للعام العاشر على التوالي، تعلن مصر موازنة جديدة تحمل نفس المرض المزمن: عجز هائل، وديون متراكمة، ومشاريع إنشائية بلا عائد.
في موازنة عام 2025-2026، تذهب نحو 65% من إيرادات الدولة لسداد فوائد وأقساط الديون، بينما تتجه الدولة إلى تعويض العجز المتفاقم بمزيد من القروض أو ببيع ما تبقى من أصولها.
هكذا، يعيش الاقتصاد في دائرة مفرغة، تُدار بأدوات تجميل محاسبية، وسط ظروف محلية ودولية غير مواتية.
لكن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في الأرقام، بل في المنظومة التي تدير تلك الأرقام. منظومة تغلب عليها الأجهزة الأمنية والمؤسسات السيادية التي باتت اللاعب الأول في السوق، بينما تُحمَّل لافتة "تشجيع القطاع الخاص" دون أدوات أو ضمانات حقيقية.
اقتصاد بلا هوية ولا وجهة
في وصف دقيق للوضع القائم، تقول أستاذة الاقتصاد بجامعة عين شمس، يمن الحماقي، إن ما يجري في مصر هو إدارة لاقتصاد "بلا هوية"، يسير بلا بوصلة واضحة، تحت قبضة رأسمالية متوحشة، تتخلى تدريجيا عن الفقراء والطبقة الوسطى.
أما رشاد عبده، خبير التمويل والاستثمار، فيرى أن مصر تنفذ مشاريع لا تستند إلى جدوى اقتصادية حقيقية، بل تُستخدم كوسيلة دعائية، في ظل غياب للكفاءات داخل المؤسسات الرسمية، واعتماد مفرط على الأجهزة السيادية التي تحصل على امتيازات لا تُتاح للقطاع الخاص، وهو ما يقوض مبدأ العدالة التنافسية.
ديون متضخمة واقتصاد مثقل بالاختلالات
منذ عام 2013، حصلت مصر على ما لا يقل عن 200 مليار دولار في شكل قروض ومنح ومساعدات خليجية ودولية، إلى جانب نحو 13 مليار دولار مساعدات عسكرية أميركية، بحسب تقرير "الجمهورية الثانية" الصادر عن مركز كارنيغي للشرق الأوسط.
ومع ذلك، لم يُسهم هذا الدعم الضخم في إنعاش الاقتصاد أو تمويل مشاريع إنتاجية، بل ذهب إلى تمويل مشاريع ضخمة تفتقر للجدوى، مثل العاصمة الإدارية الجديدة التي لم تُفتتح حتى اليوم، وتُقدَّر تكلفتها بـ58 مليار دولار.
ويكشف التقرير أن الجيش يمتلك 51% من أسهم الشركة التي تدير العاصمة الجديدة، بينما تتحمل هيئة الإسكان والتعمير -الشريك المدني- عبء سداد القروض، ما يوضح طبيعة الانحياز في توزيع الأرباح والمخاطر.
الأخطر من ذلك، بحسب التقرير، هو خروج هذه المشاريع من الموازنة العامة للدولة، لتفادي إدراج القروض ضمن المديونية الرسمية، وهي مناورة محاسبية تسعى لتجميل الصورة أمام وكالات التصنيف الائتماني.
هيمنة أمنية وتآكل للطبقة الوسطى
يواصل عدد من رجال الأعمال، مثل نجيب ساويرس، انتقادهم العلني لهيمنة الدولة ومؤسساتها الأمنية على السوق.
وفي حين تطالب الحكومة القطاع الخاص بدفع عجلة النمو، يتلقى المستثمرون رسائل معاكسة من بيروقراطية ثقيلة وبيئة استثمارية تفتقر للشفافية والعدالة.
ويحذر رجال أعمال ومحللون من استمرار منح المؤسسات السيادية صلاحيات واسعة، تصل إلى حد الاستيراد الحصري للسلع الاستراتيجية "كما حصل مع مؤسسة "مستقبل مصر" التابعة لأحد أفرع الجيش، التي منحت مؤخراً حق استيراد القمح بدلًا من الهيئة العامة للسلع التموينية.
في هذه البيئة غير المتوازنة، تتآكل الطبقة الوسطى المصرية، التي أصبحت عاجزة عن مواكبة التضخم المتصاعد، بعد سلسلة تخفيضات في قيمة الجنيه بلغت ذروتها في مارس 2024، حين تجاوز سعر الدولار 50 جنيها، ما أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار السلع، وتآكل دخول المواطنين.
وبحسب التقديرات الرسمية، أكثر من 60% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، فيما تلجأ الحكومة إلى خفض الدعم العيني والنقدي، مع استمرار الإنفاق على مشاريع لا تعود بأي عائد ملموس على حياة المواطنين.
رأسمالية الدولة الجديدة.. الاحتكار والريعية
يصف الباحث يزيد صايغ، أحد المشاركين في تقرير كارنيغي، الاقتصاد المصري بأنه "اقتصاد هجين"، يعتمد على نظام مزدوج: حكومة تدير مؤسساتها، إلى جانب قطاع اقتصادي موازٍ تقوده الجهات السيادية، يحتكر المشروعات ويستأثر بالمزايا دون رقابة برلمانية أو مساءلة.
وفي هذا النظام، تراجع دور القطاع الخاص إلى مساهمة هزيلة لا تتجاوز 6.3% من الناتج المحلي، وهو رقم أقل من مساهمته خلال حقبة الستينات التي عرفت بالتأميم والاشتراكية.
بين الدستور والواقع.. الفجوة العميقة
يبدو أن الدستور المصري -الذي يدعو إلى اقتصاد حر قائم على المنافسة- قد جُرِّد من فاعليته، بعدما مُنحت القوات المسلحة، وفق تعديل 2019، صلاحيات استثنائية تشمل "حماية الدولة المدنية"، ما منح المؤسسات الأمنية نفوذاً سياسياً واقتصادياً غير مسبوق.
ووسط احتكار القرار الاقتصادي وتضييق المجال العام، يتآكل ثقة المستثمرين، وتتراجع الاستثمارات الأجنبية، وتصبح البلاد معتمدة بالكامل على قروض خارجية لدعم ميزان المدفوعات، في وقت تشتد فيه التوترات الإقليمية من السودان إلى غزة، وأزمة مياه النيل مع إثيوبيا.