وائل قنديل

 

وكأن القاعدة المصرية صارت تقول: كلما يشتعل الكلام عن انفراجةٍ سياسيةٍ وحقوقيةٍ تأتي زخّة كثيفة من الأحكام القضائية المسيّسة تحصد عددًا كبيرًا من المحبوسين والمعتقلين. وكلما جاء موسم رمضان الدرامي، حاملًا معه مسلسلًا جديدًا عن أفضال العسكرة على الوطن والمواطن، جاءت معه قراراتٌ قضائيةٌ عاتية تعصف بمزيد من الحقوقيين والسياسيين.
في ذروة رمضان الدرامية في العام الماضي، ومع الحملة القومية لترويج مسلسل "الاختيار" بوصفه نصًا تاريخيًا مقدسًا، كانت مقصلة الإعدام تجزّ سياسيين محكومين في القضية المعروفة بقضية أحداث كرداسة. والآن، ومع اقتراب شهر رمضان، والترويج المكثف لمسلسل باسم "الكتيبة 101"، صدرت أمس مجموعة من الأحكام المغلّظة لمحكمة أمن الدولة العليا طوارئ، بالسجن المؤبد بحقّ 17 شخصًا والسجن 15 عامًا لسبعة والسجن المشدّد عشر سنوات لأربعة والمشدّد خمس سنوات لثلاثة، وبراءة متهمة واحدة.
يكفي اسم القضية بحد ذاته وحده للدلالة على حال العدالة في مصر، فالقضية معروفة باسم "تنسيقية الحرّيات"، وموضوعها أن مجموعة من المحامين والحقوقيين والسياسيين أنشأوا منصّة تحت اسم "التنسيقية المصرية للحقوق والحريات"، ينحصر كل نشاطها في متابعة عشرات الآلاف من السجناء والمعتقلين الذين امتلأت بهم السجون بعد انقلاب 2013، والنشر عن أوضاعهم وتقديم أشكال من المساعدة القانونية لهم.
من هؤلاء المتطوّعين لمتابعة قضايا المظلومين محامون مثل الأساتذة هدى عبد المنعم، العضو في مجلس حقوق الإنسان 2013 وعزت غنيم وطارق السلكاوي ومحمد أبو هريرة وآخرون .. محامون يدافعون عن حقوق مسجونين في محاكمات عادلة وأمام قاضيهم الطبيعي، ما هي الجريمة هنا؟ لا شيء سوى أنهم تصرّفوا بما يمليه عليهم الضمير المهني والحسّ الإنساني، فوجدوا أنفسهم متهمين بالدعوة إلى تعطيل الدستور والانضمام لجماعة إرهابية ومنع مؤسّسات الدولة من ممارسة أعمالها والاعتداء على الحريات الشخصية للمواطنين والإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، أيّ جنونٍ هذا؟ ممن طاولتهم الأحكام الأستاذة الجامعية عائشة خيرت الشاطر، التي عوقبت بالسجن المشدّد عشر سنوات وزوجها محمد أبو هريرة 15 عامًا وبهاء عودة عشر سنوات، بلا تهمةٍ حقيقيةٍ سوى أنه شقيق وزير التموين السابق باسم عودة، وكان ينشر عن حالته على مواقع التواصل الاجتماعي.
صدرت الأحكام عن محكمة أمن الدولة العليا طوارئ، وهي محكمة استثنائية لا يجوز الطعن على أحكامها أو مراجعتها. وبالتالي، هي واجبة التنفيذ في الحال، وتأتي عكس كل ما يشيعه الجالسون على موائد الحوار الوطني عن حالةٍ من التعقل أصابت السلطة فجأة، فانطلقوا يبشرون بأضغاث أوهام عن مصالحة وطنية وانفراجة حقوقية وإنسانية فرضتها ضغوط الواقع الاقتصادي البائس في الداخل وإغراءات الدعم المالي والسياسي القادم من الخارج.
قبل عامين، في مثل هذا الوقت تقريبًا، كان سباق التكهنات مشتعلًا على أشدّه، وقطار التوقعات ينطلق بأقصى سرعته في اتجاه تلك الانفراجة التاريخية في ملفّ الحريات والمعتقلين، على ضوء المصالحة التركية المصرية. سجّلتُ وقتها أن بعضهم قطع بأن الطبخة تمت في لقاءاتٍ سرّية في لندن على مواقد غاز المتوسط، وأن التسوية تمضي في اتجاه أن تفتح الزنازين بطونها وتلقي ما فيها إلى البراح، بل  هناك من راح يردّد الأوهام التاريخية المعلبة عن صفقةٍ جديدة بين عسكر السيسي وإخوان أردوغان على حساب الثورة. 
غير أنه وفي تلك الأجواء المتفائلة، أفاق الجميع على دماء جديدة، تُراق بتنفيذ أحكام إعدام جماعية بحقّ عدد كبير من المواطنين فيما عرفت بقضية كرداسة، والتي كانت حاضرة في مسلسل "الاختيار"، حيث بدا وكأن قرار تنفيذ الإعدام صادر من صنّاع الدراما، في هذا التوقيت الرمضاني بالذات. 
الشاهد كذلك أنه كلما تلقّى النظام دعمًا ماليًا وسياسيًا من أصدقائه الجدد في الخارج، اشتدّت قبضته على الحرّيات والحقوق، ولم لا وقد ضمن سكوتًا إعلاميًا وصمتًا دبلوماسيًا، وهذه المرّة تأتي الأحكام الصادمة فيما تطلق أشكال من المعارضة الداجنة بالونات مزركشة في الهواء إعلانًا عن أجواء منعشة للحريات، تتطلّب من الجميع التكاتف حول النظام الذي استعاد إنسانيته فجأة في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تطحن الجميع، وإسهامًا في بناء الدولة المدنية الحديثة، وفقًا لأحدث المواصفات العسكرية.