تشهد زراعة القطن في مصر أزمة جديدة تضع واحدة من أعرق المحاصيل الزراعية في مهب الريح، بعدما فقد "الذهب الأبيض" جزءًا كبيرًا من بريقه أمام فلاحين لم يعودوا يجدون فيه جدوى اقتصادية تبرر تكاليف زراعته.

فقد سجلت أسعار تصدير القطن المصري خلال الموسم التصديري الحالي (2025 - 2026) تراجعًا حادًا بنسبة 23.5%، ليصل سعر البرة إلى 130 سنتًا مقارنة بـ 170 سنتًا في بداية الموسم، مما فتح الباب لتوقعات بتقلص المساحات المزروعة بنسبة قد تصل إلى 40% في الموسم المقبل، وفق تصريحات متطابقة لمختصين.
 

دورة مفرغة من الفوضى السعرية والزراعية
   التراجع السعري الأخير ليس حدثًا استثنائيًا، بل حلقة متكررة من مسلسل زراعي مملوء بالفوضى والعشوائية، حيث تُغري الأسعار المرتفعة المزارعين بزراعة المزيد، فيرتفع المعروض، فتنخفض الأسعار، لتنهار جدوى الزراعة، فتقل المساحة المزروعة مجددًا.
هكذا تدور عجلة الفوضى الزراعية دون تنظيم حقيقي أو تخطيط استراتيجي، وسط غياب منظومة فعالة لتوجيه الإنتاج بما يتلاءم مع احتياجات السوقين المحلية والعالمية.
 

انهيار الصادرات وتأخر مستحقات الفلاحين
   وفق بيانات شعبة القطن باتحاد الغرف التجارية، فإن الصادرات تراجعت بنسبة 33% منذ بداية موسم التصدير في سبتمبر 2024 وحتى 10 أبريل الجاري، لتبلغ الكميات المصدرة نحو 27 ألف طن فقط، بإجمالي قيمة 90 مليون دولار.

هذا التراجع الحاد ترافق مع عزوف التجار عن شراء القطن بأسعار الضمان التي حددتها الحكومة (10 آلاف جنيه للقنطار متوسط التيلة و12 ألفًا لطويل التيلة)، ما أدى إلى تأخر صرف مستحقات الفلاحين، ودفع كثيرين منهم للتفكير في العزوف عن زراعة المحصول العام المقبل.

ويُتوقع أن تنخفض المساحات المزروعة إلى ما بين 150 و175 ألف فدان فقط، بحسب مفرح البلتاجي، الرئيس السابق لاتحاد مصدري الأقطان.
 

غياب التوجيه الحكومي وتحكم السوق في القرار الزراعي
   الأزمة ليست وليدة اللحظة، بل ناتجة عن غياب الإرشاد الزراعي الحكومي وتخلي الجهات المعنية عن دورها في توجيه الفلاحين، الذين أصبحوا يتحركون بشكل ارتجالي، دون تصور واضح للسوق ولا معرفة كافية بالطلب العالمي أو المحلي.

يقول مراقبون إن غياب المجالس النوعية الفعالة، والمؤسسات القادرة على تقديم بيانات ومؤشرات للسوق، جعل ملايين الفلاحين يزرعون وفق توقعات شخصية لا تخضع لأي تخطيط مركزي أو استراتيجي.
 

من الأمن الغذائي إلى السيادة الغذائية: تحول مطلوب
   لكن الأزمة تسلط الضوء على ما هو أعمق: فشل السياسات الزراعية المصرية في تحقيق السيادة الغذائية؛ إذ تعتمد الدولة على استيراد السلع الأساسية كالقمح، بينما تُوجه الأرض والمياه لإنتاج محاصيل تصديرية كالقطن.

ورغم أن هذه السياسة تبدو مربحة نظريًا بسبب فروق الأسعار، إلا أنها في الواقع تُعرّض البلاد لمخاطر كبيرة في أوقات الأزمات الدولية، كما أنها تُهدر إمكانيات البلاد الزراعية في إنتاج ما يسد حاجة السوق المحلية أولاً.
 

خسائر فادحة للفلاحين.. وتهديد للاستقرار الريفي
   في كل مرة تنخفض فيها الأسعار، يتحمل الفلاح وحده العبء الأكبر، ويُجبر على البيع بالخسارة أو الدخول في دوامة الاستدانة، ما يُهدد بخروج آلاف الأسر من المجال الزراعي، خاصة من يعتمدون على الزراعة كمصدر دخل جزئي.

وهذا النمط يُنذر بتفكك المنظومة الزراعية الريفية، وزيادة البطالة، وتفاقم التهميش الاقتصادي والاجتماعي.
 

القطن وصناعة النسيج.. فرصة ضائعة
   تُجمع الأصوات المتخصصة، مثل الدكتور مصطفى عمارة، وكيل معهد بحوث القطن، على أن الحل لا يكمن في مواصلة تصدير القطن كمادة خام، بل في تصنيعه محليًا وتحويله إلى منتجات نهائية قابلة للتصدير بأسعار أعلى، لتعظيم القيمة المضافة ودعم الاقتصاد الوطني.

إلا أن ضعف الاستثمار في التصنيع الزراعي يعرقل هذا التوجه، ويحرم مصر من فرص كبيرة لبناء قاعدة صناعية قوية في مجال الغزل والنسيج.