هو النعمان بن ثابت بن المَرْزُبان، وكنيته أبو حنيفة، من أبناء فارس الأحرار، ينتسب إلى أسرة شريفة في قومه، أصله من كابل (عاصمة أفغانستان اليوم)، أسلم جَدُّه المرزُبان أيام عمر رضي الله عنه، وتحوَّل إلى الكوفة، واتخذها سكنًا.

مولده ونشأته

وُلِد أبو حنيفة رحمه الله بالكوفة سنة ثمانين من الهجرة على القول الراجح (699م). ونشأ رحمه الله بالكوفة في أسرة مسلمة صالحة غنية كريمة، ويبدو أنه كان وحيد أبويه، وكان أبوه يبيع الأثواب في دكان له بالكوفة، ولقد خَلَف أبو حنيفة أباه بعد ذلك فيه.

حفظ أبو حنيفة القرآن الكريم في صغره، شأنه شأن أمثاله من ذوي النباهة والصلاح.

وحين بلغ السادسة عشرة من عمره خرج به أبوه لأداء فريضة الحج وزياة النبي صلى الله عليه وسلم ومسجده. وكان أول ما اتجه إليه أبو حنيفة من العلوم علم أصول الدين ومناقشة أهل الإلحاد والضلال، ولقد دخل البصرة أكثر من سبع وعشرين مرة، يناقش تارةً ويجادل ويرد الشبهات عن الشريعة تارة أخرى، وكان يدفع عن الشريعة ما يريد أهل الضلال أن يلصقوه بها، فناقش جهم بن صفوان حتى أسكته، وجادل الملاحدة حتى أقرَّهم على الشريعة، كما ناظر المعتزلة والخوارج فألزمهم الحجة، وجادل غلاة الشيعة فأقنعهم.

مضى الإمام أبو حنيفة رحمه الله في هذه السبيل من علم الكلام وأصول الدين، ومجادلة الزائغين وأهل الضلال، حتى أصبح عَلَمًا يُشار إليه بالبنان، وهو ما يزال في العشرين من عمره، وقد اتخذ حلقة خاصة في مسجد الكوفة، يجلس إليه فيها طلاب هذا النوع من العلوم. ثم توجَّه أبو حنيفه رحمه الله إلى علم الفقه، وتفقَّه على حمَّاد بن أبي سليمان، حتى صار مقرَّبًا عنده؛ قال حماد: "لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة".


من مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان :

1- الفقه :
 فالإمام أبو حنيفة النعمان قيل عنه:
((من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عالة على أبي حنيفة))
 يعني أنّ أبا حنيفة يقع في قمة الفقهاء، ليس غريباً: أن نرى أن مذهبه انتشر في الأمصار, حتى طبّق الآفاق، والشيء الذي لا يصدق: أن تلامذته هم الذين دونوا فقهه، وهذا يعني أنّ الإنسان حينما يصدق مع الله, ربما لا يتسع وقته للكتابة، لكن تلامذته الكبار هم الذين كتبوا، وقنَّنوا، وألَّفوا، ودرسوا، وحفظوا مذهبه .
 أحد العلماء يقول:
((رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أعلم الناس))
 ورأيت أفقه الناس، ماذا نستنبط؟ الدين واسع جداً، ومهما كان الإنسان عبقرياً, فإنّه يأخذ منه بطرف، وأن يحيط الإنسان بالدين كله, فهذا شيء شبه مستحيل، إلا أن كل إنسان يتفوق في جانب, وُيلِمُّ بجانب آخر، يُلِمُّ بجانب، ويتفوق بجانب، ولعل أبي حنيفة جمع في نفسه كل هذه الجوانب .
 هناك مثل لطيف يقول: تعلم كل شيء عن شيء، وشيئاً عن كل شيء، فما من مسلم متبحر في الدين, إلا له جانب يظهر فيه تبحره، إنسان تراه قمةً في التفسير، إنسان آخر تراه قمةً في علم الحديث، إنسان ثالث تراه قمةً في متن الحديث، إنسان متبحر في السيرة، إنسان متبحر في علم العقيدة، إنسان متبحر في الفكر المعادي للفكر الإسلامي، يرد على كل الشبهات ، إنسان متبحر في اللغة العربية التي هي وعاء هذا الدين، لذلك قالوا: العلماء ينبغي أن يكونوا متكاملين لا متنافسين .
 أجمل معنى أن كل عالم تفوق في جانب، وأَلَمَّ بجانب، والإلمام غير التفوق، العالم الثاني تفوق في الجانب الذي ألمَّ به الأول، وكان في جانبه الأول ملماً، فلو جمعنا كل العلماء لوجدناهم متكاملين، لذلك قالوا : النبي عليه الصلاة والسلام معصوم بمفرده، بينما أمته معصومة بمجموعها .
 والحقيقة: أن كل إنسان إذا تفوق في شيء, فلا بد مِن حدٍّ أدنى في بقية الأشياء، إنسان مثلاً تفوق في علم الحديث, فلا بد من حدٍّ أدنى في علم الفقه، ولا بد من حد أدنى من علم التفسير، ولا بد من حد أدنى من علم السيرة، هناك حد أدنى وحدٌّ أعلى، تفوَّقَ في جانب وألمَّ ببقية الجوانب، هذا أكمل ما يسمى: بالثقافة الموسوعية، والثقافة الاختصاصية .
 أحد العلماء يقول:
((رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أعلم الناس، ورأيت أفقه الناس, -ماذا نستنبط؟- فأما أعبد الناس فعبد العزيز بن أبي رواد، وأما أورع الناس فالفضيل بن عياض، وأما أعلم الناس فسفيان الثوري، وأما أفقه الناس فأبو حنيفة))
 أنا أتمنى على طلاب العلم الشباب أنْ يختار فرعًا ويتبحّر فيه، أنت طالب علم، تحضر مجالس علم، ألم يستهوك نوع من أنواع المعرفة الإسلامية؟ فاخترْ نوعاً، وتبحَّرْ فيه، ثم اقرأ عن كل شيء، فإذا اخترت نوعاً، وتبحرت فيه، ثم ألممت بكل شيء, جمعت بين الثقافة الموسوعية، والثقافة الاختصاصية، إذ ستصبح مرجعا في اختصاصك .
 والحقيقة: أنّ قيمة العلم لا تعدلها قيمة، ورتبة العلم أعلى الرتب، أكبر شخص بالحياة لا ينجح إلا إذا استعان بالخبراء، فمَن هم الخبراء؟ هم العلماء، ترى القرار لا يتخذ إلا بعد أن توضع أمامه خيارات، هذا الخيار، وهذه مضاعفاته، وهذه نتائجه، لذلك قال بعضهم: اللهم ارزقني حظاً تخدمني به أصحاب العقول، ولا ترزقني عقلاً أخدم به أصحاب الحظوظ .
 أبو حنيفة النعمان على طول باعه في العلم، ودقة استنباطه، وجولانه الرائع في الأحكام الفقهية، وكما هو في أعلى مستوى في الاستنباط، كان في أعلى مستوى في الورع، هذا الذي أردت أن أذكره لكم، أنّ الإنسان عندما يكون ورعاً, ينوِّر الله عز وجل بصيرته، ويلهمه الصواب، ويفتح الآفاق أمامه، بالتعبير الحديث تفجر طاقاته .

2- الورع :
 قال عبد الله بن المبارك :
((ما رأيت أحداً أورع من أبي حنيفة))
 وكلكم يعلم أن ركعتين من ورِع خير من ألف ركعة من مخلط، أما المخلط فهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، العمل الصالح مع السيئ، الصالح له قيمة عند الله، لكن الصالح إذا اختلط مع السيء, لا تستطيع من خلاله أن تتصل بالله، لأن العمل السيء حجاب، فمثل هذا الإنسان قيمة، ولكن قيمة محدودة .
 كما لو أن الإنسان اشترى عجلة سيارة، فهذه ليست سيارة, لن تستطيع أن تركبها، لن تستطيع أن تنطلق بها، لكن يمكن أن تبيعها، لها قيمة، ولكن محدودة، أما إذا ملكتَ مركبة متكاملة, فهذه تركبها وتسير بها، فالإسلام كمنهج متكامل ينقلك إلى الله، وتصل به إلى الله، تتصل بالله، تسعد بالله، تقطف ثمار هذا الاتصال، أما إذا اخترت أشياء من الإسلام أعجبتك، وهي هينة عليك، ولا تزعجك، وفعلتها, فقد تقطف ثمارها في الدنيا، أما أن تنقلك إلى الله, فهذا شيء صعب جداً، الإسلام منهج كامل، لا أقول لك: إما أن تأخذه كله، أو تدَعَهُ كله، هذا كلام أنا لا أقوله أبداً، ولكن ينبغي أن تأخذه كله، لأنّ الإسلام منهج, ينبغي أن تأخذه كله, من أجل أن تقطف ثماره، يعني الدارة يجب أن تستمر .
 مثلاً: بيت فيه غسالة، مكيف، مسجلة، مروحة، براد، مكواة, فيه عشرون أو ثلاثون آلة كهربائية، إذا لم يكن التيار متصلاً، فكل هذه الآلات لا قيمة لها، أما حينما يتصل التيار, تعمل كل الآلات .
 والحقيقة: أنّ تألق المسلم لا يكون إلا بطاعة الله، والإنسان يتألَّم أشدَّ الألم, حين يرى مسلمًا محجوبًا عن الله, لسبب تافه، لم ترتكب كبيرةً, ولم تقترف جريمةً، ولم تأكل مالاً حراماً ، ولم تقع في جريمة الزنا، ولا في جريمة السرقة، ولا شرب الخمر، لكن من أجل إطلاق البصر، وبعض المخالفات الاجتماعية، وبعض التساهلات في البيع والشراء، فهذه الذنوب الصغيرة تحجبك عن الله كالكبائر، فأنت مغبون جداً .
 لذلك إن الشيطان يئس أن يعبد في أرضكم، ولكن رضي مما دون ذلك, مما تحقرون من أعمالكم، يقول لك: ماذا فعلنا؟ هذه لا شيء عليها، هذه الصغائر التي نصر عليها تنقلب إلى كبائر, لذلك قال عبد الله بن المبارك:
((ما رأيت أحداً أورع من أبي حنيفة))

3- العلم :

 وقول شداد بن الحكيم:
((ما رأيت أحداً أعلم من أبي حنيفة))
 العلم والورع، وإن بعض الناس قد يكون مع الخط العريض، مع السواد الأعظم، مع الدهماء، مع سوقة الناس، يحيط به عدد، يقول لك: سكان القطر ثلاثة عشر مليونًا، فلتكنْ عَلَمًا بينهم، أليس هناك أعلام في القطر ؟ لمَ لا تكون مِن هؤلاء الأعلام؟ هناك أعلام في الدنيا، وأعلام في الآخرة، هناك أعلام في الدنيا والآخرة، فالطموح من خصائص الإنسان، ما رأيت أحداً أعلم من أبي حنيفة .
 وقال مكي بن إبراهيم:
((كان أعلم أهل زمانه))
 وهنا نقطة دقيقة، كلنا ضعاف، كلنا لا نعلم، كلنا فقراء، كلنا لا حيلة لنا، لكنك إذا طلبت شيئاً صادقاً منحك الله إياه، فالتفاضل فيما بيننا لا في قدرات ذاتية أودعها الله فينا، لا، لكن التفاضل فيما بيننا في مدى صدقنا في طلبنا، اطلب أيها الإنسان, أتعجز أن تطلب مِن الله؟ أنا أعجب حينما يقول الله عز وجل في الحديث القدسي المروي عن أَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ, حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ, نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
 رب العزة يقول لك: يا عبدي, اسألني حاجتك، اطلب مني المغفرة, تُبْ لأتوب عليك ، استغفر لأغفر لك، نحن ضعاف, وربنا سبحانه وتعالى كريم، فلا تكن من دهماء الناس، ولا من سوقتهم، ولا من الخط العريض من المجتمع، ولا مع الأكثرية الجاهلة، ولا مع الأكثرية التائهة، ولا مع الأكثرية الضالة، كن مع الأقلية الواعية .

4- ما وصفه الواصفون :

 قيل لأحدهم: صف لي أبا حنيفة، فقال:
((كان واللهِ شديد الذبِّ عن محارم الله - أي الدفاع, يعني أنت حجم إيمانك بحجم غيرتك على دين الله- طويل الصمت، دائم الفكر، لم يكن مهداراً ولا ثرثاراً, صائناً لدينه ونفسه، مشتغلاً بما هو فيه عن الناس, لا يذكر أحداً إلا بخير))

 فقال أحد الخلفاء:
((واللهِ هذه أخلاق الصالحين))
 كان والله شديد الذب عن محارم الله، طويل الصمت، والهَذَر يُوصَف به مَن كثر كلامه ، وكثر خطؤه، لكنّ أبا حنيفة طويل الصمت، دائم الفكر، لم يكن مهداراً، لا يهدر وقته بلا طائل، تقضي ساعتين أو ثلاثًا, لتشاهد أحداث قصة, فتتعب أعصابك، وتحطم نفسك، وتشتهي، ولا تستطيع، تنتهي وقد ضعفت قواك، وضعفت معنوياتك، هذا هدر للوقت، وانحدار عن الطريق الصحيح، صائناً لدينه ونفسه، مشتغلاً بما هو فيه عن الناس، فطوبى لمن شغله عيبُه عن عيوب الناس، لا يذكر أحداً إلا بخير .
 النبي صلى الله عليه وسلم علمنا، والسيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام, كان مع الحواريين، فإذا بجيفة في الطريق، فقالوا:
((ما أشد نتن ريحها! فقال: ما أشد بياض أسنانها))
 أنت من الممكن أن تكتشف في الإنسان النواحي الإيجابية، وهذا أعظم شيء في الإنسان، هناك شخص قناص، يبحث عن الأخطاء, وعن العيوب، وعن نقاط الضعف في الإنسان، فيكبرها، ويشهر بها، ثم يفضحها، لكنْ هناك إنسان يبحث عن الإيجابيات، فيقدرها، وينميها، ثم يرعاها، وهذا هو المؤمن، يقرِّب ولا يبعِّد، ينمي ولا يحطم، يأخذ بيد الآخرين، ولا يعيب عليهم، ولا يبني مجده على أنقاضهم، ولا يذكر أحداً إلا بخير، فقال الخليفة هارون الرشيد:
((هذه والله أخلاق الصالحين))

5- أبو حنيفة لا يغتاب أحداً :

 قال ابن المبارك أيضاً:

((ما أبعد أبي حنيفة من الغيبة، ما سمعته يغتاب عدواً قط))
 طبعاً إلا إذا سئل، وعندنا رخص أساسية؛ كزواج، أو شراكة، أو إنسان مبتدع، ظلامة، أمّا سوى ذلك فكان ينزه لسانه عن غيبة أعدائه .
 فقال سفيان:
((هو واللهِ أعقل من أن يُسَلِطَ على حسناته ما يذهب بها))
 المشكلة أحيانا يطالعك حديث شريف صحيح تقرؤه، فمِن ضعف الإيمان لا تشعر أن هذا الحديث واقع مائة بالمائة، أما قال سيدنا سعد بن أبي وقاص:
((ثلاث أنا فيهن رجل، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس، من هذه الثلاثة: ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى))
 النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد بأحاديث كثيرة: أن الذي يغتاب الناس يوم القيامة يأخذ الذين اغتابهم من حسناته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي, مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ, وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا, وَقَذَفَ هَذَا, وَأَكَلَ مَالَ هَذَا, فَيُقْعَدُ؛ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ, وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ, فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا, أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ, فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ, ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
 لذلك كما قال بعض الصالحين:
((لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت أبي وأمي لأنهم أولى بحسناتي))
 وقال أحدهم أيضاً:
((أيعقل أن أغتاب أحداً فأمكنه من حسناتي؟))
 عندي عقل سليم، يجب أن نعتقد اعتقاداً جازماً: أنك إذا اغتبت إنساناً سوف يقف يوم القيامة ليأخذ من حسناتك، فإذا فنيت هذه الحسنات طرح عليك من سيئاته .
 ديننا استقامة، ديننا التزام، ديننا حسن ظن .

6- لا يأخذ الحديث إلا بما صح عن رسول الله :

 أيضاً من خصائص هذا الإمام العظيم: أنه يأخذ بما صح عنده من الأحاديث التي يحملها الثقاة، ومِن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم، وهناك أحاديث كثيرة موضوعة، هذه تفرّق، وتشتت، وتضيع، يجب أن تحرص على صحة الحديث كما تحرص على سلامة دينك، لأن الدين في الأصل نقل، وأخطر ما في النقل صحَّتُه، لو اكتفينا بالصحاح لاجتمعنا بعد التفرق، لأحب بعضنا بعضاً، لكن ما من انحراف في السلوك, أو في العقيدة, إلا أساسه حديث ضعيف أو موضوع، الأحاديث التي وضعها الوضَّاعون هي التي تفرقنا، هي التي تضعفنا، هي التي تشتتُ شملنا، أما القرآن والسنة كما قلت من قبل، وأقول الآن: هما اللذان يجمعاننا .
 وأنا أقول ولعله من باب المبالغة، قال بعضهم:
((صلى أبو حنيفة فيما حفظ عليه صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنةً))
 يعني أنه ما نام أبداً, فهذا خبرٌ يطرح تساؤلاً، لأن الإنسان له طاقة، وله خصائص .
 لقد سمعت قولاً لسيدنا عمر، أو قصة له, أحجمتُ عن ذكرها مدة طويلة، ما توازنت مع العقل، خلاصتها: أنه لما جاءه من أذربيجان رسول عاملِه عليها، ودخل المسجد ليلاً, ولم يذهب إلى بيته, لئلا يوقظه، فرآه في المسجد، قال:
((من أنت؟ قال: أنا عمر، قال: أمير المؤمنين، قال: نعم، قال: يرحمك الله ألا تنام الليل؟ -فالنص الذي كنت قد قرأته سابقاً- قال له عمر: إني إن نمت ليلي أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي))
 معنى هذا أنه لا ينام الليل ولا النهار، وهذا فوق طاقة البشر, فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((... أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))
[ أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح]
 فليس من المعقول مِن إنسان لا ينام أبداً، بل إذا لم ينَم الإنسان يومين يختل توازنه، قال تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً﴾
[ سورة النبأ الآية: 9-10]
 فهذه الرواية -واللهُ أعلم- أنه صلى صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة مبالَغ فيها .
 وعن أبي يوسف قال:
((بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لرجل: هذا أبو حنيفة الذي لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: والِله لا يتحدث الناسُ عني بما لا أفعل))
 هذه الثانية توضح أن الأولى مبالغ بها .
 فكان يحيي بعضاً من الليل؛ صلاةً، ودعاءً، وتضرعاً، هذه الرواية صحيحة، وتتوافق مع المنطق .

7- شهادة الناس له بالخير :

 ويقول بعضهم:
((ما رأيت رجلاً خيراً من أبي حنيفة))
 المؤمن الصادق مصدر خير، مصدر أمن، مصدر عطاء، بنى حياته على العطاء، محب للخير، وكما قيل: ألسنة الخلق أقلام الحق، فإذا أثنى على الإنسانِ الناسُ جميعاً, فهذا دليل صلاحه، لذلك حينما أثنى بعض الصحابة على إنسان توفي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي: وجبت، أيْ وجبت له الجنة، كما روى البخاري:
((... أَيُّمَا مُسْلِمٍ, شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ, أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ, قُلْنَا: وَثَلاثَةٌ, قَالَ: وَثَلاثَةٌ, قُلْتُ: وَاثْنَانِ, قَالَ: وَاثْنَانِ, ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
 ما دام الناس يثنون عليه هذا الثناء, ففي الأعم الأغلب أنه صالح، لذلك قالوا: ما رأيت رجلاً خيراً من أبي حنيفة، وأبو حنيفة أفضل أهل زمانه .

8- من صفاته أيضاً: أنه يكثر الصلاة, ويعظم الأمانة, وأنه صاحب مروءة :

 وقال ابن عيينة:
((كان أبو حنيفة أكثر الناس صلاةً))
 الصلاة عماد الدين، وفي الدين قضية هامة، أنه مبني على شيئين؛ على سلوك صحيح، وعلى اتصال بالله، وأحياناً الإنسان يميل إلى الضغط، ويميل إلى فهم الدين فهمًا مضغوطًا، قال الله عز وجل:
﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً﴾
[ سورة مريم الآية: 31]
 الدين حركة نحو الله، وحركة نحو الخلق، نحو الخلق خدمةً، ونحو الله اتصالاً، إذا أردت أن تلخص الدين كله في كلمتين: فهو إحسان للمخلوقين، واتصال بالخالق، لذلك قال ابن عيينة:
((كان أبو حنيفة أكثر الناس صلاةً، وأعظمهم أمانةً، وأحسنهم مروءةً))
 وفي الحديث الصحيح عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
((مَا خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, إِلا قَالَ: لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ, وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ))
[ أخرجه أحمد في مسنده]
 أحياناً الإنسان يهدر دينه كله بكلمة، كلمة كذب، بإخلاف وعد, بنقض عهد، بخيانة أمانة، يهدر دينه، قولوا له: إنه أبطل جهاده مع رسول الله .
 بصراحة هناك أعمال إذا فعلها الإنسان, تحوِّل عباداتِه وأعمالَه الصالحةَ إلى الحاوية، صلاته، وصيامه، وأذكاره, وحضور المساجد، إذا كان يغدر، يأخذ ما ليس له، يكذب، يحتال، إنسان تمكن بقوته أن يأخذ بيتاً ثمنه خمسة عشر مليوناً بتسعمئة ألف، بعد أن تملكه، بل بعد أن اغتصبه, عرضه للبيع بخمسة عشر مليون, وهو لا يقطع الصلوات في المساجد، السيدة عائشة تقول: قولوا له:
((إنه أبطل جهاده مع رسول الله))
 قولوا لمثل هذا الإنسان: إنه أبطل عمله، وأبطل صلاته .
 دقق أيها الأخ، من علامات آخر الزمان: أن الإنسان يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، يبيع دينه بيمين غموس كاذبة، يبيع دينه ببيت يغتصبه، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
[ سورة التوبة الآية: 24]
 قال ابن عيينة:
((كان أبو حنيفة أكثر الناس صلاةً، وأعظمهم أمانةً، وأحسنهم مروءةً))
 عندنا في ميزان الأخلاق: كلمة مروءة، وكلمة لؤم .
 والحقيقة: هذه أخلاق جامعة؛ الخسة، والدناءة، والبخل، والكبر، والأنانية، تُجمَع في كلمة لؤم, بينما الكرم، والعطف، والرحمة، والشفقة، والشجاعة، والإقدام، والعفو، تجمع في كلمة مروءة، فالمروءة مجمع الفضائل، واللؤم مجمع الرذائل .
 لذلك فالذي سرق الفرس قال له صاحبها:
((لقد وهبت لك هذه الفرس، ولن أسأل عنها بعد اليوم، ولكن إياك أن تُشيعَ هذا الخبر في الصحراء، فتذهب منها المروءة، وفي ذهابها يذهب أجمل ما فيها))
 حياتنا أجمل شيء فيها؛ أنْ يكون لك جار محب، إذا سافرت يحفظ أهلك، أجمل شيء في الحياة؛ أخ في الله معك دائماً, يعينك، سند لك، مستشار لك، معين بأفكاره، بعواطفه ، بماله، بنصيحته، الحياة من دون قيم, لا قيمة لها، والحياة من دون تعاون, جحيم لا رحمة فيها، والحياة من دون حب, لا خير فيها .
 ذات يوم أقيم حفل وداع لأستاذ في الجامعة، كان أستاذا لنا، الحفل كان موفقاً جداً، بعد أن أُلقِيت الكلمات في الإشادة بعلمه وفضله, قام هو خطيباً، فقال: كل إنسان لا يشعر بحاجة إلى أن يُحِب الآخرين، أو أن يُحَب مِن قِبَل الآخرين، ومن لا يحِب ولا يُحَب, فليس من بني البشر, ليس إنسانًا، بل هو وحش شرس .
 يجب أن تشعر بحاجة هي أن تحِب، ماذا تحِب؟ أن تحب الله، أن تحب الحقيقة، أن تحب الأنبياء الكُمَّل، قمم البشر، أن تحب المؤمنين، أن تحب الكاملين، أن تحب المحسنين، إذا كان قلبك لا يخفق بحبٍ لإنسان كامل, فأنت لست من بني البشر، وينبغي أن تشعر بحاجة لا إلى أن تُحِب فحسب، بل إلى أن تُحَب أيضًا، يجب أن تعطي من وقتك، ومن مالك، ومن عواطفك، ومن مشاعرك، ومن نصيحتك، فالإنسان الذي لا يجد في نفسه حاجة إلى أن يُحِب، ولا إلى أن يُحَب, فهذا ليس من بني البشر .
 حياة من دون حب, كزرع بغير ماءٍ، حياة من دون قيم, لا قيمة لها، من دون أخ في الله, صادق لا يكذبك، صالح لا يخونك، مخلص نحوك, لا خيرَ لها، أنتم لا تعرفون قيمة أن يكون لك أخوة في المسجد، هذه نعمة، واللهِ لا تقدر بثمن .
 مرة جاءتني بطارية تُشحن بالكهرباء، فلم أشحنها، وأنا بحاجة إلى أن أستعملها, ترى ضوءها خافتًا، يكاد ينطفئ، وحينما أشحنها جيداً, يصبح ضوءها كالشمس, قلت: هذا حال المؤمن أيضًا، فلا بد له من شحن، أنت لا تقلل من قيمة هذا الدرس، درس العلم شحن، تشحن عواطفك، تشحن مشاعرك، تشحن أفكارك، تأخذ طاقة جديدة وتُغسَل أيضاً، لأنك دخلت إلى بيت الله عز وجل، ألا إنّ الإنسان إذا دخل بيت جاره أو صديقه, فإنّه يكرمه, ويضيفه، ولو بالماء، فالحد الأدنى شربة ماء, وإذا دخلت إلى المسجد, فأنت في بيت من بيوت الله، وحقٌّ على المزور أن يكرم الزائر، لكن الله لا يضيفك شيئًا تأكله، بل يقذف بالسعادة, فإذا هي تملأ نفسك طمأنينة، وتوفيقًا في حياتك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ, وَإِذَا خَرَجَ, فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ))
[ أخرجه مسلم في الصحيح]

9- أمانته :

 قال ابن عيينة:
((ما رأيت أحسن أمانة من أبي حنيفة، مات وعنده ودائع بخمسين ألفاً، فما أضاع منها دينارًا واحدًا))
 وقد تشعر أن فلاناً إن استودعته مالك, فكأنه في جيبك، هذا شعور دقيق، بأنه لا يمكن أن يخون الأمانة، هذا الإيمان .
 فأخواننا التجار يكون عندهم موظفون، يقول لك: هذا الموظف أخطاؤه كبيرة، ولكن له ميزة كبيرة جداً، أنه أمين، هذه تُنسِي كل سيئة، أنا من باب التعليقات أقول لمن عنده عمل تجاري، أو عمل صناعي، وعنده موظفون: إذا عندك رجل أمين وذكي، فمهما أغدقت عليه، فأنت الرابح، أمّا إذا كان ضمن العمل موظف قليل أمانة, فهذه مشكلة كبيرة جداً .

10- حلمه :

 يقول ابن المبارك:
((ما رأيت رجلاً أحلم من أبي حنيفة، ولا أحسن سمتاً منه))
 لقد كاد الحليم أن يكون نبياً، لأنّ الحلم سيد الأخلاق، وإنّه مهما اُسْتُفِزَّ الحليمُ لم يُسْتَفَزَّ، أحياناً تجد إنساناً كالسفينة في عباب الماء، كأنها جبل، الأمواج الصغيرة تتكسر على جدرانها، أما القارب الصغير فأقلُّ موجة تقلبه، فهناك إنسان كالقارب الصغير، وهناك إنسان كالسفينة الشامخة، كأنها جبل في البحر، هناك شخص لا تهزه الأحداث، ولا تستخفه التقلُّباتُ، وهناك إنسان تستخفه الدنيا، إذا آتاه الله منها شيئاً فوق طاقة تحمله, اختلَّ توازنُه .

11- التشبيه الذي وصف به أبو حنيفة :

 قال:
((كان أبو حنيفة بين العلماء كالخليفة بين الأمراء))
 أيْ كان سيد العلماء، ومن علامات فهمه الدقيق أنْ قيل عنه:
((كان أبو حنيفة رجل فهمٍ متثبتاً، إذا صح عنده الخبر عن رسول الله, لم يَعْدُهُ إلى غيره))
 ممكن أن تذكر لإنسان حديثًا صحيحًا قطعيَ الدلالة، ويفكر بكلام شخص معاصر, أن هذا الكلام أصح من كلام رسول الله, معنى هذا أنه لا إيمان له إطلاقاً، قال تعالى:
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾
[سورة النساء الآية: 65]
 فعلامة الإيمان أن تستسلم لحكم رسول الله، وهذه آية ثانية:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾
[ سورة الأحزاب الآية: 36]
 قضية بَتَّ فيها القرآن، وقضية أدلى بها النبي العدنان، لمجرد أن تضعها على بساط البحث، وأن تخضعها للمناقشة، فأنت لست مؤمناً، لأنه ما كان لمؤمن ولا لمؤمنة الخيرة في ذلك .

12- علمه بتفسير الحديث :

 وعن أبي يوسف:
((ما رأيت أحداً أعلم بتفسير الحديث من أبي حنيفة، كان مثلاً يقول في مسألة: ما عندكم فيها من الآثار؟ فنذكر ما عندنا ويذكر ما عنده؛ ثم ينظر فإن كانت الآثار في أحد القولين أكثر, أخذ بالأكثر، وإن تكافأت أو تقاربت, نظر فاختار))
 استنباط الحكم الفقهي، قد تجد أشخاصًا يريدون أن يفهموا الأحكام الفقهية من الحديث مباشرةً، دون أن يعودوا إلى هؤلاء العلماء الكبار، كأنهم أهدروا عمل ألف عام، وهذا مثل يصح في هذا المجال، لو أردنا أن نصنع طائرات الآن، واستقدمنا إلى بلادنا أعظم معمل، فهل نبدأ بصنع طائرةٍ من تجربة العباس بن فرناس، أم من تجربة أحدث شركة طيران؟ هل من المعقول أن تهدر جهود ألف عام على الأرض، وتبدأ من العباس بن فرناس، وتصنع لنفسك جناحين، ثم تهبط ميتًا، أم تأخذ أحدث شركة، وتنظر أين وصلوا؟ فإذا أحَبَّ الإنسان أن يلغي كل الفقه، وكل الاجتهاد، ويبحث هو عن الحكم الشرعي من الحديث مباشرةً، فكأنه أهدر جهود العلماء في ألف وخمسمئة عام .
 لذلك كان أبو حنيفة كما قيل:
((ما رأيت أحداً أعلم بتفسير الحديث من أبي حنيفة))

13- اجتهاده :

 قال:
((كنا نختلف في المسألة، فنأتي أبا حنيفة، فنسأله، فكأنما يخرجها من كمه فيدفعها إلينا))
 أحيانا الإنسان يفكر، ويقول: اتركها لي, حتى أراجعها، وقد تطرح سؤالاً على إنسان، وتجد الجواب جاهزًا، كأنه أمامه، كأنه أخرجه من كمه، هذه علامة علم عالية، علم راسخ .
 سمعت أبا حنيفة يقول:
((ما جاء عن رسول الله فعلى العين والرأس - لأنه معصوم-, وما جاء عن أصحاب رسول الله اخترنا -لأنهم غير معصومين -, وما كان غير ذلك, فنحن رجال وهم رجال))

14- صنعته :

 قالوا:
((كان أبو حنيفة خزازاً))
 فروي أن رجلاً جاءه, فقال:
((يا أبا حنيفة، قد احتجت إلى ثوب خز، قال: ما لونه؟ قال: كذا وكذا، قال: اصبر حتى يقع، وآخذه لك، فما دارت الجمعة حتى وقع، فجاء الرجل وقال له أبو حنيفة: قد وقعت على حاجتك، ثم أخرج إليه ثوباً، فأعجبه ، قال: يا أبا حنيفة, كم أزن للغلام؟ قال: درهماً، قال: أتهزأ بي؟ قال: لا، والله إني اشتريت ثوبين بعشرين ديناراً ودرهمًا، فبعت أحدهما بعشرين ديناراً، وبقي هذا بدرهم، وما كنت لأربح على صديق, فأخذه))
 يعني أعطاه إياه بدرهم، لأنه قال له: يا أبا حنيفة أحسن بالبيع .
 جاءت امرأة إلى أبي حنيفة بثوب تعرضه عليه, قال:
((بكم تبيعينه؟ قالت: بمائة درهم، قال لها: هو خير من ذلك، قالت: بمائتين، قال: هو خير من ذلك، قالت: بثلاثمائة، قال: هو خير من ذلك، قالت: بأربعمائة، قال: هو خير من ذلك، وأنا آخذه بأربعمائة، حتى أربح به))
 كان لأبي حنيفة شريك، فباع شريكه متاعًا، وكان في هذا المتاع عيبٌ، فقال له:
((إذا بعت هذا الثوب, فأَبِنْ عيبه، فالشريك باعه، ولم يُبِنْ عيبه، فلما علم أبو حنيفة, تصدَّق بثمن المتاع كله))
 لأنّ البيع صار فيه شبهة، ولم يعرف من اشتراه, ليبيِّن له العيب .

15- تقاه :
 وقال عنه يحيى بن سعيد:
((كنت إذا رأيت أبا حنيفة علمت أنه يتقي الله))
 الحقيقة: يجب ألاّ نقول عن إنسان: إنه صاحب دين, إذا كان يصلي فقط، بل يجب أن ترى دينَه في حديثه، وفي غض بصره، وفي استقامته، والدين لا يؤخذ من عبادات شكلية ، بل يؤخذ من سلوك يومي .

16- العقل الذي كان يتمتع به :
 قال:
((لو وُزِنَ عقل أبي حنيفة بعقل نصف أهل الأرض لرجح بهم))
 هذه من نعم الله الكبرى: أن يؤتى الإنسان عقلاً راجحاً، وكان أبو حنيفة يتبين عقله؛ في منطقه، ومشيه، ومدخله، ومخرجه .
 يقول أبو حنيفة نقلا عن أبي يوسف, قال: قال لي أبو حنيفة:
((لا تسألني عن أمر الدين، وأنا ماش، ولا أنا قائم، ولا أنا متكئ، فإن هذه الأماكن, لا يجتمع فيها عقل الرجل))
 فالإنسان أحيانا بعد خطبة مضنية, يُسأَل سؤالاً متعلقًا بالرضاع، أو بالميراث، فليعلمْ هذا الإنسان أنّ السؤال يحتاج الجواب عنه إلى فترةِ هدوء، وجلسة، وكتابة، أما أنْ يسأل وهو ماشٍ سؤالاً معقَّدًا في المواريث، فالإنسان السائل من حكمته أن يسأل في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، وفي الحالة المناسبة، فقد يطرح الإنسان سؤالاً في وقت غير مناسب، ويشعر أن الجواب مضطرب، لأن الوقت غير مناسب، والمكان غير مناسب، والحال غير مناسب، فلا تسألني عن أمر الدين، وأنا ماش، ولا أنا قائم، ولا أنا متكئ، فإن هذه الأماكن لا يجتمع فيها عقل الرجل .
 ومرة أجاز أبو جعفر المنصور أبا حنيفة بثلاثين ألف درهم, فلما قدم عليه بغداد قال:
((يا أمير المؤمنين، إنني غريب في بغداد، وليس لي منزل، فاجعلها في بيت المال، وليس عندي مكان أحفظها فيه, فإذا خرجت من بغداد أخذتها، قال له أبو جعفر: ليكن ذلك، فلما مات أبو حنيفة أخرجت ودائع الناس من بيته، فقال أبو جعفر: لقد خدعنا أبو حنيفة))
 يعني ما أخذ المال، وأعاده إليه بلطف .
 مرة كان أبو حنيفة عند أبي جعفر المنصور، وعنده قاضٍ من أعداء أبي حنيفة، كان ينكر عليه، فسأله سؤالاً محرجًا، قال له:
((إذا أمرني الخليفة بقتل امرئ، أأقتله أم أتريث؟ -سؤال محرج, إذا قال له: لا تقتله، واعصِ أمرَ الخليفة, وقع في مشكلة، وإذا قال له: اقتله فقد أغضب الله عز وجل- قال له الخليفة: على الحق أم على الباطل في هذا الأمر؟ فالكرة رُدَّت إلى القاضي، فقال له: على الحق، فقال له: كن مع الحق، فلما خرج, قال أبو حنيفة: أراد أن يقيدني فربطته))
 قال له مرةً أبو جعفر:
((يا أبا حنيفة لو تغشيتنا, تعال إلى عندنا, قال: ولمَ أتغشاكم، وليس لي عندكم شيء أخافكم عليه، وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء؟ قال له: إنك إن قربتني فتنتني, وإن أبعدتني أزريتني))
 أيْ حقرتني .
 ومرة دخل عليه خارجيان، والخوارج يُكَفِّرون بالذنب الصغير، فقالا له، وسيوفهما عليه ليقتلا:
((فلان فعل كذا وكذا، مسلم أم كافر؟ فإذا قال لهم: كافر قتلوه، وإذا قال لهم: مسلم, قتلوه أيضًا، -لأنهم يعتقدون أنه كافر- فقال لهم: هذا الرجل يهودي أم نصراني؟ فقالا: لا, هو مسلم، قال: هذا هو الجواب، لقد أوتي عقلاً راجحاً))
 ويعني أن المتهم لديهم مسلم ، ولا يُقتل .

وفاته :
 أيها الأخوة الكرام، قالوا:
((يوم مات أبو حنيفة, صُلِّيَ عليه ست مرات, من كثرة الزحام، وكان الناس يزورون قبره أكثر من أربعين يوماً بعد وفاته))
 وروى أحدهم أنه رأى أبا حنيفة في النوم بعد موته، قال:
((يا أبا حنيفة, إلام صرت؟ قال: إلى رحمة الله تعالى، قلت: بالعلم، قال: هيهات للعلم شروط وآفات، قَلَّ من ينجو منها، ولكن بمَ؟ قال: بقول الناس ما لم أكن عليه))
 يعني بما كان يُعمل من علمه، فبهذا نجا .