حرب نتنياهو أم ترامب؟
الاثنين 23 يونيو 2025 01:00 م
بقلم: رغيد عقلة
كان المشهد العام في قصر اليمامة بالرياض يوم 14 مايو/ أيار 2025 مُبشِّراً ويدعو إلى التفاؤل، فرئيس أقوى دولة في زيارةٍ غير عاديّة إلى الشرق الأوسط، للمرّة الأولى لا تشمل إسرائيل، تبدأ في عاصمة الدولة العربية الأكثر أهميةً اليوم، تتبعها زيارتين إلى شقيقتين خليجيتين، وتتخلّلها تفاهمات واتفاقات تجارية بأرقام فلكية، يُفترض أنها تصبّ في مصلحة الضيف والمضيفين، وتفتح الطريق لترسيخ شكل الشرق الأوسط الجديد، بشراكة كاملة مع الولايات المتحدة، عنوانها الرئيس التنمية والمصالح التجارية، ليس ببعدها المالي الاقتصادي فقط، بل أيضاً رافعة لإيجاد حلول سياسية لأزمات المنطقة المستعصية، وما أكثرها، بدايةً بأم القضايا على مستوى العالم، لا المنطقة، القضية الفلسطينية، التي تنتقل من حائط مسدود إلى آخر، بفعل تعنّت اليمين السياسي الإسرائيلي ممثّلاً بنتنياهو، المرتهن بالكامل لليمين الديني الذي يتحكّم بمصير حكومته المتأرجح، الأمر الذي قد يستطيع التناغم الشديد بين الرئيس ترامب وولي العهد السعودي محمّد بن سلمان أن يحدث فيه انفراجةً ما، تلبّي احتياجات إسرائيل الأمنية كلّها، وفي الوقت نفسه، تحقّق (ولو ضمن الحدود الدنيا) المطلب الفلسطيني والعربي والدولي الملحّ: حلّ الدولتَين، الذي يحظى بدعم أممي. وأكّدت السعودية، بمنتهى الوضوح وفي أكثر من مناسبة، أن قضية التطبيع مع إسرائيل، التي ساد اعتقاد بأنها قاب قوسين أو أدنى، مشروطة به، وبالمطلق.
حتى المشهد السوري المعقّد، الذي ربّما ازداد تعقيداً مع سقوط نظام الوريث البائد، بعودة سورية، بل المنطقة كلّها، إلى لعبة صراع نفوذ لطالما أرهقتها عقوداً طويلةً، ها هو يدخل منعطفاً جديداً غير مسبوق، تمثّل في الانفتاح الأميركي (بضمانات سعودية) على القيادة السورية الجديدة، على أن تلتزم بدورها بشكل قاطع، وبضمانة شخصية من بن سلمان، تنفيذ طلبات أميركية محدّدة، بعضها مُعلَن، وكثير غير ذلك، مقابل إعلان ترامب (بإخراج فنّي مبالغ فيه) البدء في رفع العقوبات عن سورية تمهيداً لإلغائها، ليُتوَّجَ ذلك كلّه بلقاء جمع الرئيس ترامب وولي العهد السعودي بالرئيس السوري أحمد الشرع، وبحضورٍ هاتفي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، برغبة من ترامب نفسه.
ما شاهده وسمعه العالم كان يوحي فعلاً بالتفاؤل المُبرَّر، وإن بشكل مبالغ فيه، إلا أن لاعباً وحيداً لم تشمله بهجة الحدث الأميركي العربي، إنه نتنياهو، وربّما بدرجة أقلّ أحد مضيفي ترامب الخليجيين، الذي ما انفكّ يساير مجريات الأمور، من دون استمتاع حقيقي بها.. عن رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد نتحدّث، فموقفه وبلاده من الإسلام السياسي، بمسمّياته ومخرجاته كلّها، واضح ولا يحتمل تفاسير وتآويل، لا يغيّر في ذلك حقيقة أن عاصمته أبوظبي استقبلت الرئيس الانتقالي الشرع، واحتضنت لقاءات له على مستوىً عالٍ مع مسؤولين إسرائيليين في مواقع حسّاسة، الدور الذي لطالما برعت به أبوظبي، منذ أيام الأسد الهارب، ولن يغيّر في موقف أبوظبي أيضاً أن الشرع يحاول أن يزاوج بين دورَين متناقضَين، فدولياً وعربياً هو يحاول الخروج من عباءة الإسلام السياسي بصيغته الجهادية السلفية، وداخلياً لا يزال نهج إدارته (المؤقّتة، وبعض قراراتها وتعييناتها)، يسير باتجاه مغاير.
القصّة مع نتنياهو مختلفة، فهو يملك جملة من الأسباب تدفعه إلى التوجّس الشديد من حدث الرياض اللافت، ويعلم أن التقارب الشديد بين واشنطن والرياض، مدعوماً بالعلاقة الخاصّة جدّاً لترامب (وأبنائه) ومحمّد بن سلمان، قد يفضي إلى اقتناع ترامب بتبنّي حلّ الدولتَين الذي تصرّ عليه الرياض، ولو ضمن صفقة قد تكون مجحفة جدّاً للفلسطينيين، وتميل بشدّة لصالح إسرائيل، فنتنياهو محيط تماماً برغبة الرئيس ترامب الشديدة في دخول التاريخ باعتباره الوحيد القادر على وضع حلّ لأم القضايا، التي لطالما شغلت بلاده وحليفتها الأقرب إسرائيل والعالم، ويطمح إلى إنهاء حالة الحرب في أوكرانيا معتمداً على علاقة خاصّة تربطه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وخيارات محدودة للرئيس فولوديمير زيلينسكي، حتى إن ترامب لم يخفِ طموحَه في الحصول على جائزة نوبل للسلام. هذه أمور يأخذها نتنياهو بمنتهى الجدّية، فهو بكلّ بساطة غير مستعدّ لدفع أثمان طموحات ترامب التي يدركها جيّداً، خاصّةً أنه واليمينَين السياسي والديني الإسرائيليَين قد وطَّنوا أنفسهم بعد مضاعفات طوفان غزّة على أن حلّ الدولتَين صار شيئاً من الماضي، وأنهم غير مستعدّين لمناقشته حتى نظرياً، أمّا في سورية، فهو لا يزال غير مرتاح لوجود فصائل الإسلام الراديكالي المسلّحة قرب الحدود، التي تستطيع في أيّ وقت أن توجّه سلاحها باتجاه بلاده، وهو في الوقت الذي قد يثق بميكيافلّية الشرع وقدرته على إعادة تدوير نفسه بمظهر جديد، إلا أنه لا يثق في قدرته على ضبط كلّ الفصائل المحيطة به، ومن هنا كان إصراره على أن يكون التنسيق الوحيد المتاح معه ذا طابع أمني استخباري، رغم إعلان بلاده أخيراً أنها منفتحة على مباحثات سياسية مع سورية، يضاف إلى ذلك كلّه الشعور العام الذي خلّفه حراك الرئيس ترامب في المنطقة، ويوحي بأن إسرائيل التي ستبقى دوماً في صميم اهتمامات الغرب، ولكنّها لم تعد المحور الوحيد (ربّما) ولا الأكثر أهمية، الذي يبني عليه سياساته الشرق أوسطية.
لا يحتاج نتنياهو إلى أدلةٍ كثيرة ليعلم أن شيئاً أساسياً قد اختلف، لا في علاقته بترامب فحسب، وقبله جو بايدن وباراك أوباما، بل بعلاقة إسرائيل بالولايات المتحدة عموماً، وإذا كان عدم استثناء الرئيس ترامب لإسرائيل من تعرفاته التجارية الجديدة، رغم أن إسرائيل ألغت كلّ الرسوم التي تفرضها على البضائع الأميركية، ليس بمؤشّرٍ كافٍ على طريقة تعامل غير مسبوقة من واشنطن، فإن الطريقة التي استُدعي فيها للقاء الرئيس ترامب في إبريل 2025، والطريقة التي تحدّث بها ترامب معه أمام الصحافيين في المكتب البيضاوي، والطلب الصريح منه بعدم ارتكاب (خطوات مجنونة) بمواجهة تركيا في سورية، وأن يعود إليه في حال وجود مشاكل معها هناك، وأن علاقته الخاصّة بالرئيس التركي أردوغان قادرة على حلّها... ذلك كلّه لم يكن سوى مؤشّراتٍ غير مسبوقة لجوّ عام لم يعتده نتنياهو في واشنطن، وهو الخبير بدهاليزها ومناخاتها، ولن يسعده على الإطلاق أن الولايات المتحدة للمرّة الأولى موجودة في المنطقة لتقلع شوكها بيدها، وتخوض في ملفّات إقليمية معقّدة، سورية في مركزها، من دون أن تكون إسرائيل هي محورها الأكثر أهميةً وربّما الوحيد، وأن انفتاحاً استخبارياً على مستوىً عالٍ جدّاً لكلّ من لندن وواشنطن على إدارة الشرع هو أمر يتعارض، ليس مع إسرائيل نتنياهو فقط، بل مع إسرائيل الدولة العميقة أيضاً، ولذلك فهي لن تسمح به.
كانت المؤشّرات كلّها واضحةً إلى أن نتنياهو دون غيره بحاجة إلى قلب أوراق اللعبة على الجميع. ومن هنا، قد يكون التوقيت اللافت لعمليته العسكرية، التي يعتقد أنها ستفرض على الجميع، بمن فيهم شريكه الأميركي، إعادة ترتيب أوراقه. صحيح أن القدرات النووية الإيرانية ما برحت تشكّل كابوساً مرعباً لإسرائيل، استطاع نتنياهو من خلاله رغم كلّ مشاكله السياسية والقانونية أن يعيد دوماً إنتاج نفسه على أنه الزعيم الإسرائيلي الأقدر على التعامل مع تلك القدرات بصرامة وجدّية، وكان ذلك العنوان الأبرز لكلّ حملاته الانتخابية، وصحيح أيضاً أن القضاء على هذه القدرات كان (وسيبقى) دوماً هدفاً رئيساً له ولحكومته، بل ولأيّ حكومة إسرائيلية، إلا أن هناك أيضاً أمراً غايةً في الأهمية، لا يلاحظه كثير من المحلّلين، يتعلّق بطبيعة الخطر النووي الإيراني على إسرائيل والمنطقة وحقيقته، فهو وإن كان (وسيبقى) دوماً كذلك، لكنه في الوقت نفسه يعطي إسرائيل ذريعةً تستطيع من خلالها قلب أوراق اللعبة على اللاعبين جميعاً، ما دامت قدراتها العسكرية والاستخبارية والسيبرانية بتقنيّاتها المتقدّمة جدّاً تستطيع أن تحتويه ضمن حدود معينة لا تسمح (لا تل أبيب ولا المجتمع الدولي) لإيران بتجاوزها. ومن هنا، فإن خطر صواريخ إيران الباليستية، الذي أثبتته مجريات المواجهات القائمة اليوم، قد يكون في مستوى الخطر النووي، ليس لانخفاض تكاليفها المالية والتقنية فقط، وإنما لانخفاض الكلفة السياسية لاستخدامها، ومن هنا، يعتقد كاتب هذه السطور أنها الموضوع الأكثر تعقيداً في المفاوضات الأميركية الإيرانية.
رغم أن هناك من يعتقد أن الاختلافات بين ترامب ونتنياهو ليست سوى عملية تبادل أدوار أوقعت طهران في فخّ عدم توقّع توقيت الضربة الإسرائيلية، ورغم وجود أسباب عديدة تبرّر هذا الاعتقاد، إلا أن ذلك (وإن كان صحيحاً) لا ينفي حقيقة اختلاف الموقفين الأميركي والإسرائيلي من الضربة، سواء لجهة توقيتها أو مفاعيلها السياسية، وإن كانت ستضع الرئيس ترامب اليوم في موقع الأقدر على الاستفادة منها، سواء في سعيه لإعادة الإيراني إلى طاولة المفاوضات بوضع أضعف وشروط أصعب، أو لجهة إدارة علاقته مع نتنياهو في ملفّات إقليمية عديدة، ستشمل القضية الفلسطينية والوضع السوري.