في أحد مستشفيات غزة، وقف رجل يرتدي قميصًا أخضر ممسكًا بهاتفه، ينادي: "هاني، تعال على المستشفى. أولادي ماتوا، يا هاني. الاثنين – راحوا."
ثم همس: "يا الله..."
اقترب منه رجل يعرفه، وسأله: "يا أبا مهند، شو صار؟"
أجاب وهو ينهار بالبكاء: "أولادي ماتوا. مهند ومحمد. راحوا. والله راحوا."
هذا المشهد حقيقي، مسجَّل في فيديو من أحد مستشفيات غزة، يوثّق الحزن في لحظته. ليست صرخة رجل واحد فقط، بل واحدة من آلاف الصرخات التي تؤكد أن هناك إبادة جماعية تحدث – طفلًا بعد آخر، حيًّا بعد حي.
مع بدء القوات الإسرائيلية عملية تطهير عرقي في شمال غزة، يجري حشر المدنيين في مناطق جنوبية أصغر، دون أي ملاذ من القصف.
تمضي الكاتبة في مقالها لميدل إيست آي ساعات في متابعة قنوات تيليجرام، توثق ما وصفته منظمة العفو الدولية بـ"إبادة جماعية تُبث مباشرة".
في أحد المشاهد، يمتلئ مستشفى العودة في دير البلح بالمصابين بعد غارة إسرائيلية على مدرسة تابعة للأونروا في مخيم النصيرات.
تبدأ أسماء الشهداء في الظهور: عايدة، أسماء، ياسر، إسماعيل، أشرف... ثم عوني، علاء، محمد، وغيرهم كثير.
يظهر رضيع بملابس مغطاة بالدماء، يصرخ بينما يلف الأطباء رأسه. في مقطع آخر، يحمل أب ابنته المصابة بينما يحاول المسعفون إنقاذ أطرافها.
صور لن تظهر على شاشات ملايين الأمريكيين والأوروبيين، إذ تحجبها وسائل إعلام تابعة لشركات كبرى، تخشى أن تهزّ هذه الصور دعم حكوماتهم لإسرائيل.
يظهر مراسل قناة الغد محمود اللوح وهو يدخل المستشفى حاملاً ابنته الدامية، يبحث عن سرير، فلا يجد. يضعها على الأرض بجانب طفل آخر.
قالت الكاتبة: "همس ابني: محظوظة، معها أبوها وسرير."
ليس كل طفل في غزة يملك هذه النعمة.
في خان يونس، أُجبر الناس على النزوح مجددًا. رجل يحمل والدته العجوز على ظهره، ويصرخ: "لوين نروح؟"
كثيرون يتوجهون نحو المواصي، حيث تُقصف الخيام بدل البيوت.
قُصفت عائلة أبو دقة في شرق خان يونس: الأم جمانة قُتلت مع أطفالها الأربعة وسام، جولان، جيلان، وسراج.
في الفُخاري، قُصفت عائلة العمور كاملة: صفاء العمور وبناتها الست سما، لمى، سجى، لين، ليان، وندى.
ثم في المواصي، دُمّرت خيمة عائلة قصاب: الأم عبير وأطفالها الستة – أربع بنات (قمر، سميرة، عبير، شيرين) وولدان (عماد، وغالي).
الغارات تتوالى بسرعة، وكأن الجيش الإسرائيلي يسابق الزمن لمحو ما تبقى. منظمة "بتسيلم" وصفت الأمر بحملة تطهير منهجية ومتعمدة.
في الشمال، قصف الاحتلال مولدات الكهرباء في مستشفى إندونيسيا، مما سبب انقطاعًا تامًا للكهرباء، وهدد حياة المرضى. ناصر في خان يونس يعاني من نقص الإمدادات بعد غارة استهدفت مستودعًا طبيًا.
هذه ليست أضرارًا جانبية، بل استراتيجية ممنهجة. منذ قصف مستشفى المعمداني في أكتوبر، وقتل نحو 500 شخص، انكشف المخطط.
ثم طالت الضربات عائلة الخور في حيّ الصبرة – حيث عاشت الكاتبة سابقًا – سقط ستة قتلى من العائلة، والعدد بازدياد.
قال شقيق الكاتبة منذ عام ونصف: "نعيش في قفص دجاج، ينتظر كل يوم من يُذبح." عبارة ترددت عام 2002 أيضًا، عندما قالت امرأة: "يذبحونا مثل الدجاج."
لكن، على الأقل حينها، حمل القتلى أسماء. اليوم، يموت الفلسطينيون بلا أسماء، لا صحفي غربي يسأل عنهم.
منذ يوم النكبة (15 مايو)، تُقتل أعداد هائلة يوميًا: 120 في يوم، 125 في اليوم التالي، ثم 146، فـ140... الأرقام تتزايد، والكارثة تتعمق.
الدول قادرة على الاعتراف بالإبادة. تستطيع فرض حظر أسلحة، وإغلاق الموانئ، وقطع العلاقات مع إسرائيل – لكنها لا تفعل.
وأخيرًا، وبعد أكثر من 54 ألف قتيل فلسطيني، أصدرت بريطانيا وفرنسا وكندا بيانًا يهدد بعقوبات "محددة الهدف" إن استمرت الغارات.
لكن هذا لا يكفي. غزة تتحول إلى حقل للقتل، وعائلات تُمحى تمامًا.
الفلسطينيون لا يطلبون تعاطفًا. يطالبون بمحاسبة وفق القانون الدولي.
كما قالت الباحثة القانونية نورا عريقات: "القانون موجود. يكفي لإنهاء الإبادة، ورفع الحصار، وإنهاء الاحتلال، وتحقيق تقرير المصير."
لكن العالم يختار تجاهل ذلك، ويختار الإفلات من العقاب.
ما لم تغيّر الدول موقفها، سيستمر الفلسطينيون في العيش في عالم يحمل فيه الصحفي طفله المصاب بدل الكاميرا، ويُجري الطبيب العمليات على ضوء مصباح، وتصبح صرخة الطفل دليلًا وحيدًا على أنه ما زال حيًّا.
https://www.middleeasteye.net/opinion/gaza-israel-nameless-palestinians-slaughter-these-are-names