بقلم : د.محمد محسوب
كان القرن الثاني عشر فاصلا في التاريخ الأوربي عندما تشكلت حركة الترجمة التي حملت اسم المشروع الطليطلي.. فرغم انتهاء مشروع الحروب الصليبية في الشرق باسترداد صلاح الدين للقدس سنة 1189 ميلادية (والذي حلّ محله في كتب التاريخ الانقلابي الحديث محمود بدر!!)..فإن سقوط طليطلة بيد الأسبان مثّل التحول الأساسي لأوربا نحو النهضة؛ فالتقت الإرادة السياسية ، التي يمثلها مطران طليطلة الفرنسي ريمون سوفيتا Raymond Sauvetat ، وعدد من أجيال المترجمين الاستثنائيين إلى تمكين أوربا من القيام بالمرحلة الحضارية التالية بعد المسلمين..
أدت عملية الترجمة إلى انتقال علم العالم الإسلامي إلى أحشاء الثقافة الأوربية فنقلتها من العالم الوسيط (الظلامي) إلى عالم التنوير ؛ فيمه يشبه – على حد تعبير الأستاذ ألآن دي ليبيرا (صاحب كتاب فلسفة العصر الوسيط)– بعملية "الامتصاص الأسموزي البطئ الذي أعطى ثماره بعد قرن من الزمان".
وقبل ذلك بقرن كامل كانت أعمال ابن رشد (الذي نعرفه لا الذي تعرفه من أفلام الراحل يوسف شاهين)، قد انتشرت كالنور في ظلام الثقافة الأوربية ، خصوصا في الجامعات اللاهوتية الفرنسية ؛ بحيث أنها أزعجت الكنيسة فأخذت تحذر منها باعتبارها – كما ورد على لسان القديس بونافنتورا - "هرطقة" ، ومع ذلك استمرت الابنرشدية في الانتشار بسرعة مذهلة حتى احتلت العقل الأوربي ابتداء من القرن الرابع عشر وصولا إلى القرن الخامس عشر وأصبحت منهجا دراسيا رسميا في جامعات بولونيا التي احتضنت الإرهاصات الأولى للنهضة الثقافية الأوربية ، وكذا جامعات باريس وبادوفا وغيرها.
وبينما وقع المثقفون العلمانيون في أسر الفكر الإبنرشدي فإن المفكرين الكنسيين فضلوا فلسفة ابن سينا والفاربي ، وهي ما يُطلق عليها اسم "فلسفة المشائية". فالقديس ألبرت الأكبر المولود على نهر الدنوب قبيل عام 1200 ، وهو من الوعاظ الدومينيكان ومؤسس الفلسفة الاسكولائية ، كما أنه كان أول ألماني يحصل على درجة ماجستير "معلم" في اللاهوت من جامعة باريس ، كان يسير في فكره على منوال الفارابي وابن سينا محاولا كسر الهوة بين الكنيسة والفلسفة واللاهوت والعقل ؛ ويقول مسيو رينان في ذلك "إن ألبرت الكبير مدين لابن سينا في كل شئ"..
وإذا قال لك أي نموذج من إسلام البحيري على شاشة انقلابية أن ابن رشد والفلاسفة المسلمين حُوربوا في العالم الإسلامي ، فاعلم أنهم لا يستمدون معارفهم إلا من أفلام سطحية، فابن رشد مثلا ليس فيلسوفا فقط كتب في الفلسفة والمنطق كالبرهان وتلخيص كتاب النفس والمقولات وتهافت التهافت وغيره وإنما فقيها عملاقا وأصوليا راسخا كتب بداية المجتهد ونهاية المقتصد وغيره؛ ولم يكن تلخيصه لكتاب أرسطو إلا تكليفا من الخليفة الذي لا تره العيون البحيرية إلا زير نساء يعطي أكياس الذهب للمساطيل..
ولم يقتصر التاريخ الإسلامي على ابن رشد وابن سينا والفاربي وغيرهم ممن جمعوا بين العلوم الطبيعية واللاهوتية والفلسفية والفقهية القانونية، إنما يمكنك أن تضع هؤلاء نماذجا للمفكرين المسلمين حتى سقوط العالم الإسلامي في مرمى التخلف منذ أربعة قرون لأسباب سياسية واستبدادية في الأساس..
والمثير للشفقة أن الفكر البحيري في شاشات الانقلاب الدموي وفي بلادنا المضروبة بداء الاستبداد والتخلف يعتقد أن شيوخ السلفية في العصر الحديث أو حتى خطباء المساجد أو علماء الأزهر هم نماذح لمفكرينا في عصر النهضة فيبنون رؤاهم على انطباعات تلفزيونية ومشاهدات قاصرة..
بينما أن العالم المفكر في ديارنا وتاريخنا كان قامة لا تُدانيها قامة.. فهو لا يأتي الملوك إنما تسعى الملوك إليه.. كما لا يمدح ملكا ولا يسقط في فخ نفاقه إلا إذا كان من ساقطي الذكر أو مدعي العلم على غير الحقيقة.. فليس فقط ابن حنبل الذي رفض مقولة خلق القرآن وناهض دولة كاملة ولم ينكسر أمام إغرائها أو قسوتها.. إنما على سيرته يأتي العز ابن عبد السلام الذي فرض على منظومة الدولة أن تنزل على رأيه وتعدّل من وضعيتها لتتماشى مع الشرعية.. وعلى منوالهما جماهير مثقفينا في فترة نهضتنا..
ولم يكن هؤلاء شيوخا بالمعنى الكهنوتي الذي أصبح ساريا في فترات انكفائنا (كالنموذج البرهامي).. وإنما شيوخا بالمعنى العلمي.. فهم ليسوا وعاظا بل فقهاء قانون أو مفكري فلسفة أو علماء في الطبيعة.. فالإسلام لا يعرف انظمة الكهنوات التي يرفعها الناس لمقام أعلى من البشر، كما لا يعرف أحدا يتحدث باسم رب البشر سوى رسله الذين اختُتتم عصرهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم..
ولو أردت أكثر أن تبحر لتعرف مصادر قواك الثقافية فعليك بمطالعة كتاب محمد وشرلمان للمؤرخ هنري بيرن (1862-1935) والذي يطرح سؤالا مذهلا: (كيف لمائة ألف خرجوا من الصحراء في القرنين السادس والسابع بدون تاريخ ثقافي معلوم أن يبتلعوا 80 مليونا من شعوب معروفة بتاريخها الحضاري المذهل، فرعوني أو فارسي أو كلداني أو روماني؟!) رغم أن القانون الإنساني المعروف أن الحضارة الأقوى هي التي تبتلع الحضارة الأضعف من حيث تماسك وثراء مكوناتها.. فعلى سبيل المثال فإن الجرمان اجتاحوا الدولة الرومانية واحتلوا عاصمتها حوالي 476 ميلادية وكانت أعدادهم مهولة بدرجة غيرت التراكيب الديموجرافية في أوربا من شمالها لجنوبها ومن غربها لشرقها، بل وعبرت إلى شمال أفريقيا تاركة آثارها الديموجرافية حتى اليوم.. ومع ذلك فإن الحضارة الرومانية ابتلعت هذه الشعوب المتدفقة من كل حدب وصوب وابتلعتها حتى أصبح هؤلاء رومانيون بالثقافة والفكر والانتماء والهوية..
أرجع هذا المؤرخ القدرة المذهلة لمائة ألف عربي قادمين من صحراء الجزيرة على ابتلاع غالبية العالم القديم إلى عنصرين قامت عليهما الحضارة الإسلامية وانهارت بسبب غيابهما الحضارات الأخرى وهما: حرية الفكر وشخصية المسئولية.. فالقرآن (وهو الكتاب الوحيد الذي حمله هؤلاء القادمون الجدد لمسرح الحضارة) يحث أتباعه على أن التفكر في كل شئ، وأن لا يخشون الخطأ لأن الخطأ هو جزء من الطبيعة الإنسانية كما إن المغفرة هي صفة للذات الإلاهية، ومن ثم فإن القبول بفكرة الخطأ واقترانها بالمغفرة جعلت المسلم لا يهاب المبادأة أو المغامرة أو الولوج في أي مجال فكري حتى إن المجادلة حول وجود الله ووحدانيته لم تكن تستدعي سوى ضرورة احترام العقل والبحث عن الدليل والبرهان وليس التفكير أو الترهيب..
أما شخصية المسئولية، فكانت فتحا للإنسانية التي عاشت في ظل ثقافات تذكِّر الإنسان بأنه يرث خطأ غيره، سواء خطأ أبيه الأول آدم أو خطأ أجيال سبقته، ومن ثم تصبح خطيئة جيل ثقلا على عاتق الأجيال التالية تقيد حركتها وتثير بؤسها.. بينما قرر القرآن بنصوصه القاطعة أن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن كل نفس بما كسب رهينة وأن كل إنسان لا يحمل على عاتقه إلا أفعاله ولا يُسأل عن أفعال أبيه أو قومه أو مؤسس دينه أو غير ذلك؛ وهو ما فتح الأفاق أمام المغمورين ليكونا قادة وعلماء وحكام..
لا تعجب أن هذه القيم أمست غريبة في العالم الإسلامي اليوم.. فنحن نحيش في فترة انحطاط ثقافي تراجعت فيه المعارف حتى ضاقت على كثير منا إدراك قيمه الحضارية وميزاته الثقافية..
ومن ثمّ تأتي مهمة المثقف – إن كان مثقفا – أن يستعيد تلك القيم وأن يُرشد شعبه إليها وأن ينفض عنها الغبار.. لكن الله ابتلانا بسلطة تتعيش على تهميش الفكر واستغباء الشعوب وإضعاف احترامهم لذواتهم ودفعهم لليأس من قدرتهم على التغيير والتحرج من الحديث عن ثقافتهم بحيث لا يبقى أمامهم سوى الاستسلام للاستبداد السياسي.. والاستبداد الفكري والثقافي بما يسهل تطويع الشعوب وتقييدها في سلسلة التبعية والتهميش..
إلى الحلقة القادمة..

