عامر شماخ

من لم يعرف "أحمد عز الدين" لم يعرف معانى الأمل والصبر، والبساطة مع الوقار. جزعت لما علمت بوفاته من أحد الزملاء فلم أصدق، فاتصلت بإحدى بناته فأكدت الخبر الحزين. وكنت قد اتصلت به منذ أسبوع، فجاء صوته هذه المرة متقطعًا واهنًا من أثر جلسة كيماوى ضمن "بروتوكول" خامس أو سادس من علاج المرض اللعين الذى أرهق جسده، الواهن من الأساس من آثار هموم الأمة التى أثقلت كاهله، ومن صوم متتابع ألزم به نفسه، ومن داء فى القلب هاجمه فى سنيه الأخيرة.

الآن أستعيد ذكرياتى مع ذلك الرجل الأنيق فى هيئته، النظيف فى ملبسه، نقى الفؤاد، الذى لم يتغير فيه شىء منذ أن تعرفت إليه قبل أكثر من ثلاثة وثلاثين عامًا، رغم تقلبه فى السفرات الخارجية والمناصب المهنية والمواقع الدعوية. رأيته لأول مرة فى صيف عام 1987 عندما تخطيت بوابة عم "شحاته هدهد" إلى الحجرة التى تليه مباشرة، وكنت على موعد مع أستاذنا "جابر رزق" -رحمهما الله- الذى كان يجلس معه فى تلك الحجرة ثلاثة شبان، هم فريق تحرير "لواء الإسلام" -التى صرت سكرتير تحريرها منذ هذا اليوم-: أحمد عز الدين، بدر محمد بدر، صلاح عبد المقصود. أما الأخيران فقد رحبا بى كثيرًا، فلم أنسها لهما. وأما "عز الدين"–لطبيعته التى سنتحدث عنها- فاكتفى بالسلام وراح يكتب بيده اليسرى التى اشتُهر بها فى أوراق كانت أمامه..

ودارت الأيام دورتها لأصير وهذا الرجل العفيف صديقين مقربين، وجارين بل شريكين وأشهد الله أنى وجدت به من صفات الخُلق ما عدمته فى غيره ممن قابلت وصاحبت على كثرتهم ولمعان أسمائهم. كان –رحمه الله- صادقًا مخلصًا، زاهدًا غير متطلع، أبعد الناس عن الغيبة والنميمة وتجريح الآخرين، لم يكن نفعيًّا ولا وصوليًّا ولا متزلفًا، ولا متكسبًا من دعوة ولا مستفيدًا من منصب، بل كان ينفق وقته وجهده وماله وأعصابه ولو فى العمل اليسير. ولو رأيته وهو يصلى لأعجبك منه سمت صلاته واطمئنانها والخشوع فيها حتى ضُرب به المثل فى حسن أداء الفرض والنافلة –رحمه الله.

كان البعض –ممن لم يعرفوه- يرون فيه حدة، وهى لم تكن كذلك بالمرة، بل معرفتى به أنه أرق الناس وأحنهم وأغزرهم عاطفة، ولهذه العاطفة مفاتيح كما لهذه الحدة أسباب، فهى حزم المؤمن الآسى على أحوال المسلمين، وهى المثالية التى حملته على الجدية والإتقان وأخذ نفسه بالعزيمة والمضاء، وهو الورع الذى جعله حساسًا لأى خطأ أو تقصير، وأى هذر فى غير موضعه، وأى تبذير فيما لا يفيد. وإن كان ثمة حدة كما يرى البعض فإنها لم تخرجه عن أدبه ووقاره، وعن أسلوبه الدمث وعفة لسانه، وعن حواراته الراقية وألفاظه المنتقاة وثقافته الواسعة. لقد كان يقبع خلف هذا الشخص الجاد الشديد شخصٌ آخر ذو قلب ناصع البياض وابتسامة رائعة تنير أرجاء وجهه –رحمه الله.

فى مطلع عام 1994 اقترح علىَّ إنشاء مكتب للتجهيزات الصحفية، وكان هذا ضرورة وقتها، بعد التوسع فى الإصدارات النقابية والحزبية واحتكار البعض من التيارات الأخرى لهذا النوع من الحرفة، ولما لم تأتنى الفكرة من قبل رغم كونى مخرجًا وأدير عددًا من هذه الإصدارات، ولست متحمسًا لها، بل ليس لدى تصورات حولها فقد رفضتها، غير أنه أقنعنى فى الجلسة ذاتها بحتميتها، بل وجدته قد أعد تصورًا مخطوطًا كتب فيه اسمى مديرًا لهذه الشركة التى انتفعنا بها وخرَّجت فيما بعد عديدًا من الكوادر المحترفة.

هكذا كان أحمد عز الدين؛ نشيطًا ذا دأب وحركة، منظمًا فى شئونه كلها، عصريًّا مثقفًا، واسع الاطلاع، سباقًا إلى الأخذ بالمستجدات، ساعدته فى ذلك ذاكرة حافظة وانفتاح على الآخرين وإجادة تامة للغة الأجنبية، وتقدير للعلم فكل شىء عنده خاضع للنظام بعيد عن العشوائية والحظ.

سألته يومًا -وقد سمعته يقول إنه التحق بركب الدعوة مبكرًا ونهل من كبارها وهو لا زال فى المرحلة الثانوية-: كيف تعرفت عليهم إذًا؟ قال: كان ذلك بعدما قُتل قريبى "فاروق المنشاوى" فى سجن طرة فى مايو عام 1970، وكان المجرمون قد سلطوا عليه أحد الجنائيين؛ لفرط نشاطه الدعوى داخل الليمان، فطعنه بسكين فى رقبته فاستشهد من فوره، وقد حبسوا القاتل دون طعام أو شراب حتى مات ومات معه سرُّ من أمره بالقتل. وقد ظل "أحمد" وفيًا لتلك الدعوة حتى وفاته، رغم ما ناله من سجن وعنت. زرته فى بيته فور خروجه فى المرة الأخيرة بعد عام من الاعتقال، وكانوا قد اتهموه زورًا بحرق "بوكس" فى شارع الهرم وهو من أشرف على الستين من عمره، فوجدته هو نفسه؛ أحمد عز الدين: الصابر المحتسب، الثابت الصامد، الهادئ الوقور، الهازئ بأفعال العبيد –رحمه الله.

مات "أحمد" كما عاش، بلا ضجيج مؤثرًا البعد عن الظهور، على طريقة أستاذه "عبد المنعم سليم جبارة"، وقد عاش شجاعًا فى الحق، لا يضره مَنْ ذم ولا يسره مَنْ مدح، كبير العقل، لا يلتفت إلى الصغائر ولا يغيره شنآن أحد عن العدل والإنصاف، ولا تغره شهرة ولا صيت، أسرع الناس فى أداء الواجبات الاجتماعية وجبر خواطر الصغار. ذهبت إلى عزاء والدة أحد الزملاء منذ نحو عام -وكان المرض قد اشتد عليه فصار يمشى بصعوبة بالغة منحنى الظهر- فوجدته قد سبقنى إلى العزاء، فعاتبته فى حضور الزميل إذ كيف يقطع هذه المسافة من الهرم إلى أقصى جنوب القاهرة وحده وهو على هذه الصورة من المعاناة، فأسكتنى قائلًا: ما دمت أستطيع السير فلن أقعد عن مشاركة الأحباب مناسباتهم.

اللهم ألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.. آمين.