الإسكندرية، المدينة الساحلية العريقة التي تُلقب بعروس البحر المتوسط، تواجه خطرًا حقيقيًا بالغرق بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر الناتج عن التغير المناخي العالمي، ووفقًا لخبراء الجيولوجيا وعلماء الطبيعة، فإن هذه الظاهرة قد تؤدي إلى غرق أجزاء واسعة من الساحل المصري خلال العقود القادمة، مما يهدد البنية التحتية والسكان والاقتصاد الوطني.
هذا التهديد لم يعد محض تكهنات، بل تؤكده تقارير علمية صادرة عن مؤسسات دولية مثل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) التي ذكرت في تقريرها الصادر في أغسطس 2021 أن منسوب البحر قد يرتفع بما يصل إلى متر بحلول عام 2100 إذا استمرت انبعاثات الكربون بالمعدلات الحالية.
وفي الحالة المصرية، تشير بيانات المركز القومي لبحوث المياه إلى أن مستوى سطح البحر ارتفع بمعدل 3.2 ملم سنويًا خلال العقود الأخيرة، مع تحذيرات من تسارع هذا المعدل.
تشير دراسات حديثة إلى أن ارتفاع مستوى البحر قد يصل إلى 30 سم بحلول عام 2050، مما سيؤدي إلى فقدان مساحات شاسعة من الأراضي الساحلية في مصر، لا سيما في منطقة رأس الحكمة والعلمين.
تقرير صادر عن خبراء جيولوجيا في 2023 أكد أن هذه المناطق معرضة للغمر إذا لم تُتخذ تدابير عاجلة للحماية الساحلية، ومع ذلك، لم تُعلن الدولة عن أي خطة استراتيجية واضحة أو استثمار جدي في مشاريع الحماية من الفيضانات البحرية، رغم أن تكلفة هذه المشاريع أقل بكثير من الخسائر المحتملة
تصريحات تحذيرية
العلماء والمختصون أطلقوا عشرات التحذيرات التي قوبلت بالتجاهل من قبل نظام عبد الفتاح السيسي، الدكتور فاروق الباز، العالم المصري المعروف، صرح في أكثر من مناسبة أن "الإسكندرية مهددة بالاختفاء جزئيًا خلال العقود المقبلة إذا لم تتخذ الدولة إجراءات عاجلة".
كما أكد الدكتور محمد علي فتحي، أستاذ الجيولوجيا بجامعة الإسكندرية، في حوار منشور عام 2023 أن "تآكل الشواطئ بفعل ارتفاع البحر وسوء التخطيط العمراني يسرّع من خطر غرق أحياء بأكملها مثل بحري، والأنفوشي، وكرموز"، ومع ذلك، لم نر أي تحرك جاد من الدولة سوى بعض الحواجز الأسمنتية العشوائية التي يعتبرها كثير من الخبراء "حلولًا مؤقتة ومحدودة الجدوى".
فشل التخطيط
بدلاً من توجيه الاستثمارات إلى مشاريع الحماية الساحلية والبنية التحتية المستدامة، فضل نظام السيسي الإنفاق على مشروعات لا تمس أولويات المواطن ولا البيئة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة التي بلغت كلفتها أكثر من 60 مليار دولار، وفق تصريحات رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في 2022.
في المقابل، لم تُخصص الدولة سوى 4.8 مليار جنيه (ما يعادل 250 مليون دولار) لحماية سواحل الإسكندرية والدلتا، وهي قيمة لا تكفي لبناء أنظمة حماية حديثة، بحسب تقرير البنك الدولي الصادر في نوفمبر 2020 والذي حذر من أن 12 % من سكان مصر قد يتأثرون مباشرة بارتفاع البحر، وأن تكلفة التكيّف تتطلب استثمارات تفوق 10 مليارات دولار خلال العقد المقبل.
انتقادات دولية وتجاهل رسمي
تقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2022 وصف دلتا النيل بأنها "من أكثر المناطق هشاشة في العالم أمام تغير المناخ"، وأشار إلى أن مدنًا مثل الإسكندرية ودمياط ورشيد تواجه خطر الغمر بالمياه خلال العقود القادمة.
كما أوضح التقرير أن نحو 6.7 مليون شخص في دلتا النيل معرضون للتهجير المناخي الداخلي، وهو ما سيخلق ضغطًا سكانيًا واقتصاديًا غير مسبوق على المدن الأخرى.
على الرغم من ذلك، تجاهل الإعلام الرسمي المصري وحتى تصريحات الرئاسة هذه التحذيرات، بل وادعت بعض التصريحات الحكومية أن "الوضع تحت السيطرة"، في تناقض صارخ مع الحقائق العلمية.
رغم خطورة هذه التحديات، تتجاهل حكومة الانقلاب اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة، مما يعكس فشلًا واضحًا في إدارة الأزمات البيئية.
لماذا تتجاهل حكومة الانقلاب الحلول المتاحة؟
المجتمع العلمي قدم عشرات المقترحات لمواجهة الخطر، منها تبني خطط إدارة متكاملة للسواحل، تطوير أنظمة صرف فعالة، وإعادة هيكلة البناء العمراني في المناطق المنخفضة، لكن حكومة السيسي لم تُفعّل أيًا منها بشكل جدي.
هذا التجاهل يعود إلى عدة أسباب، أبرزها تغليب الطابع الأمني على أي ملف استراتيجي، إذ تسيطر الأجهزة السيادية على معظم القرارات الاقتصادية، إضافة إلى غياب الشفافية وضعف تمويل البحث العلمي، الذي لا يتعدى 0.72 % من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب تقرير اليونسكو لعام 2023، ما يجعل مصر في ذيل قائمة الدول النامية من حيث الاستثمار في حلول التكيّف المناخي.
ماذا تنتظر الدولة؟
الواقع المرير أن الإسكندرية لم تعد تحتاج إلى تحذيرات إضافية، بل إلى تحركات عاجلة، الكوارث المناخية لا تنتظر حسابات السياسة أو شعارات الاستقرار الزائف.
فما الذي تنتظره حكومة الانقلاب؟ هل ستتحرك فقط بعد أن تُغمر الأحياء وتُهجر الأسر وتنهار البنية التحتية؟!
المدن تُدار بالعلم والتخطيط، لا بالمشروعات الاستعراضية والخطابات الرنانة، والإسكندرية اليوم تحتاج خطة إنقاذ لا تحتمل التأجيل، وإلا فإن عروس البحر المتوسط قد تغرق فعلًا، لا مجازًا.