عبقرية فذة لمجاهد متمرس وقائد صلب أقض مضاجع الصهاينة وحمل راية المقاومة مستعينًا بإيمان عميق بقضيته العادلة وراغبًا في تحقيق أمنتيه الدائمة بالشهادة في سبيل الله.. إنه -المهندس- الشهيد يحيى عياش الذي يوافق اليوم ذكرى استشهادة بعد رحلة جهادية حافلة غيرت تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني، ونقلت المقاومة الفلسطينية لمراحل متطورة إيجابيًّا في طريق التحرر الوطني.

نشأة إيمانية

ولد الشهيد يحيى عبد اللطيف عياش و نشأ في قرية رافات بين نابلس وقلقيلة لعائلة متديّنة محافظة، درس في مدرسة القرية الابتدائية وواصل دراسته الإعدادية والثانوية وحصل في امتحان التوجيهي على معدل 92.8 % في القسم العلمي ليلتحق بجامعة بيرزيت في قسم الهندسة الكهربائية، وكان أحد ناشطي الكتلة الإسلامية أثناء الدراسة، و بعد تخرّجه حاول الحصول على تصريح خروج للسفر إلى الأردن لإتمام دراسته العليا ولكن السلطات الصهيونية رفضت طلبه، تخرّج في الجامعة عام 1991م بتفوّق، وتزوّج من ابنة عمه بتاريخ 9 أيلول (سبتمبر) 1992م ورزِق منها بطفله الأول براء في 1 كانون الثاني (يناير) 1993م و كان حينها مطاردًا، و قبل استشهاده بيومين فقط رزِق بابنه الثاني عبد اللطيف تيمّنًا باسم والده، غير أن العائلة أعادت يحيى إلى البيت حين أطلقت على الطفل عبد اللطيف اسم يحيى.

عمِل يحيى بجدٍّ و نشاط، وقام بكافة التكاليف وأعباء الدعوة الإسلامية سواء داخل الجامعة أو في مدينة رام الله أو قريته رافات، ووظّف المهندس سيارة والده التي اشتراها في خدمة الحركة الإسلامية حين دأب على السفر إلى رافات، وقام بإرساء الأساسات وشكّل أنوية لمجموعات من الشباب المسلم الملتزم. وحينما انفتح الأفق على حركة المقاومة الإسلامية "حماس". كانت هذه المجموعات في طليعة السواعد الرامية خلال سنوات الانتفاضة المباركة الأولى، و نظرًا للدور الريادي الذي قام به وحكمته وأدبه وأخلاقه فقد اعتبرته الفصائل الفلسطينية (شيخ الحركة الإسلامية في رافات) ، وترجع إليه في كافة الأمور التي تتعلق بالفعاليات أو الإشكاليات خلال الأعوام (1988 - 1992) .

مهندس العمليات

مع انطلاق شرارة الانتفاضة؛ كان عياش مهندسًا للعديد من العمليات حيث أرسل رسالة إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام يوضّح لهم فيها خطة لمجاهدة اليهود عبر العمليات الاستشهادية وأصبحت مهمة يحيى عياش إعداد السيارات المفخّخة والعبوات شديدة الانفجار.

أدرِج المهندس على قائمة المطلوبين لقوات الاحتلال لأول مرة في نوفمبر سنة 1992 إثر اكتشاف السيارة المفخّخة في رمات والتي أعلنت كتائب الشهيد عز الدين القسام مسئوليتها عن تفجيرها. و في السادس عشر من أبريل سنة 1993 وفي مفترق "محولا" في الغور نفِّذ هجوم استشهادي بمحاذاة حافلة ركاب صهيونية قتِل فيها صهيوني وأصيب تسعة آخرون، وفي أغسطس 1993 وبتوجيه من المهندس نفّذ علي عاصي ومحمد عثمان هجومًا نحو موقع للجيش الصهيوني قرب مفرق قرب مفرق كفر بلوط أسفر عن مقتل جنديين، وفي يناير 1994 توجّه مع علي عاصي يحمل عبوة ناسفة محكمة ووضعها في ميدان رماية للجيش الصهيوني في منطقة رأس العين وانفجرت العبوة وأصيب جنديان بجروح خطيرة، وانطلق الشهيد (ساهر تمام) في سيارته المفخخة التي أعدها المهندس لتتفجّر بجوار باصٍ صهيوني يقلّ جنودًا من جيش الاحتلال وقد أصيب ثلاثون جنديًّا بجراحٍ، ثم انطلق الشهيد الشيخ سليمان بسيارته المفخّخة و بجوار باصٍ ينفجر حيث قتل شخصان وأصيب ثمانية بجراح.

عملياته النوعية:

عبقرية القائد "يحيى عياش" نقلت المعركة إلى قلب المناطق الآمنة التي يدّعي الصهاينة أن أجهزتهم الأمنية تسيطر فيها على الوضع تمامًا؛ فبعد العمليات المتعددة التي نُفّذت ضد مراكز الاحتلال والدوريات العسكرية نفّذ مجاهدو حماس بتخطيطٍ من قائدهم عياش عددًا من العمليات، أهمها:

- 6 نيسان 1994: الشهيد "رائد زكارنة" يفجّر سيارة مفخّخة قرب حافلة صهيونية في مدينة العفولة؛ مما أدّى إلى مقتل ثمانية صهاينة، وجرح ما لا يقل عن ثلاثين. وقالت حماس إن الهجوم هو ردّها الأول على مذبحة المصلين في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل.

- 13 نيسان 1994: مجاهد آخر من حركة "حماس" هو الشهيد عمار عمارنة يفجر شحنة ناسفة ثبتها على جسمه داخل حافلة صهيونية في مدينة الخضيرة داخل "الخط الأخضر"؛ مما أدّى إلى مقتل 7 صهاينة و جرح العشرات.

- 19 تشرين أول 1994: الشهيد صالح نزال -و هو مجاهد في كتائب الشهيد عز الدين القسام- يفجّر نفسه داخل حافلة ركاب صهيونية في شارع "ديزنغوف" في مدينة "تل أبيب" ؛ مما أدّى إلى مقتل 22 صهيونيًّا و جرح ما لا يقل عن 40 آخرين.

- كانون أول 1994: الشهيد أسامة راضي -و هو شرطي فلسطيني وعضو سري في مجموعات القسام- يفجّر نفسه قرب حافلة تقلّ جنودًا في سلاح الجو الصهيوني في القدس، و يجرح 13 جنديًّا.

- 22 كانون ثان 1995: مقاتلان فلسطينيان يفجران نفسيهما في محطة للعسكريين الصهاينة في منطقة بيت ليد قرب نتانيا؛ مما أدّى إلى مقتل 23 جنديًّا صهيونيًّا، وجرح 40 آخرين في هجوم وُصف أنه الأقوى من نوعه، وقالت المصادر العسكرية الصهيونية إن التحقيقات تشير إلى وجود بصمات المهندس في تركيب العبوات الناسفة.

- 9 نيسان 1995: حركتا حماس والجهاد الإسلامي تنفّذان هجومين استشهاديين ضد مستوطنين صهاينة في قطاع غزة؛ مما أدّى إلى مقتل 7 مستوطنين؛ ردًّا على جريمة الاستخبارات الصهيونية في تفجير منزل في حيّ الشيخ رضوان في غزة، أدّى إلى استشهاد نحو خمسة فلسطينيين، وبينهم الشهيد "كمال كحيل" أحد قادة مجموعات القسام ومساعد له.

- 24 تموز 1995: مقاتل استشهادي من مجموعات تلاميذ المهندس "يحيى عياش" التابعة لكتائب الشهيد "عز الدين القسام" يفجّر شحنة ناسفة ثبتها على جسمه داخل حافلة ركاب صهيونية في "رامات غان" بالقرب من "تل أبيب" ؛ مما أدّى إلى مصرع 6 صهاينة و جرح 33 آخرين.

- 21 آب 1995: هجوم استشهاديّ آخر استهدف حافلة صهيونية للركاب في حيّ رامات أشكول في مدينة القدس المحتلة؛ مما أسفر عن مقتل 5 صهاينة، وإصابة أكثر من 100 آخرين بجروح، وقد أعلن تلاميذ المهندس يحيى عياش مسئوليتهم عن الهجوم.

وقد وصل مجموع ما قُتل بيد "المهندس" وتلاميذه ما يزيد عن ستة وسبعين صهيونيًّا، وجرح ما يزيد عن أربعمائة آخرين.
ونتيجة الملاحقة المكثّفة للمهندس واعتقال كلّ من شاهد أو سمع أو علم به في الضفة يضيق الخناق، وينقل المهندس مركز نشاطه إلى قطاع غزة، ونجاح القائد أبو البراء في الوصول إلى غزة يعدّ بحد ذاته ضربة قاسية للكيان الصهيوني. وفي الخامس والعشرين من كانون الأول 1994 يتقدّم أيمن راضي من خان يونس يحمل حقيبة الرعب ويفجّر نفسه قرب حافلة جنود بجوار مباني الأمة في القدس ليقتل صهيونيًّا ويصيب ثلاثة عشر آخرين بجراح.

وفي التاسع من نيسان 1995 تنفجر سيارة عماد أبو أمونة قرب نتساريم في قطاع غزة ثأرًا لدماء الشهيد القائد كمال كحيل وإخوانه، وفي الخامس والعشرين من حزيران 1995 تنفجر عربة معاوية روقة قرب حافلتي جنود في غزة. وفي الرابع والعشرين من تموز 1995 تنفجر الحافلة الصهيونية في رمات جان تقتل ستة صهاينة وتجرح خمسة و ثلاثين آخرين، ويعلن تلاميذ يحيى عياش المسئولية، فيما إيجال عامير يرقب إسحق رابين رئيس الوزراء ليقتله كردة فعل لهذه الضربات الموجعة.

وفي الحادي والعشرين من آب 1995 ينفجر الشهيد سفيان جبارين في الحافلة المزدوجة في مستوطنة رمات اشكول في القدس لتقتل خمسة وتصيب ما يزيد عن مائة آخرين.. و يؤكّد تلاميذ يحيى عياش مسئوليتهم ليصل مجموع ما قتل بيد المهندس وتلاميذه إلى ستة وسبعين صهيونيًّا وجرح ما يزيد عن أربعمائة آخرين، وهذا رقم قياسي لم ينازع المهندس فيه أحد، ليغدو المهندس شجرة باسقة الظلال ومدرسة تأوي إليها النماذج الفريدة من المجاهدين ذوي الهمم العالية.. كان قلب أبي البراء الذي وسع كلّ فلسطين هادئ البال قرير العين، فقد مسح دمع الثكالى والأرامل والأيتام وجفّف جرح كل المصابين.

شبح رهيب لقادة الاحتلال

لقّب رئيس الحكومة الصهيونية آنذاك إسحاق رابين يحيى عياش بالمهندس وأطلق عليه هذا اللقب في إحدى جلسات المداولة بين رابين وقادة أمنه للبحث في قضية عياش وسبل الوصول إليه، أبدى رابين -كما صرح جدعون عزرا رئيس جهاز الشاباك الأسبق- اهتمامًا بكفاءات وقدرات عياش، وأخذ يضفي عليه لقب المهندس بعد أن علم ما يمتلكه المهندس من إمكانيات، و قد كان رابين يبدأ كلّ جلسات الحكومة ومجلسه المصغر ومجلس الأمن بالسؤال عن المهندس، وقد صرح رابين بهذا اللقب للصحافة أكثر من مرة، حتى غدا المقاتل الفلسطيني الفذ أسطورة ملحمية خالدة وشبحًا رهيبًا يطارد الكيان الصهيوني؛ لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يختاره جميع الخبراء اليهود والأجانب كرجل العام 1995 حيث أثّر على الكيان و حياته ومستقبله أكثر مما أثر رابين وحكومته وجيشه، وقد بثّت الإذاعة والتلفزيون الصهيوني العديد من البرامج حول هذا الشبح الأسطورة.

قالوا في المهندس:

المعلق الصهيوني في التلفزيون الصهيوني إيهود يعاري اعتبر أن لكل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني رموزها وأنه مثلما شكّل عماد عقل رمز العمل العسكري في حركة حماس فإن يحيى عياش يمثل رمز العمل العسكري الاستشهادي.

فيما عبر شمعون رومح عن إعجابه بالقول: إنه لمن دواعي الأسف أن أجد نفسي مضطرًا للاعتراف بإعجابي وتقديري بهذا الرجل الذي يبرهن على قدرات وخبرات فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه، وعلى روح مبادرة عالية وقدرة على البقاء وتجديد النشاط دون انقطاع.

وكان رأي د. سيلع ود. شتايتبرغ أن المشكلة في البيئة العقائدية الأصولية التي يتنفس المهندس من رئتها هي التي تبدع وتفرز ظاهرة المهندس و ظاهرة الرجال المستعدين للموت في سبيل عقيدتهم..

وكما هو الحال بالنسبة لكل شخصية أسطورية فإن الهوس الصهيوني ينسب له عجائب عدة؛ فهو صاحب هويات مختلفة وله حضور في كل مكان، يوجد في مصر وإيران وليبيا والسودان وفي خانيونس وغزة ورام الله، قلقيلية، جنين، القدس، "تل أبيب" حتى في منزله برافات وهو متنكر بزي يهودي متدين وأحيانًا كمستوطن مسلح ببندقية، وأنه يتجوّل بشخصية دبلوماسية في "تل أبيب" ويقود سيارة ذات لوحات تسجيل "إسرائيلية"  عياش يبدّل هيئته يوميًّا ولا يبيت سوى ليلة واحدة في البيت الواحد. و بلغ الهوس الصهيوني ذروته حين قال رابين: "أخشى أن يكون جالسًا بيننا في الكنيست".

هذا الهوس الصهيوني أضفى على المهندس حالة من القداسة حتى إن أكبر قادة الكيان كانوا عند ذكره لا يخفون حالة الرعب والخوف؛ فإسحاق رابين رئيس الورزاء الصهيوني الأسبق يقول: "لا شك أن المهندس يمتلك قدرات خارقة لا يملكها غيره وأن استمرار وجوده طليقًا يمثل خطرًا داهمًا على أمن "إسرائيل" واستقرارها".

أما موشيه شاحل وزير الأمن الداخلي الصهيوني السابق فيقول: "لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عياش إلا بالمعجزة؛ فدولة "إسرائيل" بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حلاً لتهديداته" ..

والجنرال أمنون شاحاك رئيس أركان الجيش الصهيوني السابق فيقول: "إن "إسرائيل" ستواجه تهديدًا استراتيجيًّا على وجودها إذا استمر ظهور أناس على شاكلة المهندس".

بينما يقرّ يعكوف بيري رئيس المخابرات الصهيونية سابقًا قائلاً: "إنني أقر أن عدم القبض على المهندس يمثل أكبر فشل ميداني يواجه المخابرات منذ إنشاء دولة (إسرائيل)".

فيما جدعون عزرا نائب رئيس المخابرات سابقًا يقول: "إن احتراف المهندس وقدرته تجلّت في خبرته وقدرته على إعداد عبوات ناسفة من لا شيء".

استشهاد المهندس

إنه يوم الجمعة الحزينة 15 شعبان 1416هـ الموافق الخامس من كانون الثاني يناير 1996م التي لم تكن كأي جمعة فما أن أذاع تلفزيون العدو نبأ الاغتيال، اهتزت فلسطين بكلّ أرجائها ودبّت قشعريرة وسرى شعور حزين وحاولت القلوب الفزعة أن تكذّب أو تشكّك، واهتزت الكلمات في الحناجر حين أعلنت حماس توقّف عقل الفتى العاشق وسكنت نبضات قلبه.

فبكى كلّ شيء في فلسطين حتى كاد طوفان الدمع أن يغرق شوارع غزة وحارات نابلس وطولكرم والخليل. و مرّ ليل الجمعة الباكية ثقيلاً على الجبال والوديان والناس، ينما سكنت الأمواج في انتظارٍ حزين،  في الصباح تراكض الباحثون عن وطن نحو رافات يعانقون جدران منزل المهندس متوعّدين بالثأر ومؤمّنين على دعاء أم يحيى (قلبي وربي راضون عليك)، وكم تمنى أولئك لو أنهم تشرّفوا بتشييعه أو على الأقل مشاهدة وجهه أو ملامسة كفه فيتعلمون كيف يضرب وكيف يصنع لنا الحياة.