06/01/2011
لم يستطع "شمعون رومح" -أحد كبار العسكريين الصهاينة- أن يخفي إعجابه بيحيى عياش حين قال: "إنه لمن دواعي الأسف أن أجد نفسي مضطرا للاعتراف بإعجابي وتقديري بهذا الرجل الذي يبرهن على قدرات وخبرات فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه، وعلى روح مبادرة عالية وقدرة على البقاء وتجديد النشاط دون انقطاع".. ولم يكن شمعون وحده هو المعجب بالرجل، لكن وسائل الإعلام الصهيونية كلها شاركته الإعجاب حتى لقبته: "الثعلب" و"الرجل ذو الألف وجه" و"العبقري"…
ولهم الحق في احترامه والخوف منه، فحين نزف الدم الفلسطيني بغزارة على أرض الحرم الإبراهيمي في خليل الرحمن، في الخامس عشر من رمضان المبارك 1414هـ، غلت الدماء في قلوب المسلمين في كل مكان.
لكن قلبًا واحدًا قرَّر أن يغلي بطريقة أخرى ومميزة، تلقن الحقد اليهودي درسًا لا يمكن نسيانه، كان ذلك قلب المهندس "يحيى عيَّاش" الذي أسَّس مدرسة ما زال طلابها يتخرجون فيها بتفوق على الرغم من غياب ناظرها!
قبل الكتائب.. حياة عادية وذكاء ملحوظ
وُلِد يحيى عيَّاش في نهايات مارس 1966، نشأ في قرية "رافات" بين نابلس وقلقيلية لعائلة متدينة تصفه بأنه حاد الذكاء، دقيق الحفظ، كثير الصمت، خجول هادئ.
بدأ يحفظ القرآن الكريم في السادسة من عمره، حصل في التوجيهي على معدل 92.8% -القسم العلمي، ليلتحق بجامعة بيرزيت- قسم الإلكترونيات، وظلَّ على حبه الأول للكيمياء التي أصبحت هوايته، أصبح أحد نشطاء الكتلة الإسلامية، وبعد تخرجه حاول الحصول على تصريح خروج للسفر إلى الأردن لإتمام دراسته العليا، ورفضت سلطات الاحتلال طلبه، وعلق على ذلك "يعكوف بيرس" رئيس المخابرات قائلاً: "لو كنا نعلم أن المهندس سيفعل ما فعل لأعطيناه تصريحًا بالإضافة إلى مليون دولار".
تزوَّج عيَّاش بعد تخرجه من ابنة عمته، ورزقه الله ولده البكر "البراء"،ثم "يحيى" قبل استشهاده بأسبوع تقريبًا
القتل بالقتل.. هكذا العدل
بدأت عبقريته العسكرية تتجلى مع انطلاق شرارة الانتفاضة الأولى 1987م، كتب أبو البراء رسالة إلى كتائب الشهيد عزّ الدِّين القسَّام يوضح لهم فيها خطةً لمجاهدة اليهود عبر العمليات الاستشهادية، وأُعطي الضوء الأخضر، وأصبحت مهمة يحيى عيَّاش إعداد السيارات المفخخة والعبوات شديدة الانفجار.
ولكن الولادة الحقيقية للمهندس وعملياته العبقرية كانت إثر رصاصات باروخ جولدشتاين وهي تتفجر في رؤوس الساجدين في الحرم الإبراهيمي في رمضان عام 1994م.
ففي ذكرى الأربعين للمجزرة كان الرد الأول؛ حيث فجَّر الاستشهادي "رائد زكارنة" (عكاشة الاستشهاديين) حقيبة المهندس في مدينة العفولة؛ ليمزق معه ثمانية من الصهاينة ويصيب العشرات.
وبعد أسبوع تقريبًا فجَّر "عمار العمارنة" نفسه؛ لتسقط خمس جثث أخرى من القتلة.
وبعد أقل من شهر عجَّل جيش الاحتلال الانسحاب من غزة، ولكن في 19-10-94 انطلق الشهيد "صالح نزال" إلى شارع ديزنغوف في وسط تل أبيب ليحمل حقيبة المهندس ويفجرها ويقتل معه اثنين وعشرين صهيونيًّا.
وتتوالى صفوف الاستشهاديين لتبلغ خسائر العدو في عمليات المهندس عياش في تلك الفترة 76 صهيونيًّا، و400 جريح.
عذابات من أجل اللقاء
تعتبر فترات الملاحقة في حياة الشهيد من الفترات المجهولة في حياة فارسنا؛ فمنذ 25 أبريل 1993م عرفت مخابرات العدو اسم عيَّاش كمهندس العبوات المتفجرة، والسيارات المفخخة التي أقضت مضاجع العدو، وتروي زوجته "أسرار" ملاحقة جيش الاحتلال لأسرة المهندس.
قالت زوجته: "مكثت في بيت عمي في بداية فترة مطاردة يحيى متخفية عن أنظار الجيران حتى إذا ذهبت لزيارته لا يشك بذلك أحد، وقبل ذهابي إلى غزة أرسل إليَّ يحيى رسالة مكتوبة بخط يده الذي أميزه بين آلاف الخطوط يستشيرني في إمكانية مغادرتي الضفة الغربية، وتشاورت في الأمر مع والد زوجي، وقررت الذهاب إلى زوجي، ثم اصطحبني أحد الإخوة المجاهدين عن طريق كلمة سر قالها لي لا يعرفها أحد سواي أنا ويحيى، فاصطحبني الشاب ووالدة يحيي وابني البراء، وكان الشاب يحمل معه العديد من البطاقات الشخصية المزيفة ليسهّل علينا دخول الحواجز".
لقد كانوا يجتازون كل حاجز إسرائيلي باسم مستعار مختلف وبسيارة أخرى غير السيارة الأولى، حتى يتخفوا على جنود الاحتلال، كما أن الشاب كان يمتلك قدرة فائقة على التنكر حسب شكل الصورة التي كانت تحملها البطاقة الشخصية المزيفة.
أما بالنسبة لأم البراء ووالدة المهندس فقد كان الأمر سهلا؛ لأن قوات الاحتلال لم تكن آنذاك تدقق كثيرًا في صور النساء.
وتذكر أم البراء: "لم يكن يمكث عندنا في الأسبوع سوى ساعات معدودة، ثم يخرج دون أن أعلم إلى أين مقصده، فحياة المطاردة وإن كانت مليئة بالأخطار فهي تمتاز بحلاوة الجهاد التي لا يمكن لأحد أن يتذوقها غير المجاهد".
رسائل عيَّاش.. وثائق تنشر لأول مرة
وحول أهم المغامرات التي عاشتها في تلك الأيام قالت: "قضيت معظم أيام مكثي في غزة مطاردة أتنقل من بيت لآخر، ولا أمكث في أحدها أكثر من أسبوع لا أشاهد أحدًا حتى لا يشك في وجودي، وأنام والقنابل اليدوية فوق رأسي، وسلاحي بجواري، وخاصة أنني كنت أتقن استخدامه وأتقن كيفية تحديد الهدف؛ فحياتنا معرضة للخطر في كل لحظة، والمنزل معرَّض للمداهمات من قبل جيش الاحتلال حتى يستخدمني الصهاينة وسيلة للضغط على زوجي".
وضمانًا للسرية كان الاعتماد الأساسي على الرسائل الخطية بينها وبين زوجها؛ لقدرة كل منهما على تمييز خط الآخر، وما زالت تحتفظ برسائله حتى يومنا هذا.
وتتذكر أم البراء بصوت متألم: "ذات مرة لاحظ أهل البيت الذي كنا نختبئ به وجود مراقبة حول البيت؛ فاضطررت أن أختفي أنا وولدي براء، وأحكم إغلاق الغرفة علينا لمدة أسبوع تقريبًا، لا أرى أحدًا من البشر غير زوجة المجاهد التي كانت تحضر لي الطعام، كانت لا تمكث معي أكثر من ربع ساعة".
وتبتسم أم البراء حين تتذكر لحظات عصيبة أخرى: "ذات مرة دُوهم البيت.. كانت ساعة عسيرة.. فاضطررت أن أختبئ وولدي داخل الخزانة، وأن أحكم إغلاقها علينا، والغريب أن براء -الذي لم يتجاوز الأربع سنوات- كان واعيًا لحجم الخطر الذي يهدد حياتنا وحياة والده، وبدلاً من أن أهدئ من روعه حتى لا يخرج صوتًا، وضع هو يده على فمي حتى لا أتفوه بكلمة واحدة.. وكم شعرت بالفخر بوليدي، وأنه حقًّا يستحق أن يكون ابنًا لمجاهد، وبطلاً مثل المهندس يحيى عيَّاش.. شعرت أني لم أشاركه وحدي الكفاح؛ فقد كان صغيري البراء على مستوى المسئولية في أكثر من موقف، فعندما كان يخرج ليلعب مع أولاد صاحب المنزل الذي يستضيفنا كان يُعرّف نفسه باسم "أحمد"، ولا يعلن عن هويته أبدًا.
نضال زوجة مناضل
لا شك أن كل امرأة تتلقى خبر جهاد زوجها بشيء من الخوف والفزع في البداية، وتبدأ الهواجس تصوِّر لها زوجها وقد تحول إلى أشلاء متناثرة.. تتذكر أم البراء كيف عرفت بجهاد زوجها، قائلة: "منذ الأيام الأولى لحياتي الزوجية كان يأتي يحيى إلى المنزل وملابسه متسخة بالوحل والتراب، وعندما أسأله عن سبب ذلك كان لا يرد عليّ، بل كان يرجوني برفق ألا أسأله عن شيء. وفعلاً استجبت لرأيه؛ لأني على ثقة بأخلاقه والتزامه بمبادئ دينه، حتى جاء اليوم الذي حاصر جيش الاحتلال المنزل ليعتقل يحيى، لكنه لم يكن بالمنزل، وعندما شعر أني خائفة كثيرًا صرَّح لي بطبيعة عمله وخيَّرني بين مواصلة طريق الجهاد معه أو الانفصال عنه.
كابوس يهدد دولة
يحيى في شبابه المبكر مع أخيه
تحوَّل المهندس بعملياته الاستشهادية إلى كابوس يهدد أمن الدولة العبرية وأفراد جيشها الذي يدِّعي أنه لا يُقهر بل وقادته أيضًا؛ حيث بلغ الهوس الإسرائيلي ذروته حين قال رئيس وزراء الكيان الصهيوني آنذاك إسحق رابين: "أخشى أن يكون عياش جالسًا بيننا في الكنيست". وقوله أيضًا: "لا أشك أن المهندس يمتلك قدرات خارقة لا يملكها غيره، وإن استمرار وجوده طليقًا يمثل خطرًا واضحًا على أمن إسرائيل واستقرارها".
ولا يعتبر كثير من الباحثين الإسرائيليين أن يحيى نبتٌ منفردٌ، لكنه وليد محضن تربوي ونسق فكري، وهو ما حدا بأحدهم أن يصرِّح: "إن المشكلة في البيئة العقائدية الأصولية التي يتنفس المهندس من رئتها؛ فهي التي تفرز ظاهرة المهندس وظاهرة الرجال المستعدين للموت في سبيل عقيدتهم".
أما "موشيه شاحاك" وزير الأمن الداخلي الصهيوني السابق فقد قال: "لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عيَّاش إلا بالمعجزة؛ فدولة إسرائيل بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حدًّا لعملياته التخريبية".
كما كتبت الصحف العبرية عن مواصفاته، ونشرت عدة صور مختلفة له لتحذر الشعب الصهيوني منه تحت عنوان رئيسي "اعرف عدوك رقم 1 .. يحيى عيَّاش".
وأخيرًا.. ارتاح المقاتل الصلب
بعد أربع سنوات مليئة بأشلاء الصهاينة تمكَّن جهاز الشاباك من الوصول إلى معلومات عن موقع المهندس، وتسلله إلى قطاع غزة عبر دائرة الأشخاص الأقرب إلى أبي البراء.
وكما يروي "أسامة حماد" صديق المهندس والشاهد الوحيد على عملية الاغتيال فإن يحيى التجأ إليه قبل خمسة أشهر من استشهاده؛ حيث آواه في منزله دون أن يعلم أحد، وكان كمال حماد –وهو خال أسامة ويعمل مقاول بناء- على صلة وثيقة بالمخابرات الإسرائيلية يلمِّح لأسامة بإمكانية إعطائه جهاز "بيلفون" لاستخدامه، وكان كمال يأخذ جهاز البيلفون ليوم أو يومين ثم يعيده، وقد اعتاد والد المهندس الاتصال بيحيى عبر البيلفون، وقد طلب منه يحيى مرارًا الاتصال على الهاتف المنزلي، وقد اتفق يحيى مع والده على الاتصال به صباح الجمعة على الهاتف المنزلي.
وفي صباح يوم الجمعة الخامس من يناير 1996م اتصل كمال حماد بأسامة وطلب منه فتح الهاتف المتنقل؛ لأنه يريد الاتصال من إسرائيل، واتضح أن خط هاتف البيت مقطوع.. وفي الساعة التاسعة صباحًا اتصل والد يحيى على الهاتف المتنقل وقد أبلغ أسامة أنه لم يستطع الاتصال على الهاتف المنزلي.
وما كاد المهندس يُمسك بالهاتف ويقول لوالده: "يا أبي لا تتصل على التليفون…"، عندها دوى انفجار وسقط المهندس لينفجر الرأس الذي طالما خطَّط ودبَّر في كيفية الانتقام من الصهاينة.. وتتناثر أجزاء من هذا الدماغ الطاهر لتعلن عن نهاية أسطورة خلَّفت وراءها العشرات من المهندسين ممن أرقوا مضاجع الاحتلال، وما زالوا أبناء لمدرسة عياش.
وتبين فيما بعد أن عبوة ناسفة تزن 50 جراما قد انفجرت في الهاتف النقَّال ليهوي الجسد المتعب ويستريح من عناء السفر.. يستريح المقاتل الصلب بعد سنوات الجهاد، ويصعد إلى العلا والمجد.
ملف آخر
سقط تاركا أمانة الدم
لم تنم غزة ذلك المساء فقد كان بانتظارها ليل آخر تسرب في خيوطه الأولى دمٌ ترامى فوق يديها كالشظايا ... (دم يحيى عياش) ، في البرهة التي يتكاثر فيها الزبد ويصبح المقاتلون فئة قليلة ، في الوقت الذميم الذي تتربص فيه الحواجز والأسلاك الشائكة بالعيون المقاتلة الشاخصة إلى كل بقاع فلسطين ، غاب (يحيى عياش) واحترق نجم فلسطين هوى على (جباليا) كعباءة منسوجة بورق الزيتون ووجهه مقبل على الصلاة كحدود الشهادة ، (يحيى عياش) الرجل المعنى في زمن تساقطت فيه المعانـي عن كثير من الرجال ، الطيف العصي الذي لا يُرى بسهولة .
(يحيى عياش) اليدان اللتان تتقنان صنع الحرائق لتشرق الشمس بلا كآبة ، على الذرى الفلسطينية العينان اللتان تصادقان الليل في البحث عن ممر إلى ثغور الغزاة ، الكوفية التي تتشابه خيوطها مع ندوب الأرض المقدسة ، كان يدرك كلما وصل غزة أن عليه أن يخفي ملامحه والخفق الفلسطيني في قلبه وبيارات البرتقال في عينيه كي لا يكتشف أحد موقع الانفجار القادم فيما الغدر يتربص به ويكمن في الزوايا والأزقة وتحت أصغر الظلال .
الليلة وبعد أن تسرب دم (يحيى عياش) في هدوء الأمسية ، سيصعد صوته من غموض الأشياء القاتمة في فلسطين مثل برج حجري لصوته الشهيد ، أنا (يحيى عياش) المولود في حقل فلسطين على أزهاره دم لم أستطع تفسيره طفلاً ، ولم أستطع احتماله رجلاً ، فبحثت عن أسرار الانفجار ، تعلمت كيف أمسح الدم عن الحرم الإبراهيمي بالحرائق . ليس في فلسطين حجر أو زاوية أو جدار لا يستطيع أن يتهجأ اسمه ليس هناك جدولاً ولا سنبلة أو شجرة لا تتشابه به مع ملامحه ، تتشابه مع الرجل الذي أخفى ملامحه لتتضح معالم البلاد .
دم (يحيى عياش) في غزة كان يركض في شوارعها كنهر بلا مستقر ، كان يرفع صوته ذبيحاً، يحكي قصة المجاهد الأسطوري الذي صوب قلبه إلى الشمس في (قلب) غزة هاشم ، ولم يتسع له الوقت ليطرق أبوابها واحداً واحداً كي يضع أمانة الدم في الدم ، فكان أن ترك وصيته على الأرصفة حتى تصافح في الصباح وجوه تلاميذ المدارس وهم يذهبون إلى درس القراءة عن الوطن المحاصر بين الوثائق وسلاح الغزاة ، استشهد (عياش) تاركاً أمانة الدم لنا وإشارة صريحة إلى جهة الخرق الصهيوني القادم .
وعلى حافتي الطريق يبقى المهرولون أصحاب الدنيا يبحثون عن مكان فوق الطين فيما يستقبل المهندس الشهادة وهو يرفع الراية في زمن الصعود الصهيوني الأمريكي يبرز الخيار ناصع البياض ، فعندما يسقط رأس (يحيى عياش) حينها (يحيى) غير قابل للرثاء ويستعصي على الكلمات ، (يحيى) كان قابلاً للانفجار ، قابلاً للاشتعال وقلبه وسع كل فلسطين من بحرها إلى نهرها ، فأي لغة يمكن أن تسعه .
إن دم (يحيى عياش) قد وضعنا على طرف الخيار ، إما أن نُغيب أو نُعلب أو نموت على مزاج الأوصياء ، وذلك منطق الجنون ، جنون السقوط طالما أننا نستطيع الموت على مزاجنا، وبينما يختار المهندس الشهادة والآخرة ، يختار قاتله حفنة من الدولارات ، ويلقيه الشاباك بعد ذلك جيفـة تتسكع في ممرات (تل أبيب) .
وما أن انتشر خبر استشهاد المهندس حتى ساد في أنحاء فلسطين خاصة والعالم الإسلامي عامة حالة من عدم الاستقرار ، وخرجت الآلآف في شوارع قطاع غزة وفلسطين يهيمون على وجوههم بغير وعي ، وأعلنت دولة الاحتلال حالة الطوارىء ، وأغلقت الضفة وغزة ونشرت قوات معززة ، ولم تخف فرحتها العظمى بهذا الخبر ، حيث صرح (يعقوب بيري) رئيس المخابرات السابق بالقول : " موت عياش وضع حداً لأخطر وأعنف المحاربين الذين عرفناهم " . فيما صرح (موشيه شاحل) وزير الأمن الداخلي بالقول : " بتنا نتنفـس بشكل أفضل بعد إعلان موته ".
فيما سيطر على دولة الاحتلال شبح العمليات الاستشهادية ، وفي قرية (رافات) مسقط رأس الشهيد الأسطورة توجه الآلآف إلى بيت (عياش) ، فيما انهمرت الدموع من عيني والديه وأخويه ، ويصرح والد المهندس أن استشهاد المهندس ليس النهاية ، فيما عبر شقيقه عن مزيج من الفرحة والحزن ، وأكد قائلاً أن : " أخي كان بطلاً " .
وقد نعت (حماس) شهيدها العملاق عبر البيانات ومكبرات الصوت ، وأعلنت الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام ، وعقدت مؤتمراً صحفياً قرب المنزل الذي صعدت فيه روح (يحيى) ، بينما خرج الملثمون التابعون لحركة (حماس) في مختلف أنحاء الضفة الغربية وغزة ينعون المهندس الشهيد ، وانطلق مسيرات جماهيرية حاشدة في مختلف أرجاء فلسطين حيث انطلقت مسيرات جماهيرية حاشدة شاركت فيها كل القوى نعت الشهيد في رام الله وطولكرم وجنين ونابلس وأريحا وقلقيلية وفي الخليل وبيت لحم ، وعم الإضراب مدينة القدس .
وقد أدانت (السلطة الوطنية) اغتيال (المهندس) ، وصدرت الأوامر من الرئيس (عرفات) بتشكيل لجنة تحقيق مشتركة ، وتوجه لتقديم واجب العزاء لحركة حماس في موقع العزاء للمهندس ، وقد أدانت كافة الشخصيات الفلسطينية في الضفة والقطاع ومناطق الـ (48) جريمة الاغتيال خاصــة أنها وقعت في ظل التحضيرات الكبيرة لإجراء أول انتخابات للسلطة الفلسطينية . فيما نقلت وكالات الأنباء تنديدات مختلفة من شتى بقاع العالم بحادث الاغتيال الذي أثّر بشكل ملموس على الجو الهادئ في مناطق السلطة الفلسطينية خاصة بوجود توافق بين السلطة والمعارضة .
السادس من يناير 1996، يوم لا مثيل له
وفي اليوم التالي للرحيل كان الوداع الأخير لنجم فلسطين الأول ، فكان يوم السبت السادس من يناير 1996 لا مثيل له في تاريخ غزة ، حيث احتشد ما يزيد عن الربع مليون من شباب قطاع غزة وبحضور والد ووالدة الشهيد وزوجه وولديه البراء ويحيى وأقيمت الصلاة على جثمان الشهيد في مسجد فلسطين ، وانطلقت باتجاه مقبرة الشهداء ، وسار الموكب أربع ساعات متواصلة ، الجماهير التي انطلقت بحشودها المتراصة تؤكد أن عياش حس الجماهير وخيارها الأوحد ، فانتخبته في استفتاء قاطع لكل الأوهام ، ووقف علماء النفس يلوون شفاههم ما هذا ؟ من أين جاء كل هؤلاء لتشييع المهندس ، ويوم عرسه الرائع ، الأعناق تدوس الأعناق ، والرجال تحلق زاحفة مسافات ومسافات لا تدري من يحملها فوق الأرض ، والكل يبغي التمسح بالجسد ولا تواتيه الفرصة ليخضب أصابعه بقطرة من دم الشهيد يضعها على شفتيه فتقوح منها ريح المسك .
القتلة الذين ظنوا خطأ أن عبوة صغيرة في جهاز هاتف متنقل قد أنهت حالة (المهندس) في الشعب الفلسطيني ، ولو قدر لصاحب الموساد أن يقف يوم السبت أثناء عرس الشهيد لأدرك أنه فرغ على التو من إعداد ما يزيد عن الربع مليون (مهندس) .
ترى كم كان وسع خطوة (يحيى عياش) وهو يغدو بين جنبات الوطن ليتوارى عن أعين الغزاة خطوته حين غادرنا كانت بالكيلومترات ... خطوة يحيى عياش صارت بيتاً وسع الشعب كله حين سار في جنازة يحيى .
كلكم يحيى عياش
وفي المقبرة اصطفت الآلآف لإلقاء النظرة الأخيرة على الجثمان المسجى ويطبع آل الشهيـد القبلة الأخيرة على جبينه الطاهر ، فيما أطلقت كتائب القسام وقوى الأمن الفلسطيني واحد وعشرين طلقة تحية للشهيد ، فيما أطلق ولده (البراء) رصاصات التواصل من مسدس في يده .
وتحدث والد الشهيد شاكراً الجماهير المحتشدة قائلاً (كلكم يحيى عياش) ، وإثر مواراة جثمان (أبو البراء) الثرى أقامت (حركة المقاومة الإسلامية) مهرجان تأبين استهل بتلاوة القرآن الكريم وألقت كافة القوى السياسية بيانات نعى وتنديد ومواساة .
وأقيم إثر ذلك سرادق عزاء ضخم للشهيد أمام (مسجد فلسطين) حيث أمه الآلاف من جماهير القطاع والقوى السياسية المختلفة ، وأذاعت كتائب القسام بيانات النعي وأكدت تهديداتها بالثأر لدماء المهندس الغاليـــــــة .
وفي يوم الجمعة الثاني عشر من يناير 1996 أقيم حفل تأبين ضخم على أرض ملعب اليرموك في وسط مدينة غزة ودعت فيه حماس وكتائبها شهيدها العزيز وهتفت الجماهير للراحل الكبير. ولم يكن بوسع كتائب القسام أن ترك هذا الامتهان الصهيوني دون رد خاصة ودماء جوهرتها الثمينة تنزف على أرض غزة ، فبعد خمسين يوماً بالضبط من استشهاد (المهندس) ، وفي الخامس والعشرين من فبراير 1996 بدأت سلسلة هجمات استشهادية في (القدس والمجدل) ، وبعد أسبوع في (القدس وتل أبيب) ليسقط في هذا الأسبوع الدامي ما يقرب من ستين قتيلاً صهيونياً ، عدا عشرات الجرحى " عمليات الثأر بقيادة القسامي المعتقل حسن سلامة "وبادرت إثرها قوات الاحتلال الصهيوني إلى هدم منزل المهندس وتشريد أهله من بيتهم في (رافات) . وهكذا استراح (أبو البراء) في ثرى غزة الثائر بعد أن نفد تلاميذه الدروس التي تلقوها على يديه بمهارة واتقان فائقين .
(يحيى عياش) في لحظة الولادة كان السنديان يشتد ، وفي لحظة الشهادة كانت الولادة سنابل تتسلق عتبة الدار لتحاكي ذكرى طفل ترك وراءه حمام البيت ودفتراً فيه أمنيات تنام بهدوء ولا يجزعها المنام ليلاً يجيىء يحيى يفتح باب الدار فيهب النعناع وقلب أمه المطرز بالاقحوان .. لطفل كانت تهدهد له حمام الدار كي ينام .. يدخل وحقيبته الملونة . يسندها إلى حائط حجري وينام في حضن أمه ، فتعدد الهجرات في جبينه ، لقد كبرت يا يحيى .. أي لقد عددت الهجرات في كاهلي فوجدتها جنازات يهرع يحيى إلى المخيم ، يركض إلى بحر غزة .. يلقى مركبه الورقي الصغير .. وينام على شاطئه ويتقلب على رماله ، فتكبر الجروح في عينيه كأنها ألف عام .. ييكبر (يحيى) ويكبر معه المخيم .. من طفل مشاكس إلى رجل قادم عبر الذكريات والطلقات التي اخترقت صدر المخيم لكنه لم ينحنِ .
هكذا خرج يحيى من الحياة
تستفيق فلسطين على انفجار وتخرج البلاد من جرحك النازف قرى وجداول ماءً ونعناعاً ، يستفيق الشهداء يخرجون من جرحك قطرات دمٍ سالت على الجبين الصلب المتغصن والشهداء يضمدون جرحك النازف ، ويدعون طيور الصباح المهاجرة لتتوسد الجسد المسجى بهدوء ملائكي كأنه يخبىء بين ضلوعه انفجاراً قادماً .
وتخرج غزة لتودع (يحيى) .. تخرج كل فلسطين لترى الشهيد الذي لم يمت .. تكبر البلاد بولادة (يحيى) ... تزغرد أم لطفل قادم في وجهه ابتسامة ، وفي يديه دفتر صغير ومركب ورقي ، ويركض إلى بحر غزة يفتش عن حدوده ويتقلب على رماله ويكتب يحيى لم يمت ولكن شبه لهم . هكذا يموت الأبطال .. أشجاراً أصلها ثابت وفرعها في السماء .. حبالاً تمر عليها ضربات السنين ، لا يموتون ، ينتقلون من حياة إلى حياة ، ومن دار إلى دار ... كما الطير يسرح في فضاء لا حدود له. هكذا خرج (يحيى) من الحياة ، حياة العنف والكد ، خرج بعد أن أدار لها ظهره ، وبعد أن نظر إليها نظرة الاستخفاف والسخرية ، ما أهونك على من خلقك .
هكذا خرج يحيى من الحياة ، بعد أن أودع فيها بدلة الكاكي وقطعة السلاح ورغيف الخبز اليابس والبساط الملوث بالوحل والطين ، والملجأ المظلم يحوى فرشة ولحافاً وموقداً للنار ، لم يعد (يحيى) بحاجة إليها فقد استنفذ وقته ورحل ... هكذا خرج (يحيى) من الحياة .. بعد أن حفر بكلتا يديه طريقاً للرصاص الممتد من رفح حتى الجليل ورسم ممراً للقنابل تعبر فوق الجسور وتحت الأنفاق ، وبعد أن شق جدولاً للدماء يخترق سواحل غزة وجبال القدس وروابي الخليل وسهول يافا ، حتى إذا بلغ المرج تدفق شلالات تتراقص على لحن بيوت اللاجئين وخيام الفقراء والأطفال الذين انتظروه على قمم الجبال لأنه وعدهم أن يمر ويسلم عليهم . هكذا خرج يحيى من الحياة ، بعد أن علم الأطفال الذين لم يجيدوا نطق الحروف الأبجدية بعد أن روضة الاستشهاديين ستكون فيها أرجوحتهم ولعبهم ولهوهم .
وهكذا علمهم نطق الألف والباء في حرية الدم وحلاوة المراغمة ، ورسم على وجوههم صورة لا تكاد تمحى ، إنكم يا صغاري الأبطال وحدكم ، وغيركم الجبناء ، أنتم الفرسان تمتطون صهوات المرحلة وغيركم تأبطوا ملفات السياسة المارقة المليئة بأخطاء اللغويات .
هكذا خرج بطلاً في وقت عزّ فيه الأبطال وفارساً في وقت تنادى فيه المتساقطون على وليمة الوطن ، ورمزاً في وقت سقطت فيه الشعارات الممجوجة (المقرفة) .
لم لا تبكيك البواكي ؟ لم لا تمطر السماء ؟ لم لا يثور البحر وينشق الفجر ؟ وأنت الذي أعطيت الحياة معناها ، والسماء زرقتها والبحر شهامته وغضبه .
ما أجملك وأنت تدخل بوابة القبر
أهي الحقيقة يا (يحيى) ، لن نراك بعد الآن ؟ وأهاً يا أمة العرب ؟ ألن ترقص النساء في مخيم رافات على صوت أقدامك وأنت تهدر في أرضك (المسلوبة) في العفولة والخضيرة وتل الربيع، ألن تلقى أباك صاحب العقال لتهمس في أذنيه خلي بالك من براء .
(يحيى) .. يا أبا البراء لم تمل من المطاردة ولا حفيت أقدامك من الشوك ولا ارتجفت مفاصلك من لذع البرد وحرقة الشمس ، كنت أعلم أنك تطارد وتطارد ، تجري وراء جيش بأكمله تحاربه وحدك ، ويجري وراءك جيوش من السفلة وشذاذ الآفاق ، من يهود البقرة ، وعرب النفاق الذين ربوا على النفاق . أخيراً اصطادوك ، أغبياء هم وما أتعسهم ، لقد اغتالوا فيك الجسد ، لكننا - وقت السقوط - كنا عند رأسك ننتظر روحك نلفها بالحرير والطيب والحناء ، وقت السقوط رحلت إلى عليين بإذن الله ، لم تشأ إرادة الله أن تطال الأيدي الآثمة والأرجل النجسة منك ، يا طهر البحر وطيب السماء .
(يحيى) ... ما أجملك وأنت تدخل بوابة القبر وقد اصطفت ملائكة السماء ، صفوفاً صفوفاً تنثر عليك الرياحين وتغمرك بالطيب ، ثم ها هو (عماد عقل) يقف من بعيد ينتظر إلى أن يصل إليه الدور ليطوقك بكلتا يديه الصغيرتين ، لم يتغير فيه شيئ .
يقبلك من جبينك ووجنتيك ، ثم صف الشهداء من الكتائب ، يدعونك الآن حتى تستريح من عناء المطاردة ، يدعونك تستريح من وعثاء السفر . كانت رحلتك طويلة ، آن لهذا الفارس أن يمد قدميه ويلصق ظهره بالأرض ويغمض عينيه وينام .
أهم العمليات
عبقرية القائد يحيى عياش نقلت المعركة إلى قلب المناطق الآمنة التي يدّعي الصهاينة أن أجهزتهم الأمنية تسيطر فيها على الوضع تماماً . فبعد العمليات المتعددة التي نفدت ضد مراكز الاحتلال والدوريات العسكرية نفذ مقاتلو حماس بتخطيط من قائدهم عياش عدداً من العمليات أهمها :
· 6 نيسان 1994 الشهيد رائد زكارنة يفجر سيارة مفخخة قرب حافلة صهيونية في مدينة العفولة مما أدى إلى مقتل ثمانية صهاينة وجرح ما لا يقل عن ثلاثين وقالت حماس أن الهجوم هو ردها الأول على مذبحة المصلين في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل .
· 13 نيسان 1994 مقاتل آخر من حركة ( حماس ) هو الشهيد عمار عمارنة يفجر شحنة ناسفة ثبتها على جسمه داخل حافلة صهيونية في مدينة الخضيرة داخل الخط الأخضر ، مما أدى إلى مقتل 5 صهاينة وجرح العشرات .
· 19 تشرين أول 1994 الشهيد صالح نزال وهو مقاتل في كتائب الشهيد عز الدين القسام يفجر نفسه داخل حافلة ركاب صهيونية في شارع ديزنغوف في مدينة تل أبيب مما أدى إلى مقتل 22 صهيونياً وجرح مال لا يقل عن 40 آخرين .
· 25 كانون أول 1994 الشهيد أسامة راضي وهو شرطي فلسطيني وعضو سري في مجموعات القسام يفجر نفسه قرب حافلة تقل جنوداً في سلاح الجو الصهيوني في القدس ويجرح 13 جنداً .
· 22 كانون ثاني 1995 مقاتلان فلسطينيان يفجران نفسيهما في محطة للعسكريين الصهاينة في منطقة بيت ليد قرب نتانيا مما أدى إلى مقتل 23 جندياً صهيونياً وجرح أربعين آخرين في هجوم وصف أنه الأقوى من نوعه وقال المصادر العسكرية الصهيونية أن التحقيقات تشير إلى وجود بصمات المهندس في تركيب العبوات الناسفة .
· 9 نيسان 1995 حركتا حماس والجهاد الإسلامي تنفذان هجومين استشهاديين ضد مواطنين يهود في قطاع غزة مما أدى إلى مقتل 7 مستوطنين رداً على جريمة الاستخبارات الصهيونية في تفجير منزل في حي الشيخ رضوان في غزة أدى إلى استشهاد نحو خمسة فلسطينيين وبينهم الشهيد كمال كحيل أحد قادة مجموعات القسام ومساعد له .
· 24 تموز 1995 مقاتل استشهادي من مجموعات تلاميذ المهندس يحيى عياش التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام يفجر شحنة ناسفة ثبتها على جسمه داخل حافلة ركاب صهيونية في رامات غان بالقرب من تل أبيب مما أدى إلى مصرع 6 صهاينة وجرح 33 آخرين .
· 21 أب 1995 هجوم استشهادي أخر أستهدف حافلة صهيونية للركاب في حي رامات اشكول في مدينة القدس المحتلة مما أسفر عن مقتل 5 صهاينة وإصابة أكثر من 100 آخرين بجروح وقد أعلن تلاميذ المهندس يحيى عياش مسؤوليتهم عن الهجوم .
عمليات تفجير متنوعة
وفي السادس عشر من أبريل سنة 1993م وفي مفترق (محولا) في الغور نفذ هجوم استشهادي بمحاذاة حافلة ركاب صهاينة قتل شخص واصيب تسعة آخرون ، وفي أغسطس 1993 بتوجيه من (المهنس) نفذ (علي عاصي ومحمد عثمان) هجوماً نحو موقع للجيش الصهيوني قرب مفرق كفر بلوط أسفر عن مقتل جنديين ، وفي يناير 1994م ، توجه مع (علي عاصي) يحمل عبوة ناسفة محكمة ووضعها في ميدان رمايه للجيش الصهيوني في منطقة رأس العين ، وانفجرت العبوة واصيب جنديان بجروح خطيرة ، وانطلق الشهيد (ساهر تمام) في سيارته المفخخة التي أعدها (المهندس) لتنفجر بجوار باص صهيوني يقل جنود من جيش الاحتلال ، وقد أُصيب ثلاثين جندياً بجراح ، ثم انطلق الشيهد الشيخ (سليمان) بسيارته المفخخة وبجوار باص ينفجر حيث قتل شخصان وأصيب ثمانية بجراح . لكن الولادة الحقيقية (للمهندس) وعملياته التدميرية لكيان يهود كانت رصاصات (باروخ جولدشتاين) وهي تنفجر في رؤوس الساجدين لله تبارك وتعالى في الحرم الإبراهيمي (الشريف).
ففي الذكرى الأربعين للمجزرة وبالتحديد في السادس من نيسان 1994م كان الاستشهادي (رائد زكارنة يقل حقيبة (المهندس) وينطلق بها تجاه (العفولة) ، وفي حافلة ركاب كان (رائد زكارنة) يتفجر ويمزق معه ثمانية من الأجساد اليهودية ليشربوا من نفس الكأس الذي زرعوه ويمسح (رائد والمهندس) دمعة أولى عن وجنة فلسطين الغالية ، فيما قسم يحيى للثأر مازال ساري المفعول .
العفولة ..الخضيرة ..القدس ..تل ابيب
وبعد أقل من أسبوع ، وفي الثالث عشر من نفس الشهر وفي (الخضيرة) ينفجر (عمار عمارنة) لتسقط خمس جثث أخرى في استمرار لمدرسة (المهندس) التي أفتتحها .
وفي مواجهة المهندس وعملياته التدميرية لكيان الاحتلال الصهيوني المجرم يكبر الهم الصهيوني ويعجل الجيش الانسحاب بالفرار من غزة أولاً مع بداية شهر مايو 1994م ، وبعد أقل من شهر على عمليتي (العفولة والخضيرة) ، وبعد أشهر من المماطلة والتعنت الصهيوني ، وتنشأ إثر ذلك حالة من الرعب الهستيري ، فشبح (المهندس) وحقائبه تطارد كل صهيوني في كل مكان ليلعن اليهود (باروخ جولدشتاين) ، ورغم ذلك فمسيرة التفجير لم تكتمل ، ففي التاسع عشر من تشرين أول من نفس العام انطلق صالح نزال إلى شارع (ديزنغوف) في (تل أبيب) وهو يحمل حقيبة (المهندس) لينفجر وتهوي معه جثث اثنين وعشرين يهودياً ، يهرول (رابين) قاطعاً رحلته الخارجية ويعلن عداءه الشخصي مع (المهندس) ، ويواجه (أبو البراء) دولة (شعب وجيش وحكومة) فحاصرهم جميعاً وغدا شبحاً يطاردهم وكابوساً يؤرق أحلامهم ومستقبلاً قاتماً يغترف في قلوبهم الرعب ويقذف صدور قوم مؤمنين ، ألم يكن يتسع قلب المهندس لكل آلام الشعب الفلسطيني ؟؟ ، هذا بالإضافة إلى إطلاق (المهندس) نيرانه وقتل مستوطن وإصابة اثنين بجراح ، إضافة إلى قتل جندي صهيوني بطلق واحد .
قطاع غزة مركز النشاط
ونتيجة الملاحقة المكثفة لشبح (المهندس) واعتقال كل من شاهد أو سمع أو علم به ، يضيق الخناق حوله خاصة بعد استشهاد رفيقيه (علي عاصي وبشار العامودي) ، وينقل (المهندس) مركز نشاطه إلى قطاع غزة ، ونجاح (أبو البراء) في الوصول إلى غزة يُعد بحد ذاته ضربة قاسية للكيان الصهيوني .
وفي الخامس والعشرين من كانون الأول 1994م يتقدم (أيمن راضي) من خانيونس يحمل حقيبة الرعب ويفجر نفسه قرب حافلة جنود بالقرب من (مباني الأمة) في (القدس) ليقتل شخصاً ويصيب ثلاثة عشر آخرين بجراح .
وفي التاسع من نيسان 1995م تنفجر سيارة (عماد أبو أمونة) قرب (نتساريم) في قطاع غزة ثأراً لدماء (كمال كحيــل) وإخوانه .
وفي الخامس والعشرين من حزيران 1995م تنفجر عربة (معاوية روقة) قرب حافلتي جنود في غزة .
وفي الرابع والعشرين من تموز 1995م تنفجر الحافلة الصهيونية في (رمات جان) تقتل ستة صهاينة وتجرح خمساً وثلاثيييين آخرين ، ويعلن تلاميذ يحيى عياش المسئولية ، فيما (ايجال عامير) يرقب اسحق رابين رئيس الوزراء ليقتله كردة فعل لهذه الضربات الموجعة .
وفي الحادي والعشرين من آب 1995م ينفجر الشهيد (سفيان جبارين) في الحافلة المزدوجة في مستوطنة (رمات اشكول) في القدس لتقتل خمسة وتصيب ما يزيد عن مائة آخرين ، ويؤكد (تلاميذ يحيى عياش) مسئوليتهم ليصل مجموع ما قتل بيد (المهندس) وتلاميذه إلى ست
وسبعين صهيونياً وجرح ما يزيد عن أربعمائة آخرين ، وهذا رقم قياسي لم ينازع (المهندس) فيه أحد، ليغدو (المهندس) شجرة باسقة الظلال ومدرسة يأوي إليها النماذج الفريــدة من المجاهدين ذوي الهمم العالية .
كان قلب (أبي البراء) الذي وسع كل فلسطين هادىء البال قرير العين ، فقد مسح دمع الثكالى والأرامل والأيتام وجفف جرح كل المصابين .
الملاحقة مستمرة
فيما الملاحقة الهوجاء (للمهندس) مستمرة على أشدها ، فتحاصر قريته ويداهم بيته باستمرار ويقطع عن (رافات) موقع الغرس الكهرباء ويمنع رصف شوارعها ، ويعتقل شقيقـــاه ووالده ووالدته
(الحاجة عائشة) يسألونها عن البطل المسافر كيف نشأ في أحشائها ... كيف كبر حتى صار بحجم الوطن ، يسألونها عن مكانه ، يحيى في كل مكان ... يحيى في كل زمان ... يحيى قنبلة فلسطين التي تحرق كل من مّس كرامتها .. أنين أمه يصله عبر الأثير ليصنع منه فتيل قنبلة أخرى وآهات والده الكهل الذي فقد حاسة السمع (بشكل مؤقت) نتيجة ضربه على يد الجنود الذين يبحثون عن (المهندس) يرحل إليه ونداء أشقائه (مرعي ويونس) من خلف زنازين القمع يصنع منها قنابل يفجر بها أياديهم التي صبغت بلون دمنا المراق على بوابات الوطن المغصوب ... ليغدو (يحيى) شمساً تشرق كل صباح وفجر كل فلسطين ونور كل حر ثائر ، وليل كل ظالم فاجر يغدو شبحاً وهاجساً يطارد الصهاينة وأسطورة للفلسطينيين نظموا بشأنها القصائد والأشعار والأنغام ، وهاتفته قلوبهم وأرواحهم بالاستمرار ، " جهز يا عياش لي شيئاً ، يرفعني من أرض الدنيا .. لجنان الفردوس الأعلي ، جهز يا عياش لي عبوة توقظني من غفلة قومي ، لأعيش حياة أبدية " .
شبح المهندس
وتطور الحقد في قلب (رابين) شخصياً ليرى (شبح المهندس) عدواً خاصاً ، فيما يراه (أبو البراء) بذات العين ، ويعتبر نفسه في صراع مباشر مع رئيس الوزراء الصهيوني (رابين) والذي اغتيل في الرابع من نوفمبر 1995 .
وقد أكد المحللون اليهود القريبون من (رابين) أن (شبح عياش) خيم على حياة (اسحق رابين) الذي وظف جيشه وأجهزة أمنه وأموالاً طائلة لمطاردة المطلوب رقم واحد ، ولكن (عياش) يفلح في الإفلات من الذراع الطويل للجيش الصهيوني ولجهاز (الشاباك) ، وقام بالتخطيط في أخطر مراحل المطاردة لهجمات وتشكيل خلايا مع أن مطلوبين عديدين من الذين عملوا في محيطه القريب قتلوا أو اعتقلوا ، ورغم الوحدات الخاصة التي لاحقته والكمائن في القدس والضفة وغزة في الجبال والكهوف ومخيمات اللاجئين والبيوت المهجورة .
وقد لقب رئيس الحكومة الصهيونية (اسحق رابين) (يحيى عياش) (بالمهندس) وأطلق عليه هذا اللقب في احدى جلسات المداولة بين (رابين) وقادته أمنه للبحث في قضية (عياش) وسبل الوصول إليه ، وقد أبدى رابين (كما صرح جدعون عزرا رئيس جهاز الشاباك الأسبق) اهتماماً بكفاءات وقدرات (عياش) ، وأخذ يضفي عليه لقب (المهندس) بعد أن علم ما يمتلكه (المهندس) من إمكانيات ، وقد كان (رابين) يبدأ كل جلسات الحكومة ومجلسه المصغر ومجلس الأمن بالسؤال عن (المهندس) ، وقد صرح (رابين) بهذا اللقب للصحافة أكثر من مرة حتى غدا المقاتل الفلسطيني الفذ أسطورة ملحمية خالدة وشبحاً رهيباً يطارد بني صهيون ، لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يختاره جميع الخبراء اليهود والأجانب (كرجل العام 1995) حيث أثر على دولة الاحتلال وحياتها ومستقبلها أكثر مما أثر رابين وحكومته وجيشه ، وقد بثت الإذاعة والتلفزيون الصهيوني العديد من البرامج حول هذا الشبح الأسطورة وهذه أجزاء من ترجمة حرفية لبرنامج بثه التلفزيون عن المهندس في الخامس والعشرين من يناير 1995م .
أربعة من الخبراء
وقد تحاور في البرنامج أربعة من الخبراء والمستشرقين الصهاينة المتخصصين وهم الدكتور (ماتي شتاينبرغ) ، والدكتور (إبراهيم سيلع) من الجامعة العبرية ، شمعون رومح (من قادة جهاز الشاباك السابقين) والصحفي اللامع ايهود يعاري المتخصص في الشئون العربية ، حيث أمطر الصحفي المخضرم (مشعل) مقدم البرنامج ضيوفه بسيل من الأسئلة تمحورت على كيفية عمل (المهندس) ؟ من الذي يوجهه ؟ من يختار الاستشهاديين ؟ لماذا لم تفلح أجهزة الأمن في القبض عليه ؟
وبادرهم مشعل بالقول : " المطلوب يحيى عياش في سباق مع الزمن ، فمسلسل الهجمات العنيفة التي نفذها جعلت منه هدفاً رئيسياً ذا أولوية أولى لجهاز المخابرات الصهيونية (الشاباك) الذي درس شخصيته وتركيبته الفسيولوجية بعناية في محاولة للعثور على نقطة ضعف واحدة تقود إلى إلقاء القبض عليه ".
(ايهود يعاري) اعتبر " أن لكل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني رموزها وأنه مثلما شكل (عماد عقل) (رمز العمل العسكري) في حركة (حماس) ، فإن (يحيى عياش) يمثل (رمز العمل العسكري الاستشهادي) " ، فيما عبر (شمعون رومح) عن إعجابه بالقول : " إنه لمن دواعي الأسف أن أجد نفسي مضطراً للإعتراف بإعجابي وتقديري بهذا الرجل الذي يبرهن على قدرات وخبرات فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه ، وعلى روح مبادرة عالية ، وقدرة على البقاء ، وتجديد النشاط دون انقطاع " .
وكان رأي (د. سيلع ود. شتاينبرغ) : " أن المشكلة في البيئة العقائدية الأصولية التي يتنفس (المهندس) من رئتها هي التي تبدع وتفرز ظاهرة المهندس ، وظاهرة الرجال المستعدين للموت في سبيل عقيدتهم " ، وكما هو الحال بالنسبة لكل شخصية أسطورية فإن الهوس الصهيوني ينسب له عجائب عدة ، فهو صاحب هويات مختلفة وله حضور في كل مكان يتواجد في (مصر وإيران وليبيا والسودان ، وفي خانيونس وغزة ، رام الله ، قلقيلية ، جنين ، القدس ، تل أبيب) حتى في منزله (برافات) ، وهو متنكر بزي يهودي متدين وأحياناً (كمغتصب) مسلح ببندقية ، وأنه يتجول بشخصية دبلوماسية في تل أبيب ، ويقود سيارة ذات لوحات تسجيل صهيونية ، وأنه يتنكر بهيئة امرأة ، وبهيئة شيخ مسلم ، فقد شارك في جنازة الشهيد (كمال كحيل) بهذه الهيئة ولم يكن يعرفه أحد ، عياش يبدل هيئته يومياً ولا يبيت سوى ليلة واحدة في البيت الواحد .
عياش القائد
وعند الفلسطينيين فهو مجاهد قدير يشبهونه (بصلاح الدين الأيوبي) أو (عز الدين القسام وأبو جهاد) ، ويتندرون بأنه (أبو جلدة) ذلك الرجل الذي نجح في الإفلات من البريطانيين لمدة عشر سنوات .
بلغ الهوس الصهيوني ذروته حين قال (رابين) : " أخشى أن يكون جالساً بيننا في الكنيست " ، هذا الهوس لم يطل رابين فحسب بل غدا كابوساً يتسلل إلى مضاجع الصهاينة ، فأكثر من 80% من سكان دولة الاحتلال يخافون استخدام المواصلات العامة ، واشتكى أكثر من عشرين ألف صهيوني من أمراض نفسية نتجت عن عمليات التفجير ، وتشاجر يوماً جنديان ، فقال أحدهما للآخر : " إن شاء الله تقع في يد (المهندس) " .
وفي أحد البرامج التلفزيونية عن المهندس قال المذيع : " إنني أخشى أن يفجر المهندس هذا الاستيديو أمام أعين المشاهدين "، وقد وقف علماء النفس حيارى أمام (ظاهرة المهندسلوجي) ، فلا يملكون لها وصفاً أو ادراجاً تحت أبواب العلم المعهودة ، فهل هو رجل حقاً بمفرده أم هي أمة تنكرت على هيئة رجل له عقل واع مستنير وأصابع ماهرة وقلب يطفح بالإيمان ، وكلما تحركت يداه جهز النازيون الجدد أكفانهم وأعدوا لسيول الدمع أجفانهم وبدأ العد التنازلي لوعد الآخرة . هذا الهــوس الصهيوني أضفى على (المهندس) حالة من القداسة حتى أعظم قادة العدو كانوا عند ذكره لا يخفون حالة الرعب والخوف .
رابين: عياش معجزة
(فاسحق رابين) رئيس الوزراء السابق يقول : " لا شك أن (المهندس) يمتلك قدرات خارقة لا يملكها غيره ، وإن استمرار وجوده طليقاً يمثل خطراً داهماً على أمن دولة الاحتلال واستقرارها " .
أما (موشيه شاحل) وزير الأمن الداخلي السابق فيقول : " لا أستطيع أن اصف المهندس يحيى عياش إلا بالمعجزة ، فدولة الاحتلال بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حلاً لتهديداته " .
و(الجنرال أمنون شاحاك) رئيس أركان الجيش الصهيوني السابق فيقول : " إن دولة الاحتلال ستواجه تهديداً استراتيجياً على وجودها إذا استمر ظهور أناس على شاكلة المهندس " .
بينما يقر (يعكوف بيرس) رئيس المخابرات الصهيونية سابقاً قائلا : " إنني أقر أن عدم القبض على المهندس يمثل أكبر فشل ميداني يواجه المخابرات منذ إنشاء دولة الاحتلال " .
فيما (جدعون عزرا) نائب رئيس المخابرات سابقاً يقول : " إن احتراف المهندس وقدرته تجلت في خبرته وقدرته على اعداد عبوات ناسفة من لا شيء " .
إن (عياش) غدا كالسحر تنشق الأرض وتبلعه صاحب أرواح سبعة ، إن مجرد ذكر اسم (يحيى عياش) كافياً لأن يرتعد الصهاينة وهم يستعيدون صدى الانفجارات الاستشهادية التي أحرقت وهم أمنهم على أرض فلسطين ، فمهندس الكهرباء الفلسطيني الذي لم تستطع وسائل الإعلام أن تحصل على أكثر من صورة واحدة له استطاع أن ينظم توجيه عدة ضربات موجعة في قلب مواقع قوات الجيش الصهيوني ، وأن يذهل الأجهزة الأمنية الصهيونية برسائله المفخخة التي كانت تصل دوماً من عنوان جديد ، وقد فشلت كل المحاولات الصهيونية لاقتفاء أثره والوصول إليه برغم كل التدابير الأمنية ، فكان حقاً رمزاً للمقاتل ذي القلب الحديدي المؤمن بالله ، في ليالي الصهاينة شبحاً مرعباً قض مضاجعهم وزرع الرعب في ناقلاتهم .
أصعب من الوصف
هذا هو (يحيى عياش) في نظر الصهاينة أصعب من الوصف ، وأعقد من الخيال لا يُرى بالعين فيمسك ، ولا يُسمع بالإذن فُيرصد ، اختار الخيار الأصعب ، وقبل المواجهة الأخطر ، وطوال أربع سنوات المطاردة التي عاشها (المهندس) بكل ما تحمل من تحدي وخطورة لم تقف أجهزة الدولة الصهيونية عن البحث عنه في كل مكان ، فقاموا بتوزيع البيانات في شهر يوليو 1993 على أهالي نابلس يحذرونهم مساعدة (المهندس) ، إضافة إلى توزيع صوره ومواصفاته على جميع عناصر الجيش الصهيوني ، بينما صورة بوستر كبيرة بالألوان معلقة للمهندس في المكتب الرئيسي للشاباك ، عدا عن نشاط الوحدات المستعربة وأجهزة الرصد والمعلومات إضافة إلى تضيق الخناق على (المهندس) باعتقال كل من كانت له معهم علاقة ، وساعدوه حتى غدا وحيداً . وكانت أبرز محاولات اغتيال (المهندس) تلك التى وقعت في (دير بلوط) في 6 أغسطس 1993م حيث اصطدمت سيارته بحاجز عسكري أسفر عن استشهاد رفيقه (عزيز مرعي) واعتقال (محمد ريان) بينما تمكن (المهندس) من الفرار .
وفي حي القصبة بنابلس في 11 تموز 1994م تعرض منزل كان يأوي (المهندس) وإخوانه للقصف ، وبعد ساعات من الاشتباك استشهد (علي عاصي وبشار العامودي) اللذين غطيا انسحاب المهندس .
المطلوب رقم واحد
إنجازات المهندس التي أنهكت الاحتلال وأجهزته الأمنية جعلته المطلوب رقم 1 للأجهزة الصهيونية التي طاردته طوال 5 سنوات وسخرت كل إمكانياتها لكشف هذا اللغز وشكلت وحدة تنسيقية بين كافة الأجهزة الأمنية لتقصي أية إشارة عن تحرك المهندس ونظموا دراسات عديدة حول شخصية المهندس وأسلوب حياته وراقبوا أصدقاءه في فترة الدراسة وأرسلوا وحداتهم الخاصة التي نصبت له الكمائن في الليل والنهار في المدن والمخيمات في الغابات والكهوف حيث لم تعد هناك قرية في الضفة الغربية إلا وداهمتها وحدة مختارة من جنود الاحتلال الصهيوني بحثاً عن الأسطورة الجهادية التي ولدتها وأهلتها حماس .
مرات كثيرة أنجى الله يحيى عياش قبل وصول الصهاينة بدقائق في حي القصبة في نابلس ، وفي حي الشيخ رضوان في غزة حيث استشهد رفيق جهاده الشهيد كمال كحيل ومطلوب أخر من حماس هو إبراهيم الدعس .
ويستريح المقاتل الصلب
تمكن الشاباك من الوصول إلى معلومات بموقع المهندس والتسلل إلى قطاع غزة إلى دائرة الأشخاص الأقرب إلى (أبي البراء) ، وكما يروي (أسامة حماد) صديق (المهندس) والشاهد الوحيد على عملية الاغتيال حيث قال أن (يحيى) إلتجأ إليه قبل خمسة شهور من استشهاده حيث آواه في منزله دون أن يعلم أحد ، وكان (كمال حماد) وهو خال (أسامة) ويعمل مقاول بناء ، على صلة وثيقة بالمخابرات الصهيونية يلمّح (لأسامة) بإمكانية زيارة يحيى له في شركة المقاولات وأعطاه جهاز بيلفون لاستخدامه ، وكان (كمال) يأخذ جهاز البيلفون ليوم أو يومين ثم يعيده ، وقد اعتاد والد المهندس الاتصال مع (يحيى) عبر البيلفون ، وقد طلب منه (يحيى) مراراً الاتصال على الهاتف البيتي ، وقد اتفق (يحيى) مع والده على الاتصال به صباح الجمعة القادم على الهاتف البيتي ، وفي صباح الجمعة الخامس من يناير 1996م اتصل (كمال حماد) بـ (أسامة) وطلب منه فتح الهاتف المتنقل لأنه يريد الاتصال من دولة الاحتلال ، واتضح أن خط هاتف البيت مقطوع ، وفي الساعة التاسعة صباحاً اتصل والد يحيى على الهاتف المتنقل الذي أبلغ أسامة أنه لم يستطع الاتصال على الهاتف البيتي ، واستلم المهندس الهاتف وقال لوالده : " يا أبي لا تظل تتصل على البيلفون " حين دوى انفجار ويسقط المهندس واللحم يتناثر والزجاح يتحطم وبقع الدم تتناثر ويتضح أن عبوة ناسفة تزن 50 غرام انفجرت في (الهاتف النقّال) ، يهوي الجسد المتعب ليستريح من وعثاء السفر ، يستريح المقاتل الصلب بعد سنوات الجهاد ، ويصعــــــد إلى العلا والمجد يلتقي هناك بالنبيين والصديقين والشهداء بإذن الله ، هكذا يفوز المهندس في الدنيا والآخرة .
ملف ثالث : مع أسرة يحيي بعد أربعة سنوات ونصف من إستشهاده
أسرار تنشر للمرة الأولى
قرابة اربعة اعوام ونصف العام مرت على استشهاد المهندس يحيى عياش المسؤول الكبير في جناح حماس العسكري كتائب عز الدين القسام الذي بلغت شهرته الافاق وانتهت حياته بتفجير هاتفه النقال عن بعد بواسطة عملاء الشاباك الصهيوني كبر معها طفلاه البراء 8 سنوات ويحيى 4.5 سنوات.
وفي منزل متواضع يسكن طفلا عياش مع والدتهم والزوج الجديد يحيى غزال الشاب المتدين صاحب البسمة يشرف على تربيتهم بعد زواجه من ارملة الشهيد منذ 41 شهرا وبدأوا ينادونه بابا يحيى اقترب براء بشهادته المدرسية حيث يدرس بمدرسة خاصة وقد بدت علاماته المدرسية مرتفعة فيما بدأ الصغير يحيى عياش يداعبنا ويتحدث عن رغبته بدراسة الهندسة الكهربائية مع شقيقه براء مقدما شهادته هو الاخر وراحت عيناه تميلان للنعاس في جسم يعلوه شعر احمر يلمع وما لبث ان طرد النوم ليواصل لعبه في ساحة المنزل.
يحيى عياش الصغير لم يعرف والده المهندس لكن والده الشهيد شاهده وكان عمره انذاك حوالي اسبوع فقط. وبدأ براء يحيى عياش يتعلم لعبة الكاراتيه مع شقيقه يحيى في احدى مراكز تدريب الكاراتيه بنابلس ، ومن الواضح ان هناك تغيرا قد طرأ على حياة عائلة المهندس بعد زواج ارملته وانتقالها للسكن في نابلس برفقة اطفالها الذين اشترطت عائلة الشهيد ان يتم تربيتهم تربية اسلامية ونقية للبقاء مع والدتهم وزوجها الجديد.
من الواضح ايضا ان امرأة مثل ارملة الشهيد ترقبها كل العيون الخبيثة وتحاصرها كانت بحاجة لوضع مستقر تتابع فيه حياتها وتتمكن من الاشراف على تربية طفليها بعيدا عن المعاناة التي عاشتها طوال فترة المطاردة للشهيد المهندس.
وقد بدأت مطاردة الشهيد كما تقول ارملته ام البراء في شهر كانون اول 91 عقب اندلاع حرب الخلية حيث لم تسلم العائلة من الملاحقات والضرب والحصار والاقتحام وتحطيم اثاث المنزل.
وتضيف ام البراء : كانت القوات الخاصة تسبق الجيش ويعيثون في المنزل فسادا ويطلب من الجميع الخروج من المنزل واليدين للخلف والسير على قدم واحدة ، ومعهم الاطفال ايضا ثم يقتحمون المنزل ومعهم احد المواطنين كدرع بشري للحماية.
وامضت ام البراء عشرة شهور في غزة مع زوجها الشهيد يحيى وكانت تعيش باسم مستعار وكذلك طفلها براء الذي تعود على الحال وينطق باسمه الجديد وكان يعلم ايضا ان والده مطلوب في الوقت الذي كان فيه الشهيد يغيب عن المنزل ما بين 2-5 ايام اسبوعيا.
واثناء الحديث كان يردد براء ويحيى رغبتهما بالعلن ويقطعون الحديث بانهم يرغبون بدراسة الهندسة الكهربائية في جامعة بيرزيت لسبب بسيط ان والدهما الشهيد عياش درس هناك.
وفي وسط المنزل اتخذت العشرات من الصور واللوحات التذكارية التي تحمل صورة المهندس ابو البراء اتخذت موقعا لها وقد بدت صورة الطفلين تحيطان بصورة الوالد الشهيد.
وحول الصفات التي ميزت الشهيد ابو البراء تقول ام البراء انه كان هادئا للغاية ويعتز بدينه يفرق بين الحلال والحرام وانه جعل حياته لله وكان كتوما لدرجة لا توصف.
وكان يتمنى الشهادة باستمرار ويعتبر مثله الاعلى في الجهاد الشيخان عز الدين القسام والدكتور عبد الله عزام رحمهما الله.
ونقلت عنه انه كان يحسد من سبقوه بالشهادة ويتمناها باستمرار ولم يكن يهتم بالمظهر يوما ما ، وحول معرفتها بدوره في اي عملية عسكرية اشرف عليها او وجهها او شارك فيها تقول انه كان ينفي اي علاقة له بها رغم ان اسمه كان يتردد على الالسن وفي وسائل الاعلام انه خلف كل شيء الا انه كان في النهاية يبتسم ويصمت ولذلك دلالات.
وتؤكد رغم الاوضاع الصعبة التي مرت بها العائلة ان الجميع لابد ان يرضى بقضاء الله وقدره وكون الجميع مسلمين لابد ان يكونوا كذلك، الا انها ترفض المقولة : ان كل شيء مع الايام ينسى ، وتقول : ان معاناة الانسان والماضي وفصول الالم جزء اصيل من الذاكرة والذكريات التي لا ولن تنسى.
وابلغ المهندس عياش زوجته يوم ولادة صغيره يحيى بانه يحبه بشغف لسببين الاول انه يشبه والدته ام يحيى "عيشة عياش" والثاني انه جاء رغما عن اليهود الذين كانوا يطاردونهم.
وكانت لنا زيارة ومتابعة لقصة العائلة ومعاناتها التى تجددت مؤخراً في رافات حيث وصلنا بعد صلاة العصر ووجدنا طفلي الشهيد عياش في منزل جدهما ابو يحيى وجاءا لزيارة العائلة حيث ان الزيارات المتبادلة شيء اساسي و لم تنقطع يوماً.
وعلى مدخل المنزل رحب بنا الشيخ "ساطي عياش " جد المهندس يحيى والذى يبلغ من العمر (100) عام وقد بدا وجهه بوضوح انه اصغر من ابنه عبد اللطيف ابو يحيى الذى انهكه المرض وآثار الالم جراء ضربه من جنود الاحتلال في السابق .
وقد رفضت سلطات الاحتلال السماح لوالديه وزوجته واطفاله والعائلة بالذهاب الى غزة لزيارة قبر الشهيد عدة مرات وتذرعت كما يقول " ابو يحيى " بالرفض الامني له ولاولاده وزعمت ان ام يحيى لا يوجد لها صورة على الحاسوب الاسرائيلي وتعرب ام يحيى عن استغرابها ودهشتها الشديدين من هذا الجواب وتقول اية دولة مغتصبة هذه التى لا تحتفظ بصورة لي وقد صورتني مرات عديدة اثناء اعتقالي .
اما ارملة الشهيد فقد رفض طلبها عدة مرات لاسباب امنية كذلك .
وتوجه والد يحيى مرات للارتباط المدني لمتابعة الموضوع دون جدوى لان الرفض كان اقوى من النقاش والمتابعة .
وفيما يتعلق باشقائه فقد قالوا اذا كان الرفض قد طال الوالدين والارملة فماذا سيكون نصيبنا ؟؟
وقد منعت سلطات الاحتلال والدة يحيى عياش من دخول الخط الاخضر لزيارة والدتها المريضة هناك ومنعت كذلك اشقاءها واقارب العائلة من دخول فلسطين ورفضت طلباتهم 33 مرة منذ لحظة استشهاد ابو البراء وحتى الان .
وقد اختار اهالي رافات والد عياش رئيسا للمجلس القروي في البلدة ويقول ان المهمة صعبة للغاية ويرغب بتقديم استقالته قريبا بسبب مرضه وعدم تجاوب الاهالي شأنه في ذلك شأن العديد من المجالس المحلية المعنية وكان قد اختير قبل 27 شهراً لهذه المسؤولية .
ويؤكد والد عياش انه يشتاق لاطفال يحيى كثيراً ولا يصبر على فراقهم وتراه يتوجه لنابلس لزيارتهم واحضارهم لمنزل العائلة حيث نشأ والدهم وترعرع .
ويقول مرعي شقيق الشهيد يحيى ان العائلة دفعت باتجاه زواج ارملة الشهيد لاسباب كثيرة لكن هناك تأثير من المجتمع لكون يحيى رمزاً للجهاد ولكن في النهاية ..حقها الزواج ولم يكن لدينا مشكلة .
وفي منزل العائلة برافات ايضاً حيث غرف الاستقبال كانت هناك العديد من الصور معلقة على جدران المنزل مثل صور الشهيد المهندس الاول يحيى والمهندس الثاني محيي الدين الشريف والاخوين عوض الله واحمد ياسين والشهيد بدران ابو عصبة من رافات ومجسمات للقدس وقبة الصخرة وخارطة لفلسطين وشهادة تجويد احكام القرآن ليحيى عياش مؤرخة في 12/7/89.
ويحلم والد يحيى باستمرار به ويراه في المنام بمزارع وحدائق رائعة ومنازل غاية في الاتقان والهندسة والزينة والاشجار التى ليس لها مثيل ووجهه منير يشع بالنور والضياء .
ولا زال والد الشهيد يعانى من اثار اصابته بالضرب من جنود الاحتلال واثار كسور قديمة بالعمود الفقرى والغضاريف ولديه التقارير الطبية التى تثبت ذلك . وقد اعتدى عليه الجنود بالضرب بكعب البندقية .
وبات منذ ثلاثة شهور لا يقوى على التحرك بحرية بعد ان عاودته الالام ويعرب والد عياش عن فرحتة بانتصار حزب الله ويقول "نهنىء حزب الله من كل قلوبنا لقد رفع رؤوس المسلمين عالياً"
اما ام يحيى فقد فتحت قلبها لمراسلنا وبدأت بشرح معاناتها ايام التحقيق في سجن المسكوبية الـ 34التى قضتها في الزنازين والمستشفى .
فقد اعتقلت يوم 20/9/95 ونجلها مرعى يوم 23/9/95 ولا زالت تفرض عليها الاقامة الجبرية باستثناء الذهاب للعلاج وبخط سير واضح بعيداً عن الالتفاف على اي شارع والتوجه مباشرة لنابلس فقط ولا زالت الاقامة لمدة خمس سنوات وبقي لها 5 شهور فقط من ذلك الوقت .
وتقول ان الاحتلال اصدر حكما بحقها لمدة عامين ووقف تنفيذ وقابلة للتنفيذ اذا خالفت طريق السير المحدد لها .. وتقول انه لا يوجد شيءتخاف عليه بعد استشهاد يحيى .
وحول حيثيات الاعتقال اوضحت قائلة " انه مع اذان الفجر في ذلك اليوم سمعت صوتاً وتحركاً غريباً اثناء نومها على سطح المنزل وفأيقظت زوجها وعندما رفعت راسها لتنظر الى مصدر الصوت عاجلها ضابط من على الارض بالصياح " انزل والا اطلقت الرصاص " ونزل الجميع عن المنزل وطلبوا الهويات واخذوها للتدقيق .
وكانت تخفي بعض الاموال التى تملكها العائلة في ملابسها لان الجنود اعتادوا سرقة كل شيء وفي التفتيش ...
ومع مشاهدة هويتها تم خطفها بقوة ووضعت في جيب عسكري ابلغها قائده انها معتقلة منذ اللحظة وانطلق مسرعاً يبتلع الارض باتجاه حاجز عسكرى "عزون".
وطلب الضباط منها خلع ملابسها وردت عليهم بصوت قوي "انا مسلمة وارفض ذلك اضافة لاني مريضة بالسكري والضغط والازمة وفوق ذلك اعيش برئة واحدة ".
وتم وضعها في زنزانة منفردة بسجن المسكوبية يدخل خلالها الجنود الطعام باقدامهم يدفعونه اليها وهم يرتعشون .. وذات مرة شاهد احدهم حالتى الصحية وقد تراجعت بشكل كبير فبدأ بالصراخ من الخوف واجتمع ضباط كثيرون وقيدت يداي ورجلاي بالحديد الى المستشفى وتؤكد ان السيارة كانت تحرسها سيارات وتصدر اصواتا غريبة والابواق تزمر " بتواصل وان ذلك لم يحصل لها في يوم عرسها وبمجرد دخلولها باب المستشفى اغمي عليها واستفاقت على تقييد يديها ورجليها في السرير باحدى الغرف .
وكان يحرسها اربعة من حرس الحدود ومجندة يهودية لم يسمحوا لي بالنوم ويقومون بالطرق الشديد على السرير حتى لها اتمكن من النوم لاعترف عن تفاصيل زياراتي لابنى الشهيد يحيى قبل استشهادة .
وتعرضت للاهانات الصعبة في المستشفى عندما علم الجميع بانها ام المهندس يحيى عياش حيث كان كل واحد يمر من جانبي يقوم بالبصاق في وجهي - الله يلعنهم " والله ما كنت اعرف كيف امسح البصاق عن وجهي وكيف لي ذلك ويداي مقيدتان عن اليمين وعن الشمال.. من منا يتخيل هذا الوضع النفسي الصعب ومع امرأة مريضة " تضيف والدة المهندس .
وكانت كلما تلقت جرعة دواء او علاج او حتى كاس ماء يقول لها الجميع من الدكتور والمرضى والحراس "سم . سم" وحتى فحص الدم تم شطب اصبعها بشفرة حادة وتركت تنزف حتى توقف النزيف لوحده بامر الله .
وتركز التحقيق معها حول مكان الشهيد ومن الذى اخذها اليه وعن عدد الحراس حوله وطبيعة السلاح الذي يحمله
وحول كيفية سفرها لغزة قالت " جاءت سيارة الينا وقت الظهيرة بها شاب سألني عن رغبتي بمشاهدة يحيى فوافقت ولكني سألته عن صدق حديثه لأتأكد فاخرج من جيبه صورة مشتركة تجمعه مع يحيى فغادرت المكان مع زوجة يحيى وطفله " البراء ".
وكان الله قد من علينا بان احداً لم يشاهدنا ونحن نغادر المكان لان الكثيرين كانوا يراقبونا "تقول ام يحيى ".
وتم تغطية زجاج السيارة بلون غامق وبدأت تنهب الارض وتسير مسرعة وذلك لعدة ساعات حتى وصلت لحاجز ايرز وهي لاتعرف انه حاجز ايريز ونظر جندى الى من في الحافلة ثم اعطى الاشارة بالمرور وبعدها وصلت لمنزل لا اعرفه وهناك دخل على يحيى رحمه الله وعانقته وبدأ بالبكاء- تضيف ام يحيى .
ومكثت عنده اسبوعين قبل ان أعود الى الضفة الغربية يوم 22/4/95 وذات يوم شاهدتني زوجة صاحب المنزل الذى يسكن فيه يحيى وانا ابكى وكانت لديها الشكوك بانني والدة مطارد ولم تعرف اننى ام يحيى وقالت " لماذا تبكين ... اذا كان لاحد ان يبكي فقط هي ام يحيى عياش والدة المهندس الذى لم تره منذ مدة طويلة " هي وحدها لها الحق بالبكاء ...وزاد ذلك بكائي .
وتؤكد ام يحيى ثقتها بالله ولطفه وتقول :"ان والدها "والد ام يحيى " مات وهي جنين في بطن والدتها ولم تضع وتكفل الله بها حتى ولدت وكبرت وتزوجت وانجبت يحيى واخوانه مرعي ويونس وان شاء الله ربنا سيتكفل اولاد يحيى ولن يضيعوا وسيتربون على الاسلام والمقاومة .
وفي النهاية لا زالت الامنية للعائلة زيارة قبر الشهيد يحيى عياش في غزة فهل تتحرك الجهات ذات العلاقة في السلطة الفلسطينية ومؤسسات حقوق الانسان للضغط على سلطات الاحتلال لتمكنها من زيارة قبر الشهيد يحيى عياش .

