تصعيد إعلامي وسياسي كبير تقوده الأجهزة المصرية ضد تركيا، معه يبدو أن حرباً ستقع بين البلدين الكبيرين على الأراضي الليبية قد يمتد إلى مناطق أخرى أو أهداف في البحر المتوسط، إثر إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تقديم الدعم العسكري والسياسي لحكومة الوفاق الليبية–المعترف بها دوليا وفق اتفاق الصخيرات- بعد طلب من حكومة ليبيا، ثم تصويت البرلمان التركي على القرار بالموافقة، تلاه إعلان أردوغان بدء إرسال وحدات عسكرية لليبيا.

غضب متصاعد

وعلى الرغم من توقيع الحكومة الليبية اتفاقات أمنية وسياسية سابقة مع فرنسا وإيطاليا فيما يخص الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب، وأيضا اتفاقا مع أمريكا التي تتواجد قواتها ضمن قوات “أفريكووم” التي تواجه تنظيم داعش على الأراضي الليبية.ثار غضب بعض الأطراف الدولية ومصر..فأعلنت بعض الأطراف الدولية عن استيائها من الخطوات التركية.

حيث أدان الاتحاد الأوروبي القرارات التركية، وهو أيضا ما دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى التحذير من أي “تدخل أجنبي” في ليبيا، وذلك على الرغم من أن  أردوغان أكد أن هدف تركيا ليس “القتال” بل “دعم الحكومة الشرعية وتجنّب مأساة إنسانية”.

في غضون ذلك، تعالت حملات التصعيد بجميع النوافذ الإعلامية المصرية، بجانب حملات السوشيال التي راهنت من خلالها لجان السيسي الإلكترونية على الحشد الوطني خلف الجيش، وتصوير الأمر على أنه حرب شاملة ستقدم عليها مصر، وأن من يتراجع عن الوقوف وراء الجيش فهو خائن، ما أثار توترا كبيرا في بعض الدوائر  السياسية والعسكرية والمدنية ودوائر صناعة القرار، وهو على ما يبدو أغضب المؤسسة العسكرية، بصورة أكبر.

وعلى ما يبدو أنها انتقدت أداء الرئاسة في الملف الليبي، وهو ما دفع السيسي نحو إعادة الفريق محمود حجازي، رئيس أركان الجيش الذي أقاله عقب مذبحة الواحات 2017، ليكون مسئولا عن الملف الليبي، بل صعدت الدوائر العسكرية الغاضبة من أداء دائرة السيسي الإعلامية بعض الوجوه التي تبدو عاقلة وتتحدث برشد عن خطورة التصعيد العسكري، مثل السياسي المعروف من قربه من الدوائر الاستخبارية سمير غطاس، ليؤكد عبر برامج تلفزيونية أن المواجهة العسكرية غير واردة، وأنه لا حل إلا الحل السياسي بليبيا.

وعلى عكس التراجع السياسي، استمر التصعيد العسكري، فأجرت مصر تدريبات عسكرية كبيرة، ضمن عملية برمائية كاملة بإحدى مناطق البحر المتوسط،  وسبق ذلك اجتماع للسيسي مع قيادات أفرع القوات المسلحة المصرية.

تطور آخر، وعلى عكس التقارب المصري اليوناني القبرصي ضد تركيا، يسود استياء مصري صامت من إقدام دول إسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا على توقيع اتفاق تمديد خط أنابيب لنقل الغاز اصهيوني إلى أوروبا، يمر بعيدا عن مصر، ما يحرمها من أية عوائد مالية، وهو ما قد يفسر تراجع التصعيد المصري الذي كان متسارعا قبل أيام، نكاية في اليونان، وقبرص، التي منحتها مصر مساحات كبيرة من المياه الإقليمية والاقتصادية المصرية، في اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وهو ما تراه أوساط سيادية انتقاصا من حدود مصر، حيث بدت أصوات بوزارة الخارجية المصرية، وخاصة في الدوائر القانونية بالخارجية، تؤكد أن اتفاق ترسيم الحدود التركية الليبية في صالح مصر، كونه يمنح مصر نحو 41 ألف كلم، في حال تطبيق المنهج التركي في ترسيم الحدود مع اليونان، الذي ما زال معلقا، بسبب رفض وزارة الخارجية المصرية والاستخبارات العامة  إقرار مذكرة التفاهم التي عرضتها اليونان على القاهرة.

وعلى الرغم من الغضب المصري من اليونان وقبرص، جاءت القمة الرباعية لوزراء خارجية فرنسا واليونان وقبرص ومصر بالقاهرة، الأربعاء 8 يناير، والتي انتهت بانتقادات دبلوماسية لتركيا، وتحركاتها بمنطقة شرق المتوسط، إلا أنها فتحت الباب أمام تركيا، بالتأكيد على أن الحل السياسي في ليبيا هو الحل الأمثل، مع الاتفاق على عقد  اجتماع قادم في مدينة كريت اليونانية، مشددين علي ضرورة احترام الحقوق الخاصة بالدخول في منطقة شرق المتوسط  وتطبيق قانون المنطقة البحرية، مع كامل الإدانة لاستمرار تركيا لممارساتها في المنطقة الاقتصادية في قبرص ومياهها الإقليمية، منددين بقرار إرسال قوات إلى ليبيا، مؤكدين إنها تنذر بحالة خطيرة من اختراق قرار الأمم المتحدة رقم 2259، وسيمثل تهديدا لاستقرار المنطقة وأمنها، مشيرين إلى دعمهم للحوار الذي دعا له مؤتمر برلين.

 أسباب الخلافات التركية المصرية

وفق الدوائر السياسية، فالجانب المصري ينظر إلى المسألة الليبية باعتبارها قضية أمن قومي، فالحدود مع ليبيا تمتد بطول أكثر من 1200 كيلومتر وليست مأهولة بالسكان ويسهل اختراقها “والتصعيد والزج بميليشيات جهادية إلى ليبيا يعني أن هذه الميليشيات في مرحلة ما إذا سيطرت على مدن شرق ليبيا فإنها قد تقوم بعمليات خاطفة داخل العمق المصري ومن ثم تتعرض مصر لمخاطر، فضلاً عن ما تتكبده مصر من تكلفة بسبب تأمين الحدود وكلها أمور تسبب ضغطاً شديداً على الأمن القومي المصري.

وبجانب ذلك، فإن لمصر والإمارات والسعودية أهداف أخرى، تتمحور حول كبح أية نجاحات للربيع العربي، وتمكين العسكر من إفشال المد الديمقراطي في المنطقة، عبر أموال إماراتية وقوات مصرية ودعم سعودي، وهو ما فشل إلى حد ما في تونس، ويحاول امتصاص الثورة السودانية، عبر فترات انتقالية يستوعب خلالها الغضب الشعبي، لضمان إعادة إنتاج الأنظمة العسكرية بوجوه مختلفة، لا تبتعد كثيرا عن المشروع الإماراتي السعودي المصري في المنطقة.

وأيضا، يرى محللون أن أحد الأهداف الأساسية لتحركات تركيا في منطقة المتوسط هو أن تضمن لنفسها حصة في مخزون الغاز الهائل هناك، وهو ما يتصادم مع المصالح اليونانية القبرصية في المنطقة، وهما دولتان تتحالفان مع مصر ضد تركيا.

ويبدو واضحاً أن الهدف الرئيس لتركيا من الاتفاقية البحرية التي وقعتها مع حكومة الوفاق الليبية هو عدم سقوط طرابلس في يد خليفة حفتر لضمان عدم دخوله في أية مفاوضات وله يد عليا على الأرض، إلى جانب تثبيت شرعية حكومة السراج، ما يعني استمرار اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي يجعل من التفاوض مع تركيا بشأن الغاز في المتوسط أمراً لا مفر منه.

وكان الرئيس التركي قد صرح بأن “اليونان ومصر وإسرائيل وقبرص لن تتمكن من اتخاذ أي خطوة دون موافقتنا، بعد توقيعنا على مذكرة التفاهم مع ليبيا”، بحسب ما قال خلال حوار مع قناة “تي آر تي” التركية.

ويقول فارس أوغلو الكاتب والمحلل السياسي التركي إن أنقرة تريد بشكل أساسي أن توصل رسالة وهي: إما أن تكون من ضمن المخططات الاقتصادية وإلا ستقلب اللعبة.

ويوضح فارس أوغلو: “هذا تحديداً ما تقوم به تركيا عبر مذكرة التفاهم بينها وبين ليبيا والتي سجلت في الأمم المتحدة، علماً بأن تركيا لم توقع على ما يسمى باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لاختلافات جغرافية لا تناسب تركيا مطلقاً وستكون الآن إما مفاوضات أو وقف لتلك المشاريع التي استبعدت منها تركيا وإما تصعيد الأمور عسكرياً..

مصالح تركية كبيرة في ليبيا:

ومن ضمن أسباب التصعيد المستقبلي على الصعد المختلفة، محورية ليبيا بالنسبة لتركيا.

فبحسب دراسة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تركّزت اهتمامات تركيا في ليبيا، قبيل اندلاع ثورة فبراير 2011، على تعزيز مصالحها الاقتصادية؛ إذ فازت تركيا بنصيبٍ كبير من عقود البناء عام 2010، وضخّ المستثمرون الأتراك مليارات الدولارات في قطاع البناء، وشاركت شركات الأعمال التركية في نحو 304 عقود تجارية في البلاد. ونظرًا إلى مصالحها الاقتصادية الكبيرة في ليبيا، عارضت تركيا أول الأمر التدخّل العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ضدّ نظام العقيد معمر القذافي، لكنها ما لبثت أن غيّرت موقفها وساندت الثورة الليبية، ثم مرّت سياستها بعد ذلك بعدة مراحل، وهي:

الأولى: استمرت حتى عام 2014، وحاولت خلالها تركيا استعادة علاقتها الاقتصادية مع ليبيا من بوابة دعم الاستقرار، وإنشاء حكومةٍ مركزيةٍ تُنهي الفوضى. فقد أدّت الفوضى التي أعقبت سقوط نظام القذافي، وانزلاق البلاد نحو حربٍ أهلية، إلى إلحاق ضرر بالغ بالمصالح التركية؛ فلتركيا ما يقرب من 15 مليار دولار من الالتزامات التعاقدية غير المدفوعة في ليبيا. ولكنّ انفراط عقد الدولة، وتفاقم الظاهرة المليشياوية والفصائلية، وتنامي التدخلات الخارجية في ليبيا، خصوصًا بعد نجاح الانقلاب العسكري في مصر في عام 2013، وتحوّل ليبيا إلى ساحة صراع إقليمي، تجلّت بإطلاق اللواء المتقاعد خليفة حفتر عملية عسكرية، انطلاقًا من شرق ليبيا، للسيطرة على البلاد، مطلع عام 2014، دفع ذلك كله تركيا إلى دعم الفصائل العسكرية المعارضة له. واستضافت تركيا على أراضيها مؤسسات إعلامية وشخصيات سياسية معارضة لمشروع حفتر.

الثانية: دعمت تركيا الاتفاق السياسي الليبي الذي وُقِّع في مدينة الصخيرات المغربية، برعاية أممية، في ديسمبر 2015، وجاء بحكومة الوفاق الوطني.

ولكنّ الدول الحليفة لحفتر كثّفت دعمها له ضدّ حكومة الوفاق، إلى مستوى إعلان الحرب لاحتلال طرابلس.

ومن ناحية أخرى، لم تتمكّن حكومة الوفاق من إنهاء الظاهرة الفصائلية، ما دفع دولا غربية إضافية إلى الرهان على حفتر، لتحقيق بناء جيش ودولة في ليبيا، فتنامى الدور العسكري التركي الداعم لهذه الحكومة، باعتبارها الحكومة الشرعية المُعترف بها دوليًا، خصوصًا بعد الهجوم الذي شنّه حفتر على العاصمة في  أبريل 2019. وأبلغ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رئيس حكومة الوفاق، فايز السرّاج، باستعداد أنقرة لتقديم جميع أنواع المساعدة له، لإحباط ما سمّاها “المؤامرة على الشعب الليبي “.بناءً عليه، بدأ الدعم العسكري التركي يأخذ طابعًا علنيًا، بعد أن كان محدودًا في بداية المعارك، حيث أُرسلت عرباتٍ عسكريةٍ إلى حكومة الوفاق الوطني. وفي 19 يونيو الماضي، أعلن أردوغان أنّ بلاده توفّر أسلحة لحكومة الوفاق بموجب “اتفاق تعاون عسكري”، ولم يحدّد آنذاك طبيعة هذا الاتفاق والتعاون. وأضاف: إنّ دعم أنقرة العسكري سمح لطرابلس بـ “استعادة التوازن” في ليبيا، في مواجهة قوات حفتر المدعومة من الإمارات ومصر. وقد نقل هذا الأمر تركيا إلى مرحلة المواجهة المباشرة مع حفتر وحلفائه في المنطقة، حيث وصف الناطق باسم قوات حفتر، اللواء أحمد المسماري، الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق بـ “الغزو التركي”. وشدّد على ضرورة التصدّي لتركيا، من خلال استهداف القوارب والسفن التركية داخل المياه الإقليمية، وكذلك التصدّي للقوات البرية. في المقابل، هدّد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، قوات حفتر في حال قيامها بأي عمل عدائي أو هجوم على المصالح التركية.

الثالثة: وقّعت الحكومة التركية وحكومة الوفاق الوطني، في 27 نوفمبر 2019، مذكّرة تفاهم بشأن السيادة على المناطق البحرية في البحر المتوسط، حيث تشهد منطقة شرق المتوسط خلافاتٍ بين دولها بشأن ترسيم الحدود البحرية، بعد أن أثبتت المسوحات الجيولوجية وجود مخزون هائل من النفط والغاز القابل للاستخراج فنيًا، ما بيّن أنّ هدف تركيا من المذكّرة يتجاوز الأوضاع في ليبيا إلى مسألة الوجود في المتوسط.

كما وقعت تركيا وليبيا مذكّرة للتعاون الأمني، شملت التدريب العسكري، ومكافحة الإرهاب، والهجرة غير النظامية، واللوجستيات، والخرائط، والتخطيط العسكري، ونقل الخبرات. وما أن تقدّمت حكومة الوفاق بطلب رسمي للحصول على دعم عسكري تركي جوي وبحري وبرّي، جاء الرد التركي سريعًا عندما أكّد الرئيس أردوغان أنّ بلاده سترسل قوات إلى ليبيا، بناءً على طلب منها، بعد موافقة البرلمان التركي.

حدود الدور المصري

وفي الوقت الذي يسارع فيه أردوغان الزمن، لإرسال قوات نوعية متعددة لدعم الحكومة الشرعية بليبيا، سياسيا ولوجستيا واقتصاديا، تتبلور أمام القاهرة ثلاثة خيارات تعتمد على مدى تطور الأوضاع في ليبيا، وهي:

-البحث عن دعم سياسي دولي يوقف التدخل التركي.

-دعم حفتر بشكل أكبر، عسكريا وعبر مزيد من الخبراء والعتاد العسكري.

-التدخل العسكري المباشر وهو موجود بالفعل على الأرض، عبر قوات سرية وخبراء يعملون مع جيش حفتر، ومنهم قوات مخابرات وأخرى من فرق المشاة والمدفعية، بجانب طائرات تنطلق من قاعدة براني العسكرية بغرب مصر.

إلا أن التدخل العسكري الشامل مصريا، يبقى خيارا غير مستبعد، وغير محبذ أيضا على صعيد المؤسسات المتمسكة ببعض أهداب الرشد السياسي في مصر.

فعلى الرغم من أن الكثير من التحليلات الاستراتيجية التي ذهبت إليها الكثير من الدوائر السياسية بأن التصعيد السيساوي نحو إعلان حرب، هو مجرد وسيلة للشحن الشعبي بعيدا عن مشكلات الداخل المصري قبل الذكرى التاسعة لثورة 25 يناير، إلا أن الدائرة العسكرية تعيش حالة من الغضب من محاولات السيسي الاتجار بالجيش المصري والزج به في فخ يراد به تدمير القوة العسكرية المصرية في ملفات ثانوية بالنسبة لها.

وفي هذا الإطار من التقديرات العسكرية المصرية،، جاءت عملية إعادة السيسي لرئيس أركان الجيش السابق الفريق محمود حجازي إلى الإشراف على الملف الليبي، إذ كان يترأس اللجنة المصرية المعنية بذلك الملف قبل أن تتم الإطاحة به في أعقاب مذبحة الواحات، نهاية عام 2017.

وتتصاعد  في الفترة الأخيرة، تجاذبات كبيرة داخل أروقة المؤسسات المصرية المعنية بالأمر في ليبيا، إذ يوجد تيار قوي داخل المؤسسة العسكرية يرفض أي تدخل عسكري مباشر في ليبيا، وعدم الزج بالقوات المسلحة في معركة ربما تكون فخاً لها.

فيما استمرت الحملة التي قادتها لجان إعلامية وإلكترونية، بالترويج لمواجهة عسكرية مصرية تركية على الأراضي الليبية، مما أغضب أطرافاً فاعلة داخل النظام المصري معنية بالملف الليبي، معتبرة أن الحديث عن المعارك الحربية باعتبارها نزهة سياسية، أو معركة سياسية داخلية على غرار الانتخابات البرلمانية، أمر غير مقبول من قبل بعض مساعدي السيسي الذين يديرون الملفات الإعلامية.

وأوضحت المصادر أن إعادة حجازي للإشراف على الملف، بما له من خبرة كبيرة، تسببت بارتياح كبير داخل المؤسسة العسكرية، إذ إنه كان منذ البداية ضد فكرة المشاركة العسكرية في الأزمة، والاحتفاظ بعلاقات مع كافة الأطراف، وبناء علاقات قوية مع كافة القبائل في الأراضي الليبية، لتكون مصر مظلة جامعة، بشكل يساعد في الحفاظ على المصالح المصرية في ليبيا التي كان يوجد فيها نحو مليون ونصف المليون عامل .

وأمام اتباع تركيا خطواتها بالتوافق مع القانون الدولي وفي النور، يبدو أن السيسي ونظامه سيعيد صياغة خطواته التصعيدية، ضد تركيا وحكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليا، حيث كشفت مصادر سياسية مصرية عن تفاصيل صيغة الحل السياسي الشامل التي أشارت إليها وزارة الخارجية المصرية في بيان لها خلال الأيام الماضية، وهي نفسها الصيغة التي أشار إليها السيسي أيضا في وقت سابق.

الصيغة تتضمن وقفاً فورياً لإطلاق النار، وتعيين حكومة انتقالية جديدة تشرف على وضع دستور دائم للبلاد وتهيئة ليبيا للاستحقاقات الانتخابية.

سيناريوهات التصعيد

وأمام تطورات الواقع المتسارعة، يبرز العديد من السيناريوهات، فيما يخص المستقبل القريب بين مصر وتركيا، ومنها:

أولا: احتكاكات لا تصل لحرب شاملة:

فبحسب، كانان أتيلغان مديرة البرنامج الإقليمي للحوار السياسي لدول جنوب المتوسط بمؤسسة كونراد أديناور الألمانية، فالعلاقات التركية-المصرية تعرضت لضغوط كبيرة منذ عام 2013 حيث كانت حكومة حزب العدالة والتنمية التركية مؤيداً قوياً للإخوان المسلمين بمصر كما لم يخف أردوغان أبدًا رفضه للنظام المصري الحالي ويواصل انتقاده بشدة، وهو ما يؤهل الأمور أن تحتدم بين مصر وتركيا، إلا أنها لن تصل إلى حد الحرب الشاملة، وربما ستحاول تركيا في البداية ضرب بعض المناطق المؤثرة لدى قوات حفتر، لردعه عن التوغل نحو طرابلس.

وهذا السيناريو يدعمه اتفاق الرئيس الروسي بوتين والرئيس التركي أردوغان بتركيا يوم الأربعاء 8 يناير، حيث أعلنا في بيان مشترك دعوتهما المشتركة لجميع الأطراف الليبية لوقف إطلاق النار بدءًا من منتصف ليلة 12 يناير الجاري..تمهيدا لاتفاق سياسي لحلحلة الأزمة الليبية.

وسبق أيضا في هذا الإطار أن أعلنت دوائر سياسية مصرية، تدخلت لفرملة تهور نظام السيسي نحو الانزلاق لحرب مع تركيا في ليبيا، بالتأكيد على أن الحل السياسي هو المنطلق الأساس لحلحلة الأزمة الليبية، والذي يشمل من وجهة النظر المصرية، الدعوة لتشكيل حكومة مؤقتة جديدة، وتمكينها من إجراء انتخابات نيابية ليبية عامة.

إلا أن تلك الدعوات يخشاها ليبيون كونها تنزع عن حكومة الوفاق الليبية شرعيتها، دون تقديم تعهدات او آليات للجم التحركات العسكرية لخليفة حفتر، المدعوم من فرنسا وروسيا والإمارات والسعودية ومصر، بجانب الدعم العسكري المعروف من خبراء عسكريين مصريين كلواء المخابرات المصري فؤاد نظمي، وطائرات إماراتية مسيرة تقصف الكلية العسكرية والمدنيين في سرت وجنوب طرابلس، وقوات مرتزقة روس من الفاغنر والجنجويد السودانيين.

ثانيا: تهدئة تدعمها أطراف دولية:

ومع إدراك الأطراف الإقليمية لخطورة التصعيد العسكري، فإنه من المتوقع أن الأطراف الدولية ستتدخل بسرعة لمنع تصاعد الأمور خصوصاً أمريكا وروسيا نظراً لمصالح كليهما الاستراتيجية في المنطقة.

وتبدو روسيا أكثر تأثيرا على الأرض في ليبيا، وأن إعلانها مع تركيا وقفا لإطلاق النار بين جميع الأطراف، بدءًا من ليل 12 يناير، تعد مدخلا لإطلاق تفاوضات تشاركية، متعددة الأطراف فيما يتعلق بليبيا وفي منطقة شرق المتوسط.

إذ أن التفاوض سيجعل الكل يخرج بمكاسب جيدة “فإسرائيل ستنتج الغاز من حقولها، ومصر ستسيل الغاز، واليونان ستستفيد من عبور خط الغاز إلى أوروبا من خلالها، وأيضا سيكون لتركيا نصيب في هذا السياق أي أن الجميع سيربح.

كما يرى المراقبون الدوليون أنه إذا تكوَّن تحالف دولي من الدول المنتجة للغاز في المتوسط ولم تشارك فيه تركيا فإنها لن تستفيد من هذا الاحتياطي الهائل للغاز. في الوقت نفسه ستفقد الكثير من حرية حركتها في البحر المتوسط وهي أيضا لا تريد ذلك، وهو ما يفسره ويدعمه رسالة الرئاسة التركية التي وجهها إلى الشعب المصري.

ففي رسالة “تطمينية”، استبعد ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي، أن تكون بلاده ستحارب مصر أو أي دولة أخرى بعد أن قررت إرسال قوات إلى ليبيا.

ونشر أقطاي سلسلة تغريدات بالعربية، يوم الأربعاء الماضي، تضمنت تطمينات لمصر دون أن تخلو من اتهامات ضمنية: “من قال إن تركيا تريد الحرب ضد مصر أو ضد أي دولة؟ تركيا تدافع عن الحكومة الشرعية في ليبيا بينما غيرها يدعم المتمردين والانقلابين. لا تصدقوا إعلامكم فهو يكذب عليكم”.

وتابع: “تركيا لن تخوض حربا ضد أي شعب مسلم فكيف يقولون إننا سنحارب شعب مصر. تواجدنا في ليبيا تلبية لطلب الحكومة الشرعية وليس لمواجهة أي جيوش أخرى عربية أو أجنبية. نسعى لوقف الحرب وغيرنا يسعى إلى إشعالها”.

وكانت مصر وجهت قبل أيام تحذيرا لتركيا من مغبة أي تدخل عسكري تركي في ليبيا وتداعياته، مؤكدة أن مثل هذا التدخل سيؤثر سلبا على استقرار منطقة البحر المتوسط، وأن تركيا ستتحمل مسؤولية ذلك كاملة.

كما أن طبيعة الوضع في شرق المتوسط، تشير إلى أن مصر بعيدة عن مناطق الاحتكاك البحري مع تركيا حتى أن الاتفاقية التركية الليبية تعطي مصر أكثر مما حصلت عليه من اتفاقيتها مع اليونان وقبرص.

ثالثا: تصعيد عسكري شامل:

وهو على ما يبدو خيارا أخيرا، في حال تصلب المواقف، ودخول السيسي في مغامرة كبيرة، قد لا تكون محسوبة المصير، وقد تدعمها إسرائيل، بل وتبدأها عبر احتكاكات مباشرة مع السفن التركية التي تستهدف التنقيب عن الغاز في مناطق شرق المتوسط، وقد تجر إليها مصر جرا.

وغالبا ما تكون حدوده بحرية في عرض البحر، أو عرقلة سفن تركيا المتجهة إلى ليبيا، وهو ما قد يضر بجميع الحسابات الدولية في المنطقة في ضوء الأجواء المتوترة في المنطقة، وهو ما لن تسمح به واشنطن على الأغلب في ضوء أزماتها المتصاعدة مع إيران وروسيا في العراق وسوريا.

معوقات التصعيد العسكري

دوليًا، تبقى المواقف والطموحات الغربية، أكبر ضامن لعدم التصعيد العسكري في ليبيا بصورة تدفع لحرب عسكرية بين الأطراف المناوئة على ليبيا، وخاصة مصر وتركيا.

فالموقف الأميركي على عدم وضوحه من الصراع الدائر في ليبيا، بسبب غياب إستراتيجية واضحةٍ للولايات المتحدة الأميركية في هذا الملف،إلا أنها تركز على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وضمان استمرار تدفق النفط إلى الأسواق العالمية. وقد صدر بيان عن البيت الأبيض، بعد اتصال هاتفي بين دونالد ترامب وعبد الفتاح السيسي، أكّد فيه رفض التدخلات الخارجية في ليبيا، وضرورة اتخاذ الأطراف الليبية خطواتٍ نحو حل النزاع.

أما الاتحاد الأوروبي، الذي تحفّظ على الاتفاقية الموقّعة بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني، وطالب بمزيد من الإيضاحات حولها، عارض التدخّل العسكري التركي، ولكنه لا يملك قدرةً فعليةً على التأثير في مسار الأزمة الليبية، نتيجة التنافس الفرنسي – الإيطالي الذي حدَّ من قدرة مؤسسات الاتحاد على انتهاج مقاربة أوروبية مشتركة تجاه ليبيا. وقد اقتصر دور مؤسسات الاتحاد على تقديم الدعم المالي والفني المحدود نسبيًا لحكومة الوفاق، والتعاطي مع الأزمة باعتبارها تشكّل تهديدًا أمنيًا من بوابة الهجرة غير النظامية. وقد دفعت المخاوف من انزلاق الأمور نحو صراعٍ أوسع قادةَ دول الاتحاد إلى إنشاء بعثة أوروبية، يرأسها وزير خارجية الاتحاد جوزيف بوريل، لزيارة ليبيا؛ تمهيدًا لمؤتمر برلين الذي عقد في 8 يناير 2020 حول ليبيا.

أما الموقف الروسي، والذي يتبلور من قلق  أعلنه مجلس الدوما إزاء مذكرة التفاهم الأمني والعسكري بين أنقرة وطرابلس. وقال رئيس لجنة الشؤون الدولية في المجلس، ليونيد سلوتسكي: إنّ إرسال تركيا قوات عسكرية إلى ليبيا “قد يعمّق أزمة ليبيا أكثر”. واعتبر أنّ قرار البرلمان التركي “مثير للقلق”، مؤكدًا أنّ روسيا تدفع نحو حل الأزمة الليبية عبر الطرق السياسية والدبلوماسية.

كما أن التفاهمات التركية والروسية في الملف السوري، ستمنع بلا شك الانزلاق للعنف المسلح بين مصر وتركيا، حيث زار بوتين أنقرة الأربعاء 8 يناير، ليعلنا وقفا لإطلاق النار في ليبيا ليل 12 يناير، معلنين عن مؤتمر دولي في يناير الجاري لإطلاق الحلول السياسية بليبيا.

ويبقى التصعيد المصري إعلاميا

وإزاء السيناريوهات الثلاث السابقة، وعدم ترجيح أيا منها، خلال الفترة التالية، فإنه سيبقى التصعيد المصري، إعلاميا أكثر منه عسكريا.

وفي الوقت الذي تتابع فيه مصر عن كثب محاولات تركيا لإرسال قوات إلى ليبيا، أنشأت غرفة عمليات لرصد أي تحركات تركية.

إلا أن التصعيد الإعلامي هو ما بدا ظاهرا وبقوة، وهو أمرٌ له مآرب أخرى، داخلية.

فليست هناك احتمالات حرب في ليبيا، بين أنقرة والقاهرة، بحسب الخبراء، لكن لدى بعض دوائر السيسي  الرغبة المحمومة في إثارة أكبر قدر ممكن من الغبار، وتكوين سحب كثيفة محمّلة بأبخرة الهستريا الوطنية، في هذا الوقت بالذات من السنة، كما هي العادة في كل يناير من كل عام.

فبحسب الكاتب وائل قنديل، بـ”العربي الجديد” “محاربون لكن ظرفاء”: “يدرك العالم كله، ويعلم السيسي أن الاتفاقية الموقعة بين تركيا وحكومة ليبيا الشرعية لا تستهدف مصر من قريب أو من بعيد، إذ تنصّ على إرسال أنقرة قوات غير قتالية كمستشارين ومدرّبين لقوات الحكومة المعترف بها في حربها ضد مليشيات الجنرال المنقلب، خليفة حفتر، في طرابلس، وهي اتفاقيةٌ لا يحقّ لأحد، بما في ذلك الأمم المتحدة الاعتراض عليها، بحسب المبعوث الأممي إلى ليبيا، غسّان سلامة، كونها من القرارات السيادية لكل دولة.

مضيفا: “يعلم هؤلاء بيقين تام أن الغزو التركي والأطماع العثمانية في الأراضي المصرية ليست سوى بالونات معبأة بأرخص أنواع الكذب وأردئها، تطيّرها أبواق عبد الفتاح السيسي في فضاء الهلوسة الوطنية المشتعل بالجنون هذه الأيام. لكنها الفرصة التي يجب ألا تفوت لابتزاز الجميع باسم الأمن القومي، وإرهاب الكل بفزّاعة خطر العدوان الخارجي على السيادة والريادة والتراب الوطني.. إلى آخر هذا الكلام الفارغ من أي معنى حقيقي أو قيمة محترمة، في ظل وباء الوطنية الرخيصة المنتشر هذه الأيام. ..”.

قراءة مستقبلية

قد يسهم القرار التركي في الدعم العسكري لحكومة الوفاق الوطني، وهي الحكومة الشرعية في البلاد، في توحيد الجهد الحربي للمكونات العسكرية التي تقاتل إلى جانبها لصدّ هجوم حفتر على العاصمة، والانتقال إلى مهمة حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة الغربية من ليبيا، هذا إذا أدرك الأتراك أنّ حكومة الوفاق لن تكون مقنعةً دوليًا ما لم تنجح في إقامة جيش وطني، وتتجاوز الحالة الفصائلية التي لا تستطيع الدول الأوروبية والدول العربية الجارة التعامل معها بوصفها دولة. وقد يدفع التدخل العسكري التركي، إذا يئس حفتر وحلفاؤه من السيطرة على العاصمة، إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، والاتفاق على حل سياسي للأزمة. ولكن تبقى هناك محاذير من أن تؤدي التدخلات الخارجية، على اختلافها، إلى إطالة أمد الصراع، وتحوّله إلى حرب وكالةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ تهدّد مستقبل الدولة ووحدتها الجغرافية.

فيما التصعيد المصري التركي، مرتبطا بقوة الحراك السياسي الدولي، المحكوم بأهداف وأطماع دولية في النفط الليبي، والذي قد يوحد الأطراف الدولية لإنهاء الصراعات الليبية، أما إذا استمرت الخلافات حول تقسيم الكعكة الليبية فإن خيار التصعيدات العسكرية ستبقى قائمة، وفرص الصدام قد يتزايد مستقبلا..ولكن على المدى البعيد.

إعادة سيناريو سورية

ومن جهة ثانية، وأمام التطورات الدولية حول ليبيا، يبرز سيناريو مخيف، باستنساخ النموذج السوري في ليبيا.

إذ يبدو الأمر في ظاهره وكأن صراعًا مصريًا تركيًا يوشك أن يندلع على الأرض الليبية، وخصوصًا بعد تصديق البرلمان التركي على طلب إرسال قوات تركية إلى ليبيا، لمواجهة ميليشيات خليفة حفتر، المدعومة بالسلاح والسياسة والمال من محور مصري إماراتي سعودي، يتولى مهمة قتل مشروع الربيع العربي وإشعال النار في احتمالات نجاحه في أي نقطة على الخارطة العربية.

على أن مؤشرات تصاعد المواجهة في الساحة الليبية تقود إلى معطيات المعادلة السورية مرة أخرى، إذ تحضر روسيا مشحونة بدوافع الثأر لكرامتها التي أهينت في الجولة الأولى من الثورة الليبية حين وجدت نفسها خارج الملعب، لا مكان لها على مائدة اللعب بجوار الأميركيين والأوروبيين وهو الجرح الذي حاولت تضميده من خلال الاستيلاء على دور البطولة في مسرح الأزمة السورية.

لم تُخف تركيا أنها تجد نفسها مدفوعة للقفز في أتون اللعبة الليبية دفاعًا عن مصالحها الاستراتيجية في مياه البحر المتوسط، بمواجهة مشروعٍ آخر تتحالف فيه مصر مع الكيان الصهيوني واليونان وقبرص، وإن كانت تضع مشروع تدخلها في ليبيا في إطار استراتيجية، التصدي لمشروع الانقلابات والثورات المضادة، وعدم السماح بتكرار المأساة في مصر، على يد جنرال صديق وشريك للجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي انتزع السلطة بانقلاب دموي في مصر.

إلا أن المقاربة المصرية للصراع الليبي تبدو باعثة على السخرية والرثاء معًا بالنظر إلى اللغة الدبلوماسية العرجاء الصادرة من القاهرة، والتي تكفي وحدها دليلًا على حالة التصاغر التي بلغتها مصر، إذ تبدو وكأنها تعترض على تدخل الحكومة الليبية نفسها في الشأن الليبي، وهي تستعرض التدخلات الإقليمية والدولية، مع أن القاصي والداني يعلم أن مصر غارقة عسكريًا وسياسيًا، ومعها الإمارات في مغامرة الانقلابي خليفة حفتر منذ سنوات.

وأيضا في الموضوع الليبي هناك أوروبا بكامل استنفارها وجهوزيتها، كما تحضر الصين معززة بفوائض القوة الفوارة التي تبحث عن مجال حيوي للاختبار وحجز الأماكن في حوض المتوسط.

ووسط هذا الزحام وفي قلب هذا الغبار الكثيف، ستتشظى ليبيا وتبقى مقطعة الأوصال بين الأجندات الدولية.

وتبقى الحرب التي أشعلها خليفة حفتر وحلفاؤه جعلت التدخل الدولي أشبه باحتلالٍ متعدّد الجنسيات، تراوح بين طيف واسع من القوى الدولية والجيوش الرسمية ومجموعات المرتزقة من الروس والجنجويد السودانيين ومقاتلين تشاديين، جلبهم حفتر لتحقيق نصر وهمي.

ومن ثم فإن ما يجري في ليبيا، لن ينتهي قريبا، وستستمر الأوضاع مشتعلة على طريقة الحرب الباردة، بين أطراف الصراع الدولي والإقليمي.دون أن تتطور لحرب شاملة.

رابط المصدر