نكمل في السطور التالية السلسلة الثانية من مذكرات العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، حيث تناولنا في الجزء الأول مولده ونشأته، وتأثير الكُتَّاب في تكوين شخصيته وتأثير وفاة والده، ورفضه الظلم منذ نعومة أظافره، لنتحدث الآن عن حياته بعد الكُتَّاب والتي نسردها من خلال مذكراته

الالتحاق بالمدرسة

يقول الشيخ العلامة يوسف القرضاوي إنه في السنة السابعة من عمري، ضممت إلى الكُتاب التعلم في المدرسة الإلزامية الحكومية في قريتنا، وكانت تتبع في ذلك الوقت مجلس مديرية الغربية.

كانت المدرسة تقع في حارتنا، وكان دخولها ضروريا ومهما، لتكمل ما يقوم به الكتاب، ووجدت المدرسة غير الكتاب تماما، من حيث المبنى، ومن حيث المعنى، وكان الكُتاب كله فصلا واحدا، وكانت المدرسة خمسة فصول.

ويضيف العلامة أن الكتاب مؤسسة فردية تقوم على شخص واحد، هو صاحب الكتاب، وهو المعلم والناظر والمفتش، وهو واضع المنهج ومطبقه، أما المدرسة فهي مؤسسة جماعية، تتوزع فيها المسؤولية على الناظر (المدير) والمعلمين، وعليها تفتيش من وزارة المعارف. والمدرسة تنفذ مناهج لم تضعها هي وإنما وضعت من لجان متخصصة من قبل الوزارة.

أول جائزة في حياة العلامة.. جنيه وربع

 يتابع العلامة أنه في صيف سنة 1937م وهو في الحادية عشرة من عمره، قال "استدعيت إلى إدارة المنطقة التعليمية بمجلس مديرية الغربية بمدينة طنطا، للامتحان في القرآن الكريم، ثم وجه إلي نحو ثلاثين سؤالا من مختلف أجزاء القرآن وسوره، ولا أذكر أني أخطأت في الإجابة أو تلعثمت. فقال الشيخ في النهاية: فتح الله عليك يا بني، وبارك فيك. ولك عندنا مكافأة باعتبارك أحفظ التلاميذ في المديرية. وتسلمت المكافأة، وقدرها جنيه وربع جنيه، وهي أول جائزة أتسلمها في حياتي".

ما بعد الكُتَّاب والمدرسة

ثم يتابع شيخنا في مذكراته قائلا: "بعد أن أنهيت المدرسة الإلزامية، وقبل ذلك ختمت القرآن، دخلت في مرحلة جديدة، مرحلة (البحث عن المستقبل)، حيث كان كل تفكيري هو الالتحاق بمعهد طنطا الديني، لأكون أحد طلاب الأزهر، ولكن هذه الرغبة المنطقية والمشروعة، لم تكن بالأمر السهل أو الهين، فقد كان يقف دونها عقبات وعقبات إذ أن فرص العمل أمام علماء الأزهر كانت محدودة جدا.

كان عمه أول العقبات أمام تكملة دراسته في الأزهر، وذكر العلامة في مذكراته:"رفض عمي تكملة مشواري بالمعاهد الأزهرية مفضلا العمل بالزراعة أو التجارة لتبدأ مرحلة من التخبط في حياتي امتهنت بها العديد من الحرف العمالية والزراعية لكني فشلت في جميعهم، ربما أن الله أراد أن يكافئني بخير أكبر".

شيخ عابر يغير المسار

وصف الدكتور يوسف القرضاوي في مذكراته مرحلة التحول في حياته، وكيف تذللت العقبات ليفتح الأهر الشريف أبوابها ليستقبل طالبا لإعداده ليكون عالما، فعن التحاقه بالأزهر في ظل رفض عمه، يقول شيخنا إن الله عز وجل، قدر ونحن نعمل بالحقل وفي فترة الغذاء، مر علينا شيخ كان يطلب الماء، فضايفناه وأجلسناه معنا، وإذا بعمي يقول له ألا تختبر لنا هذا الشيخ الصغير، فسألني بجميع السور، ووجدني حافظا و متمكنا من القرآن الكريم، ثم أدار مع عمي حوار كان مفاده أن أقنعه بالذهاب إلى الأزهر، وشق طريقي في طلب العلم، ولم يجد عمي سوى الموافقة، لينشرح صدري، بهذا الشيخ الذي لم أره بعد ذلك في حياتي وكأنه رسول من السماء، ولكن الواقع أنه رجل من بني آدم من قرية الهياتم، وهو سبب من الأسباب ساقه الله ليصنع به قدره، وفق سننه التي لا تتبدل".

المعهد الديني بطنطا

ويتابع شيخنا:" تقدمت بأوراقي للمعهد وأنا ابن الرابعة عشر، لكنهم أجلوا دخولي للعام القادم، ومضت السنة بوردها وشوكها، بحلوها ومرها، حتى جاء موعد التقديم، فقابلني، الشيخ عبد المطلب البتة، وكان يجب اختيار المذهب الذي انتسب إليه فرشح لي المذهب الحنفي فوافقت عليه رغم إني كنت شافعيا".

 وبعد سنوات، وأنا طالب في الثانوي، أصبح الناس في القرية وفي طنطا يتحدثون عني، كنت أخطب في المساجد، وأتحدث في المناسبات، ولا سيما في المآتم، وكانوا ما يقدمونني لأؤمهم في الصلوات الجهرية، خصوصا صلاة الفجر في رمضان، وعلى الأخص في فجر الجمعة.

وأضاف كنت في هذا الوقت عميق التأثر بالقرآن الكريم، شديد التجاوب مع وعده ووعيده، يكاد يغلبني البكاء، وتسبقني الدموع، ويتأثر الناس خلفي بتأثري، ويظهر نحيبهم في الصفوف.

اللقاء الأول بالإمام حسن البنا

تحدث الشيخ القرضاوي عن أحداث عظيمة أثرت في شخصيته وهو في العام الأول بالمعهد في طنطا أبرزها لقائه بالإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وأيضًا وفاة والدته.

وعن لقاء الأول مع الإمام البنا قال: "كان اللقاء الأول بالإمام حسن البنا في في السنة الأولى لي بالمعهد وأثناء الاحتفال بالعام الهجري ذهبت مع أصدقائي بالمعهد إلى شعبة الإخوان قرب "ميدان الساعة" في طنطا، وتكلم كثيرون قبل الشيخ البنا، ومنهم شعراء وخطباء مؤثرون، ثم كانت كلمة الختام للشيخ البنا، الذي انتظره الناس بفارغ الصبر، كما ينتظر الظمآن الماء، والسقيم الشفاء".

وأصبحت منذ تلك الليلة حريصا كل الحرص على الاستماع إلى الشيخ البنا، كلما جاء إلى طنطا في مناسبة من المناسبات. وكنت قبل ذلك رأيت كشافة الإخوان المسلمين، يجوبون شوارع مدينة طنطا، حاملين مصحفا كبيرا، ورافعين اعلامهم التي تشتمل على مصحف يحوطه سيفان، كما يحمل كلمة "وأعدوا".

وفاة الأم

وعن وفاة الوالدة قال: وأنا مازلت أحبو في العام الأول بمعهد طنطا، مرض والدتي حيث أصيبت أمي بحمى شديدة ألزمتها الفراش في بيت جدي ويبدو أنها أحست بدنو أجلها، فطلبت أن تراني، فأبلغت بذلك، وذهبت في نهاية إجازة الأسبوع إلى البلدة، ورأيتها وعانقتني طويلا، وهي على فراشها، ودعت لي من أعماقها، وهي تذرف دموعها، وكان لها دعوات تحفظها وتخصني بها دائما: ربنا يحبب فيك الرب في عرشه، والجندي في فرشه، ويجعل في وشك (وجهك) جوهرة، وفي حنكك (فمك) سكرة، ويحبب فيك الحصى في الأراضي، ويجعل لك في كل سكة سلامة. وفي الواقع كلما لاحظت حب الناس لي، وقولهم في كل مكان: نحبك في الله! أقول: هذا من بركات دعاء أمي.

ودّعت أمي ورجعت إلى طنطا، على أن أعود إليها في نهاية الأسبوع القادم، ولكن لم يشأ القدر أن تستكمل الأسبوع، فقد كان لقائي معها هو اللقاء الأخير

الدرس الأول في حياة القرضاوي

في أجازة السنة الثانية بالمعهد هذه الإجازة، حدث أمر مهم، بل في غاية الأهمية في حياتي، وهو إلقاء أول درس ديني على الناس في مسجد جامع، وكان الشيخ عبد المطلب البته هو من يلقي الدروس، لكنه في هذا اليوم لم يحضر، ليقدمني الناس لإلقاء الدرس بدلا منه.

وقد كان أثر هذا الدرس طيبا جدا، وهنأني عليه كل من حضره، وبلغ ذلك الشيخ البتة، فشجعني على ذلك، جزاه الله خيرا.

وأصبحت هذه عادة، كلما تأخر الشيخ البتة عن حضور الدرس قدمني أهل المسجد لأحل محله.

أول خطبة منبرية

وفي السنة الثالثة كانت أول خطبة منبرية في حياتي، كان ذلك في مسجدنا الجامع مسجد المتولي، فقد ذهبنا إلى القرية، لا أذكر بأي مناسبة، وطلب إلي أن أخطب الجمعة، فرحبت بذلك، وألقيت خطبة كان موضوعها "الشكر لله".

وقد لاقت قبولا حسنا من الناس، وأثنى عليها العلماء وطلاب الأزهر، وقالوا: إنها فريدة في مضمونها وفي طريقتها وفي إلقائها. فلم أحاول أن أقلد فيها زيدا أو عمرا من الخطباء الذين كانوا قبلي. وهذا هو ديدني دائما وأبدا: ألا أحاول تقمص شخصية غيري، بل أنطلق من ذاتي وحدها، تاركا نفسي على سجيتها.

المرحلة الثانوية والتعرف على رفيق الدرب ورحلة

مرحلة الثانوية بالنسبة للشيخ القرضاوي كانت من المراحل أيضا الهامة في حياه، حيث قابل بها رفيق دربة، وأيضا الشيخ محمد متولي الشعرواي، حيث قال: "في عمر الثامنة عشر التحقت بالمعهد الثانوي والذي مقره بجوار محطة سكة حديد طنطا، فقد بُني أساسا ليكون معهدا، بخلاف المعهد الابتدائي، فإنه مبنى مستأجر. ولا يزال هذا المعهد قائمًا إلى اليوم".

وفي أول أيام الدراسة تعرفت على صديق جديد، هو الأخ محمد الدمرداش مراد، أو قل: هو الذي طفق يقترب مني، ويتعرف علي بلهفة وصدق.

الشيخ الشعراوي المدرس والصديق

أهم من درسني في المرحلة الثانوية، هو: الشيخ محمد متولي الشعراوي، وقد كان في تلك الفترة من حياته معروفا بالشعر والأدب، ولم يكن معروفا بالدعوة الدينية. 

وكان الشيخ الشعراوي من الناحية السياسية محسوبا على حزب الوفد، ومعدودا من رجاله، ولكنه ـ والحق يقال ـ لم يكن من الحزبيين المتفلتين، فقد كان رجلا ملتزما بشعائر الدين، محافظا على الصلوات في أوقاتها، هو وزميله وصديقه الذي كان يدرسنا (تاريخ الأدب العربي) الشيخ المنوفي.

وفي هذه الفترة كنت من طلبة الإخوان الشيخ ويبدو أن الشعراوي قد شحن من قبل بعض المشايخ والطلبة الوفديين في المعهد، ضد طلاب الإخوان، وأنهم حذروه منهم، وأنهم قد يشغبون عليه في درسه أو نحو ذلك.

ومن دلائل ذلك: أني سألت الشيخ أثناء درسه في البلاغة سؤالا علميا بريئا، كما أفعل مع كل أساتذتي، فأنا بطبيعتي أحب أن أفهم، وأحب أن أناقش، ولا آخذ كل شيء قضية مسلَّمة، ولكن الشيخ الشعراوي اعتبر السؤال تحديا له، واستشاط غضبا، ظهر على صفحات وجهه، وقال لي يرد علي التحدي ـ في نظره ـ بتحد مثله أو أقوى منه: اسمع يا يوسف، إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا!! فقلت له: والله ما قصدت غير السؤال العلمي البحت، ولم يتجه تفكيري إلى ما فهمته قط.

وكان هو السؤال الأول والأخير، فلم أحاول أن أسأله بعد ذلك، حتى لا يسيء فهمي. ومضت السنة الدراسية، وجاء الامتحان، وكان من نزاهة الشعراوي أن منحني أعلى درجة في الفصل.

وفي السنة التالية ـ الخامسة الثانوية ـ كان قد وقع حل جماعة الإخوان في 8 ديسمبر 1949 وبعدها توترت الأوضاع، وحمي الوطيس، وقبض عليّ، ، ثم ذهابي إلى كلية أصول الدين، ولم ألق الشيخ الشعراوي وجها لوجه إلا بعد سنين، بعد أن أعرت إلى قطر، ولقيت الشيخ مصادفة، فقد ذهبت إلى موقف طنطا لأركب الأوتوبيس الذاهب إلى زفتى.

ثم تلاقينا بعد ذلك في مناسبات شتى، قد يأتي الحديث عن بعضها، آخرها حين اختارت لجنة دبي الدولية للقرآن الكريم الشيخ الشعراوي أول شخصية إسلامية تكرمها، وكلمني رئيس الجائزة وعدد من أعضائها يدعونني لحضور حفل تكريم الشيخ بصفته شخصية سنة 1418هـ ـ 1997م، فرحبت بالدعوة، وقلت لهم: إن للشيخ الشعراوي حقا عليّ، ويسرني أن أسهم في تكريمه.

والحق أن الشيخ رحمه الله سُرَّ سرورا بالغا بحضوري ومشاركتي، وذكرته بقصيدته القديمة التي ألقاها في حفل المعهد بمناسبة الهجرة النبوية، والتي ختمها ببيته الشهير:  كل دنيا تبنى على غير دين فبناء على شفير هار!.