يقول أبو سليمان الداراني: «بينما أنا ساجد إذ ذهب بي النوم، فإذا أنا بالحوراء، قد ركضتني برجلها، فقالت: يا حبيبي، أترقد عيناك، والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم؟ بؤسًا لعين آثرت لذة النوم على مناجاة العزيز. قم فقد دنا الفراق، ولقيَ المحبون بعضهم بعضًا، فما هذا الرقاد؟ حبيبي وقرة عيني! أترقد عيناك وأنا أُرَبَّى لك فى الخدور منذ كذا وكذا؟ فوثبتُ فَزِعًا، وقد عرقتُ استحياءً من توبيخها إياي، وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي».

من العادات السيئة التي انتشرت في شهر رمضان بحث بعض الناس عن المساجد التي تصلي بآية أو آيتين في صلاة القيام، بل ودخول بعض الأئمة في سباق مع الزمن أيهم ينتهي أولًا من الصلاة وكأنهم بذلك يجذبون الناس إلى المساجد ويحببونهم فيها من باب التيسير لا التعسير، والتخفيف لا التشديد! وأكثر من ذلك سعي البعض الآخر إلى ترك صلاة التراويح وإهمالها بالكلية.

وحينما نرجع قليلًا إلى سير الأولين ندرك الفرق الكبير بيننا وبينهم؛ فتروي كتب السير أن الصحابة (رضوان الله عليهم) كانوا لا يقرؤون بآية أو آيتين كما يصنع بعض المسلمين، فقد ورد عن السائب ابن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أبَي بن كعب وتميم الداري (رضي الله عنهما) أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلاَّ في فروع الفجر".

وكانوا يعدّون من يقرأ سورة البقرة في اثنتي عشرة ركعة من المخففين، فعن عبد الرحمن بن هُرْمز قال: "ما أدركت الناس إلاّ وهم يلعنون الكفرة في شهر رمضان، قال: فكان القراء يقومون بسورة البقرة في ثماني ركعات، فإذا قام بها القراء في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف عنهم".

وعن نافع بن عمر بن عبد الله قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: "كنت أقوم بالناس في شهر رمضان فأقرأ في الركعة الحمد لله فاطر ونحوها، وما يبلغني أنّ أحدًا يستثقل ذلك".

بل ورد أنهم كانوا يقومون الليل حتى يقترب الفجر، وما يكاد أحدهم ينتهي من السَّحَر حتى يؤذَّن للفجر، فعن مالك عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان من القيام، فيستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر".

وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله ويخفي ذلك، فإذا كان عند الصباح رفع صوته، كأنه قام تلك الساعة.

كل هذه الآثار تعطينا طرفًا من إخبات الناس لربهم لأنهم يعلمون أن رمضان شهر عبادة وتقوى وتنافس وتسابق في الأعمال الصالحة، ومن حكمة الله تعالى أن جعل هذه الأيام ميادين سباق، فالسعيد من اغتنم خيرها، والبعيد من حُرم استغلالها، وفَرَّط في حق نفسه وربه بتضييعها، ولم يقدم لنفسه زادًا، ورضي بالسكون والقعود مع القاعدين.

وإذا كانت التجارة لها مواسم فكذلك الطاعات لها مواسم، وكما يحاول الناس في مواسم التجارة أن يضاعفوا من نشاطهم ليزداد ربحهم، فمواسم الطاعات أولى أن يغتنمها المسلم ليرفع درجته عند الله في الآخرة.

اغتنم في الفراغ فضل ركـوع         فعسى أن يكون مـوتك بغـتة

كم صحيح رأيت من غير سقم         ذهبت نفسه الصحيحـة فلتـة

وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي والحاكم في مستدركه والبيهقي في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بقيام الليل فإنه دأَبُ الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد".      

ويقول ابن الحاج: «وفى القيام من الفوائد أنه يحط الذنوب كما يحط الريح العاصف الورق الجاف من الشجرة، وينوّر القلب، ويُحسِّن الوجه، وينشط البدن».

وقيل للحسن: «ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خَلَوْا بالرحمن فألبسهم من نوره».

ويقول سعيد بن المسيب: «إن الرجل ليصلى بالليل فيجعل الله في وجهه نورًا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إني لأحب هذا الرجل».

فهل بعد هذا الفضل نترك صلاة التراويح؟!