر، إلى مسامع الذين قرّروا أن الإسلام السياسي متحالفٌ مع العدو الصهيوني ضدّ الدولة المصرية.
لم يُنتبه إلى استغاثات المقبلين على الانتحار الجماعي بعد أن فقدوا الأمل في قليل من العدل والإنسانية والرجولة في الخصومة السياسية، إلا نبلاء، من اليسار واليمين، أدركوا أن الخلاف في الفكر والتوجّه لا يؤدّي، بالضرورة، إلى التواطؤ مع الإقصاء والإلغاء والإعدام لفصيل سياسي، كان (ولا يزال) من طمي التركيبة الاجتماعية والسياسية لهذا البلد، لكنّه وجد نفسه وقد تحوّل فجأةً مجمّع شرور العالم، والمسؤول الوحيد عما لحق به من كوارث.
"حياتكم في أيدينا، وعيالكم ونسوانكم معنا"، كانت تلك اللغة الجديدة كلّياً التي سمعها النائب والطبيب محمّد البلتاجي، وخيرت الشاطر، وجهاد الحدّاد، التي وصلت بالضرورة إلى 58 سجيناً محروماً من الشمس والهواء، منهم السفير رفاعة الطهطاوي، والوزير باسم عودة، وعبد الله شحاتة، إن لم ينهوا إضرابهم عن الطعام. تهديد قيادات الأمن الوطني جاءت مزيجاً من الإرهاب باستهداف عائلاتهم والسخرية من حالهم، لأن أحداً من القنوات الفضائية أو المنظمات الحقوقية الدولية سيهتم بهم.
لم تلفت هذه المأساة المستمرّة منذ عدة أسابيع أنظار أحد من الذين وجدوا في تظاهر مجموعة من فلسطينيّي الداخل، أمام سفارة الحكومة المصرية لدى الكيان الصهيوني، فرصةً رائعةً للتخلّص من عقولهم الثورية المنهكة، وتثبيت أحذية ثقيلة مكانها، تسمح لهم، من دون أدنى قشعريرة خجل، بالصياح مع الصائحين أن جماعة الإخوان المسلمين صهيونية، وأن نتنياهو مرشدها الأعلى، وأن الإسلام السياسي في عمومه صناعة صهيونية، بدليل أن أعضاء من الحركة الإسلامية في فلسطيني الأراضي المحتلة العام 1948 شاركوا في وقفة بالقرب من سفارة النظام المصري في تل أبيب، وظهور أعلام الاحتلال في المكان، رفعها مستوطنون صهاينة، جاءوا لاستهداف فلسطينيي الداخل.
كانت اللقطة كافية تماماً لبعث الروح الفاشية المكارثية في أولئك الذين احترفوا تلفيق كلّ نقيصة لتيّار الإسلام السياسي، لتجد نفسك أمام سردية مقلوبة، تنتحل فيها قطعان "المتصهينين العرب" صيحات الجهاد ضد جماعة الإخوان "الصهيونية"، ويسايرهم بعض الذين كنّا نظنّ أنهم يحتفظون ببقايا عقول وضمائر، فيسحبون مشهد السفارة في تل أبيب على مشروع الإسلام السياسي كلّه، بحاضره وماضيه ومستقبله.
في لحظةٍ قرّر كثيرون السباحة مع تيّار من الابتذال الجاهل، المُؤسَّس على أكاذيب وافتراءات لا تصمد أمام أيّ تفكير بشيء من العقل، أو تذكّر بما جرى قبل أكثر من 12 عاماً، حين أقيمت الأفراح في الكيان الصهيوني احتفالاً بإطاحة رئيس ينتمي إلى الإسلام السياسي في مصر، فضلاً عن عشرات التصريحات الرسمية وغير الرسمية، الصادرة من الكيان، التي تؤكّد الحضور الإسرائيلي البارز في الانقلاب على الحكم في مصر، وهذه شهادة آفي ديختر (عضو الكنيست والرئيس السابق لجهاز الشاباك الإسرائيلي)، في كلمته في احتفال بعيد حانوكا اليهودي (ديسمبر/ كانون الأول 2015)، معلناً أن إسرائيل أنفقت المليارات لإنهاء حكم الرئيس القادم من جماعة الإخوان المسلمين، أو تصريح السفير الصهيوني بالقاهرة لوكالة أسوشيتد برس: "هذا من أفضل أوقات التعاون بين مصر وإسرائيل... هناك تعاون جيّد بين الجيشين، ولدينا تفاهمات حول سيناء".
الجنرال عبد الفتاح السيسي شخصياً يروج نفسه لدى الغرب وجماعات الضغط الصهيونية الشخص الذي خلّص المنطقة من الإسلام السياسي المعادي للتطبيع، والمعوق لمسار السلام كما رسمته واشنطن وتل أبيب، حتى وصل به الأمر في يناير 2019 أن قال في حوار مع "سي بي أس" إن التعاون بين القاهرة واسرائيل في أعلى مستوياته، حين طرح عليه المذيع هذا الأمر، فردّ: "هذا صحيح… لدينا تعاون واسع النطاق مع الإسرائيليين".
ذلك كلّه سقط من ذاكرة أولئك الذين قفزوا في قطار الوطنية الملوّثة، الذي يعمل بالغاز الطبيعي المستورد من الكيان الصهيوني، فلم يزعجهم أن تكون هناك سفارة تحمل اسم مصر عند كيان يحتلّ مساحات في ثلاث دول شقيقة، ويهين الكرامة الوطنية عند المعابر، ويتمتّع في الوقت نفسه بوضعية الشريك التجاري الأول مع الحكومة المصرية.
أهو العمى الأيديولوجي والرغبة الإقصائية المجنونة؟ أم هو الخوف من طوفان الوطنية الفاسدة الذي يضع رؤوس الحيوانات فوق جثث الناس، ورؤوس الناس فوق جثث الحيوانات، في زمن الحقّ الضائع، كما قال صلاح عبد الصبور؟