بقلم: عامر شماخ
لم نقرأ فى تاريخ الأمم أن طاغية من الطغاة قد نهض ببلده، أو أزاح عن كاهل أبنائها ما يعانونه من أزمات، بل كل الطغاة- من دون استثناء- كانوا وبالا على أممهم، وحجر عثرة فى سبيل تقدمها وحضارتها، وأكثريتهم لم يتركوا الحكم إلا وقد تحولت بلادهم إلى خرائب وأنقاض ينعق فوقها البوم.
ذلك أن الطاغية قد تضخمت ذاته، وانتفشت نفسه داخله حتى انبعجت وتشوهت، فصار خلقًا من بعد خلق، على غير صورة الإنسان السوى الذى يرعى مصالح بلده ومقدرات أمته..
وإذا كان الإنسان قد فُطر على حب التعمير والتشييد والبناء فإن الطغاة لما انتكست فطرتهم صاروا يعشقون الهدم ويحبون الخراب ويسيل لعابهم لمشاهد القتل والدماء، فهم مرضى جنون العظمة وتضخم الذات، فلا يرون أنفسهم بشرًا مثل باقى البشر، بل يرونها قد ركبت لتكون صاحبة الأمر والنهى فى كافة أمور البشر.
يختزل الطاغية الأمة فى شخصه، ويعتبر أبناءها عبيدًا لديه، يوجههم كما يشاء، ويأمرهم فلا يعصونه، ويكذبهم فلا يراجعونه، ويستخف بهم فيصدقونه، وقد اغتر بمن يصفقون له، وبمن يثنون على خوارقه وعاداته وصفاته، من ثم فقد انفتحت أمامه جميع الطرق للاستبداد والطغيان، وادعاء أمور ليست فى طاقة البشر ومجاوزة المعقول إلى حد الجنون، ولم لا وقد وجد من يشجعه على ذلك، ويرفعه إلى مراتب الأنبياء والرسل، ويعتبر من أنجبته توأمة مريم ابنة عمران- عليها السلام.
لقد تمادى الفرعون الأكبر فى غيه وضلاله حتى نسى من هو، وقد أملى الله له ليزداد إثمًا.. فما كان من الغبى الأرعن إلا أن اشرأبت نفسه إلى مقام الألوهية، بناء على أنه قد ملك مصر وأهلها فلم ينازعه فيها أحد. وظن أن هذا كاف للحصول على لقب (إله)، قال المخبول: {مّا عّلٌمًتٍ لّكٍم مٌَنً إلّهُ غّيرٌى فّأّوًقٌدً لٌى يا هّامّانٍ عّلّى پطٌَينٌ فّاجًعّل لٌَى صّرًحْا لَّعّلٌَى أّطَّلٌعٍ إلّي" إلّهٌ مٍوسّي" $ّإنٌَى لأّظٍنٍَهٍ مٌنّ پًكّاذٌبٌينّ}[القصص: 38]، وقال {مّا أٍرٌيكٍمً إلاَّ مّا أّرّي" $ّمّا أّهًدٌيكٍمً إلاَّ سّبٌيلّ پرَّشّادٌ} [غافر:29]، وقد اعتبر الرسول المبعوث من السماء كاذبًا ضالاً، مبدلاً للدين مشيعًا فى الأرض الفساد، قال: {إنٌَى أّخّافٍ أّن يبّدٌَلّ دٌينّكٍمً أّوً أّن يظًهٌرّ فٌى الأّرًضٌ پًفّسّادّ} [غافر:26]،يقصد موسى عليه السلام. وهذه من طرائف هؤلاء المخبولين الذين يحادون الله وينازعونه ملكه وهم أحقر من بعوضة تعانى الاحتضار، وقد ضرب الله بتلك الحشرة المثل فى ضعف الكافرين ومن نسوا أصل خلقتهم.
والعجيب أنك ترى الطاغية أسدًا على قومه، نعامة مع أعدائه، جهورى الصوت سليط اللسان عندما يخاطب أمته، وديعًا وداعة الحملان عند الحديث مع من أذلوا عنقه وأخزوه على الملأ، ولا يغرنك ما يدغدغ به مشاعر العامة من عزمه على القضاء على الأعداء ونسفهم وإبادتهم.. إلخ هذه الكلمات الرنانة التى يسخر منها هؤلاء الأعداء، فإن من يفعل لا يقول، ومن ينفذ لا يهدد، وكم من طاغية خدع شعبه بمثل هذه المسرحيات وفى الواقع كان يعقد الاتفاقيات المذلة مع الأعداء من خلف ظهر الشعب وقد تنازل فيها عن أرض، أو كبل بلده بالقيود لسنوات، أو رضى بأن يبقوه على قيد الحياة شريطة ألا يفكر- مجرد تفكير- فى التجهيز لملاقاة هؤلاء الأعداء.
والناظر اليوم لأحوال المحروسة، يجد ما سبق قوله واقعًا مريرًا يعيشه المصريون على يد العسكر الطغاة الذين اغتروا بما فى أيديهم من أسلحة، فسطوا على الحكم، واستفرغوا ما فى خزائن الدولة من أموال فخصصوها لأنفسهم ومن يحبون، ثم تمادوا فى غيهم فأذلوا مواطنيهم وساموهم سوء العذاب، وزادوا فى قتلهم وسجنهم ومصادرة أموالهم، حتى تحولت مصر إلى معتقل كبير يعج بالكبت والمرض والفقر، وقد تردت الأوضاع على كافة المستويات، وتراجع ما كان متقدمًا، وأفلت نجوم كانت زاهرة، وعلا- فى المقابل- الأوباش على أكارم الناس، ما يهيئ لتخلف شديد مزمن يجعل البلاد والعباد فى مرمى الجميع، غير عصية على اقتطاع أجزاء منها أو احتلالها احتلالاً تامًا.
وإذا كانت الطامة قد وقعت، فلا مفر أمام العقلاء سوى البحث عن مخرج لتدارك هذا التردي، ولمنع تفشى هذا الوباء، ولا يتم ذلك إلا بأن يكون لكل وطنى حر دور فى هذا الصراع ولو صغير، فربما كان فى جهد المقل السلامة والنصر، ولا يركنن البعض إلى الراحة يقول يائسًا: لا فائدة، فإن هذا من عمل الشيطان وخيانة لله ورسوله، وتفريط للأمانة التى حملنا الله إياها، وللعهد الذى قطعه المؤمنون على أنفسهم بألا يفرطوا فى أوامر الله ونواهيه.

