27/04/2009
قالت الصحافية الاسرائيلية عميرة هاس في مقال نشرته في صحيفة "هآرتس" اليوم الاحد ان قوات الجيش الاسرائيلي تعرف جيدا لماذا قام طيار من سلاح الجو الاسرائيلي في الثالث من كانون الثاني (يناير) ما بين الساعة 3:30 و3:45 فجرا، بقصف وتدمير المدرسة الأميركية الدولية شمال قطاع غزة.
وكان الناطق باسم الجيش الاسرائيلي صرح للصحيفة آنذاك في بيان مكتوب ان: "الكلية الأميركية في منطقة بيت لاهيا كانت تستخدم كموقع لاطلاق النار، وايضا كمستودع لتخزين الذخائر"، واضاف: "لذلك، فانها كان هدفا ارهابيا مشروعا".
وكتبت هاس تقول: "وبعيدا عن حقيقة ان الكلية هي مدرسة لأطفال الصفوف من الأول وحتى الثاني عشر، فانه من المتأخر جدا محاولة اثبات العكس. ويكفي القول ان ربحي سالم، وهو استاذ رياضيات، كان المدير الاداري للمدرسة منذ بداية عملها عام 1999، شعر بالذهول لسماع اتهامات الجيش الاسرائيلي. وبحسب سالم، لم تطلق اي صواريخ "قسام" من اراضي المدرسة. وتشغل المدرسة 3 من 36 دونما يتكون منها الحرم المدرسي. وبالتأكيد ان صواريخ كانت تطلق احيانا من الدفيئات والحقول المحيطة، ولكنها لم تطلق ابدا من نطاق المدرسة. وكانت "حماس" قد وعدت سالم بأن ايا من مقاتليها لن يدخل الى المدرسة.
وماذا بالنسبة لاستخدامها كمستودع للذخائر؟ يقول سالم: "هذا اسخف شيء سمعته على الاطلاق"، ويضيف انه لو كان الامر كذلك ألم تكن لتحدث انفجارات ثانوية؟ وألم تكن لتندلع حرائق؟".
ويقول سالم ان دليلا منطقيا هو ما قاله للسيناتور جون كيري، فقبل ليلة من الهجوم، سأله سالم ابو قليق، احد حراس المدرسة، عما اذا بوسعه ان يحضر زوجته وابناءه الثلاثة للعيش في مجمع المدرسة. وقال سالم: "قلت له اني سأفكر في الأمر واجيبه في الصباح". وكان ابو قليق واحدا من بين 6 حراس يعملون في ورديات على مدار الساعة طيلة ايام الأسبوع، وكان على الحراس تقديم تقارير عن حدوث اي شيء غير مألوف، وأن يتصلوا بالشرطة عند الضرورة. ولو ان اي شخص فرض على المدرسة السماح بادخال ذخائر هناك، فهل كان الحارس وعمره 24 عاما ـ وهو ميت الآن - ليعتبر المكان ملاذا آمنا له ولاسرته؟ ويقول سالم مرتجفا: "احمد الله على انني لم اعطه الأذن فورا".
وستبلغ تكلفة اعادة اعمار المدرسة 7,12 مليون دولار، من بينها 5,5 مليون دولار للمباني وحدها. وكآلاف المباني التي دمرها الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة، فليس هناك اي شيء خاص فيما يتعلق باكوام الركام التي بقيت. وكذلك ليس هناك اي داع لازالة الانقاض الاخرى، طالما ان اسرائيل لا تسمح بدخول مواد البناء الى غزة. ولكن هذا يعكس القصص والتناقضات والضحايا والامكانيات التي تميز واقع الحياة في غزة. وعندما يقول الغزيون "ان اسرائيل تعيث الفساد بالضبط في حياة اولئك الذين لا ينتمون الى حماس"، فان قضية المدرسة الأميركية هي واحدة من بين العديد من الأمثلة، وهو مثال مثير للسخرية.
ويجلس سالم داخل مكتبه في المقر المؤقت للمدرسة في حي الرمال بمدينة غزة ويلخص التاريخ القصير للمدرسة بأن "مصيرها كان محتوما منذ اليوم الاول"، ويقول: "افتتحت المدرسة في 27 ايلول (سبتمبر) 2000، وفي اليوم التالي دخل ارئيل شارون الى ساحة المسجد الأقصى في القدس"، وهو تصرف اشعل احتجاجات شكلت بداية الانتفاضة الثانية. وكان الغرض من فتح المدرسة ان تكون بمثابة رمز للثقة في مستقبل غزة المستقر. واتفاقيات اوسلو والدعم الاجنبي والبعثات الدبلوماسية والمشاريع الاقتصادية واعادة نقل مكاتب السلطة الفلسطينية ورئيسها في ذلك الوقت ياسر عرفات، جميع هذه التطورات قد ادت الى زيادة في عدد المواطنين الأجانب الذين يأتون للعيش والعمل في غزة". ويضيف سالم ان عراب المدرسة كان المستشار الاقتصادي لعرفات، محمد رشيد. وقد اراد اقامة بنية تجذب الأجانب للعيش هنا مع عائلاتهم، عوضا عن المجيء لوحدهم. وكانت اقامة مدرسة دولية مع منهاج اميركي جزءا هاما في مثل هذه البنية التحتية. ووجهت الدعوة ايضا الى "المحليين" الذين يريدون ـ ويستطيعون تحمل كلفة ـ ارسال ابنائهم الى المدرسة، للقيام بذلك.
ويعرّف رشيد بأنه الرجل الذي يقف وراء الحركة الاقتصادية للسلطة الفلسطينية. والتي استخدمت خدماته التجارية الفلسطينية ، وهو محور العديد من الاتحادات المالية والصناديق التي ادارها لصالح عرفات، لتمويل بناء المدرسة التي اضفي عليها طابع ولمسة غربية: يوم دراسي كامل وصفوف مقتصرة على 20 طالبا فقط كأقصى حد، والكثير من المساحات المفتوحة، وطلاب وطالبات يدرسون معا في نفس الصفوف، وتعليم عالمي وليبرالي، واستخدام اللغة الانكليزية كلغة للتدريس (الدروس العربية والاسلامية او المسيحية تعطى باللغة العربية)، والموسيقى والحاسوب والتربية البدنية.
وفي الواقع، فان عددا قليلا جدا من التلاميذ الأجانب التحقوا بالمدرسة، وكانت غالبية التلاميذ من الطبقة المتوسطة العليا في غزة: ابناء رجال الاعمال ومسؤولي الحكومة وكبار ضباط الأمن، وحتى اولئك المعروفين بانتمائهم لليسار الفلسطيني (الذين كانوا من الناحية النظرية خصوم عرفات ورشيد السياسيين). وكان المعنى الضمني واضحا: ان هؤلاء الأشخاص، الأكثر نفوذا في المجتمع الغزي، يعبرون عن عدم ثقة بالنظام التعليمي الفلسطيني، بمنهاجه ومدرسيه وغرفه الدراسية المكتظة (40 طالبا) وبفصله بين الجنسين ويومه الدراسي القصير.
ويقول سالم، الذي تعلم في مصر والولايات المتحدة وبريطانيا قبل ان يعود الى غزة عام 1999 بعد غياب دام 20 عاما: "نحن لم نحاول تحسين النظام التعليمي الفلسطيني. وكذلك لم نؤسس المدرسة لتكون مؤسسة هادفة للربح".
ولتجنب الانتقادات، قررت المدرسة قبول 10 اطفال سنويا من مخيمات اللاجئين بمنح كاملة طوال حياتهم المدرسية. ويقول سالم انه فيما يتعلق بالانجازات الاكاديمية للتلاميذ الذين تلقوا المنح فان البرنامج كان ناجحا. ولكن الانتفاضة وتبعاتها عرقلت الكثير من الخطط واحبطت العديد من الجهود لتوسيع برنامح المنح. وتمت تغطية العجز السنوي للمدرسة وقدره مليون دولار من صندوق الاستثمار الفلسطيني التابع للسلطة الفلسطينية (الذي كان قد حل مكان الخدمات التجارية الفلسطينية التابعة لرشيد).
وسرعان ما تبددت اي آمال ولدها الانسحاب الاسرائيلي عن غزة عام 2005. واثارت الفوضى التي سادت في عام 2006 وبدايات 2007 وخطف المواطنين الاجانب، مخاوف اعضاء الهيئة التدريسية الدوليين ودفعتهم للابتعاد. وحل مكانهم غزيون درسوا في الخارج كمعلمين. وهذا ادى الى انخفاض فوري في العجز السنوي الى 300 الف دولار، اضافة الى رسوم التعليم السنوية من 5000 دولار الى 3000 دولار.
وفي نيسان (ابريل) 2007 وكانون الثاني (يناير) 2008، تعرضت المدرسة لأعمال تخريب على يد مجهولين زعموا انهم يتصرفون بدوافع اسلامية. وجرى اضرام النار في حافلات خاصة بالمدرسة وسرقة اجهزة حاسوب منها. ولم يعتقل المنفذون ابدا. ولكن في ظل تلك الهجمات، تعهدت سلطات "حماس" بتوفير الحماية للمدرسة، حتى على رغم معارضتهم لها ايديولوجيا.
وقد نجح القصف الاسرائيلي فيما فشل فيه الاصوليون الاسلاميون. ويتذكر سالم: "قال لي أحدهم: هل تعرف لماذا تحل بك كل هذه المصائب؟ لأن المدرسة بنيت من أموال حرام، من عائدات الكازينو في اريحا".
ولا يقيم سالم وزنا للخرافة، وهو يواصل التخطيط لمستقبل المدرسة. ومن بين 230 تلميذا كانوا ملتحقين بالمدرسة قبل القصف، غادر 40 تلميذا الى الضفة الغربية والخارج. ويقول سالم بفخر: "ولكننا لم نخسر اي طالب واحد لمدرسة اخرى في غزة. الطلاب متكدسون في بناية صغيرة وغير مريحة، وهم يبذلون كل ما في وسعهم لانقاذ السنة الأكاديمية".
ويسكن محمد ابو قليق - والد حارس الأمن الذي قتل - والذي كان قد شرّد من قرية النبي روبين (غرب الرملة) عام 1948، بجوار المدرسة. وفي صبيحة يوم السبت المشؤوم، كان قد استيقظ على صوت انفجار وتحسس طريقه وسط الظلام والغبار، وابتلعت صرخاته :"سالم ، سالم" وسط ضجيج مزيد من الانفجارات وازيز محركات الطائرات الحربية. وعندما قيل له ان المدرسة كانت تستخدم كمستودع للذخائر، ضحك بمرارة وقال: "نعم، وقد ازلته قبل الهجوم بقليل".
وقد استشهد ابن آخر له قبل عامين من ذلك، عندما كان يجمع البقايا المعدنية لمنصة صاروخ "قسام" لبيعها. واطلقت طائرة بلا طيار صاروخا ادى الى مقتله. واصيب ابن ثالث له بجروح خطيرة في السابع من كانون الثاني (يناير) الماضي نتيجة لشظية من صاروخ اطلقه الجيش الاسرائيلي على مناطق مأهولة شمال القطاع، وهو ما يزال يتلقى العلاج في مصر. وعلى خلاف ربحي سالم، فان ابو قليق لا يشعر بالتفاؤل. وهو يقول ما يقوله الجميع في غزة هذه الايام: "بمجرد ان نعيد البناء، فان الاسرائيليين سيعودون لتدمير كل شيء".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : هآرتس