تجدد الجدل في الأوساط السياسية العربية مؤخرًا بعد تصاعد دعوات لنقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى الرياض، في خطوة يرى فيها مراقبون مؤشرًا على تحولات استراتيجية داخل النظام العربي، وتعبيرًا عن تنافس خفي بين مصر والسعودية على قيادة المشهد الإقليمي.

وأثارت تصريحات نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عماد جاد، بشأن نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى المملكة العربية السعودية، موجة من الجدل وردود فعل متباينة في الأوساط المصرية.

وكان جاد قد نشر تدوينة عبر صفحته الرسمية على موقع "فيسبوك"، تحت عنوان "دعوة للتفكير بهدوء"، دعا فيها إلى ما وصفه بـ"مقترح موضوعي ومفيد لكافة الدول العربية"، يتمثل في تولي السعودية رئاسة الجامعة ونقل مقرها إلى الرياض أو أي مدينة سعودية أخرى.

وعلّل جاد طرحه بالقول: "العرب جاءوا من السعودية واليمن، ووفق التوازنات الراهنة، أرى أن من الأفضل أن يكون أول أمين عام جديد للجامعة من الجنسية السعودية". واختتم بالقول: "فكروا بتأمل وهدوء، وستدركون سلامة هذا الرأي".

إلا أن هجومًا كبيرًا نال من جاد، مما اضطره لحذف تدوينته، ونشر توضيحًا ينافي ماكتبه فيها، فقال: " تابعت بدقة كافة التعليقات على الرأي الذي كتبته على صفحتي الشخصية بشأن مقر الجامعة العربية وجنسية أمينها العام، وفوجئت بأن معظم التعليقات فهمت الرأي على انني مؤيد  لفكرة نقل المقر وتداول منصب الامين العام، وهو عكس جوهر الفكرة التي تتمثل في إيماني التام بوزن ودور مصر التاريخي وعادة ما اصف بلدي في كل كتاباتي بأنها درة الشرق وتاج العلاء، وهدفنا جميعا أن تظل مصر منارة الشرق والفاعل الإقليمي الرئيسي، نعم مصر هي فجر الضمير وهي من أنشأت الجامعة وميثاقها ينص على انها دولة المقر والامين العام من أبناءها"..

https://web.facebook.com/emad.gad.5832

 

السعودية.. طموح القيادة الإقليمية

يأتي تصاعد تلك الدعوات متزامنًا مع الطموحات المتنامية للرياض في قيادة العالم العربي والإسلامي، والتي تتجلى في سلسلة من المبادرات والمشروعات الكبرى، كمشروع "رؤية 2030"، والدور البارز في ملفي اليمن والسودان، إضافة إلى استضافة قمم عربية ودولية متتالية. يرى محللون أن السعودية تسعى لإعادة تشكيل "العروبة السياسية" تحت مظلتها، مستفيدة من حضورها المالي والسياسي المتنامي.

الكاتب والمحلل السياسي السعودي سلمان الأنصاري كتب على منصة "إكس" (تويتر سابقًا): "مقر الجامعة العربية في القاهرة كان جزءًا من مرحلة مضت.. واليوم، من الطبيعي أن يكون المقر في قلب العالم العربي الجديد: الرياض"، وهو تصريح اعتبره البعض إشارة مباشرة إلى نية سعودية حقيقية للضغط بهذا الاتجاه.

وقال الكاتب السعودي، عبيد العايد في تغريدة على حسابه بمنصة "إكس"، إن الوقت قد حان"لخروج الأمانة العامة لجامعة الدول العربية من إحتكار الخارجية المصرية". مرشحًا شخصية سعودية لتولي المنصب.

وأضاف العايد قائلاً: "يستحق الداهية والمتحدث اللبق والقوي معالي وزير الدولة عادل الجبير أن يحظى بدعم السعوديين وكل العرب لرئاسة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية".

https://x.com/obaidalayed/status/1930749543164899778

وهذه ليست الدعوة السعودية الأولى التي يطالب فيها كتاب سعوديون بتدوير منصب الأمانة العامة، فقد طالب كاتب سعودي بإنهاء ما قال إنه احتكار من قبل مصر لأمانة الجامعة العربية، قبيل تعيين  الأمين العام الحالي، أحمد أبو الغيط في 2021.

وعبر "تويتر" كتب "خالد الدخيل": "تقدمت حكومة مصر بطلب التجديد للأستاذ أحمد أبو الغيط أمينا عاما للجامعة العربية. تنطلق في ذلك من تقليد بدأ مع تأسيس الجامعة سنة 1945 أن يكون أمينها العام مصريا".

وأضاف الكاتب السعودي أن هذا أمر كان مفهوما آنذاك، مستدركا بالقول: "بعد 75 سنة حان الوقت أن يتقاعد هذا التقليد. ليس من مصلحة مصر ولا الجامعة أن تحتكر دولة هذا المنصب للأبد".

 

خدام الأمريكان

وأثارت الدعوة التي أطلقها الكاتب السعودي، جدلاً على مواقع التواصل الاجتماعي، بين داعم للفكرة، ورافض لها، وبين مشكك في دور الجامعة في خدمة القضايا العربية.

وقال علاء محمد عبر @alaamoh48758392 "يعني انت عاوز تمسك الجامعة العربية للمتأمر  خدام الامريكان دا ؟؟؟".

https://x.com/alaamoh48758392/status/1930932365825544541

وقالت دنيا عبر @Egy_Sinai______ "أتفق على أن تخرج مصر من جامعة الدول العربية و تخرج جامعة الدول العربية من احتكار الخارجية المصرية وتنتقل إلى مكانها الصحيح لإدارة الولايات المتحدة الأمريكية حتى تكتمل صورة من يحكم العرب بشكل أوضح ومباشر كفى لعب تحت الطاولة منذ الستينات😉".

 

القاهرة.. تمسك بالمكانة التاريخية

من جانبها، تنظر مصر إلى الجامعة العربية كرمز تاريخي لدورها القيادي في المنطقة، وتعتبر أن بقاء المقر في القاهرة هو اعتراف سياسي بمكانتها، رغم ما تواجهه من تحديات اقتصادية. ويرى خبراء مصريون أن الدعوات لنقل المقر تمثل محاولة "لتقزيم" الدور المصري، وسط تنافس محموم على النفوذ.

الخبير في الشؤون العربية، الدكتور مصطفى اللباد، قال في تصريح لموقع "مدى مصر": "هذه الدعوات ليست مجرد مقترحات إدارية، بل جزء من صراع رمزي على من يقود النظام العربي، وهي تعكس تراجع التوافق العربي مقابل بروز نزعات الهيمنة الإقليمية".

 

الجامعة العربية.. غياب الفعالية يزيد الضغوط

وتواجه الجامعة العربية منذ سنوات انتقادات حادة بسبب ما يُوصف بـ"الشلل المؤسسي"، وتراجع قدرتها على التأثير في الملفات الساخنة مثل القضية الفلسطينية، والأزمات في ليبيا واليمن وسوريا. في هذا السياق، يرى بعض الداعين لنقل المقر أن التجديد الشكلي قد يعكس رغبة في ضخ "دماء جديدة" في الجسد العربي المترهل.

لكن أمين عام سابق للجامعة، رفض الكشف عن اسمه، صرّح لوسائل إعلام عربية بأن "نقل المقر لا يعالج الأزمة الحقيقية، التي تتمثل في غياب الإرادة السياسية العربية الجماعية، لا في الموقع الجغرافي للمؤسسة".

 

موقف ميثاق الجامعة

ويأتي هذا الجدل في وقت تقترب فيه نهاية الولاية الثانية للأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، المقررة في سبتمبر المقبل، وسط تقارير تتحدث عن نية القاهرة ترشيح رئيس الوزراء مصطفى مدبولي لخلافته.

ومنذ تأسيس الجامعة العربية في مارس 1945، استقر مقرها في القاهرة، كما نص ميثاقها في مادته العاشرة.

ومع ذلك، يجوز لمجلس الجامعة الاجتماع في أي مدينة أخرى. ويُعد نقل المقر بشكل دائم مخالفة للميثاق ما لم يتم تعديله بإجماع الدول الأعضاء.

وكان مقر الجامعة قد نُقل فعلياً إلى تونس عام 1979 عقب توقيع مصر معاهدة السلام مع الاحتلال الإسرائيلي، فيما علقت الدول العربية عضوية القاهرة آنذاك.

وفي عام 1980، عُقدت قمة في بغداد عُرفت بـ"قمة جبهة الرفض"، أكدت رفضها لاتفاقية كامب ديفيد، وقررت نقل المقر وقطع العلاقات مع مصر، باستثناء ثلاث دول هي سلطنة عُمان والصومال والسودان.

وبعد قطيعة دامت نحو عقد من الزمن، قررت قمة عمان عام 1987 إنهاء المقاطعة وإعادة العلاقات، وتم رفع علم مصر مجدداً على مقر الجامعة في تونس في يونيو 1989.

وفي مارس 1990، عاد المقر رسمياً إلى القاهرة بعد مؤتمر الدار البيضاء الطارئ، وتم تعيين عصمت عبد المجيد أميناً عاماً جديداً للجامعة.

 

هل تتحول الدعوات إلى قرار رسمي؟

حتى الآن، لم تُطرح أي مقترحات رسمية داخل أروقة الجامعة بشأن تغيير المقر. لكن مصادر دبلوماسية عربية تحدّثت عن ضغوط غير مباشرة تُمارس داخل الاجتماعات العربية، مع تلميحات من بعض الدول الخليجية بضرورة "تطوير أداء الجامعة" بما يتناسب مع الواقع السياسي والاقتصادي الجديد.

وفي ظل غياب توافق عربي شامل، يرجح مراقبون أن تظل هذه الدعوات في إطار "الحرب الرمزية" الباردة بين القاهرة والرياض، والتي تعكس تباين الرؤى حول قيادة المنطقة العربية، في وقت تشهد فيه الأمة العربية تحولات استراتيجية كبرى.

 

العرف والتوازنات داخل الجامعة

تنص المادة 12 من ميثاق الجامعة على أن تعيين الأمين العام يتم بقرار من مجلس الجامعة، وبموافقة ثلثي الدول الأعضاء البالغ عددها 22 دولة. ووفق الأعراف المتبعة، عادةً ما يُعين الأمين العام من مواطني دولة المقر، وهو ما جرى العمل به منذ تأسيس الجامعة.

وتبلغ مدة ولاية الأمين العام خمس سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، ما يفتح الباب أمام تجاذبات دبلوماسية حول الشخصية القادمة التي ستتولى هذا المنصب، في ظل تحولات إقليمية وتوازنات جديدة داخل النظام العربي الرسمي.