تساؤلات كثيرة يطرحها الباحثون حول الطريق إلى العودة بالأمة إلى مسارها الصحيح، حيث ريادة العالم عبر قيم العدل والحرية والمسئولية والمساواة الإنسانية الحقيقية، ونبذ العنصرية ورد الأفضلية إلى العلاقة بالله، وحيث أنفع الناس للناس، فيقف النبي محذرًا من بقايا العنصرية العفنة وينسبها إلى الجاهلية فيقول لأصحابه الذين تنازعوا للعرق والقبيلة: "دعوها فإنها منتنة".

ذلك الجيل الرباني الذي تلقى تعاليم دينه في دار الأرقم لمدة ثلاث سنوات لم يتنزل فيها حكم تشريعي واحد، أي أنه لم تعقد اجتماعات دار الأرقم لمجرد أداء طقوس وعبادات جسدية، وإنما ظل المسلمون الأوائل لمدة ثلاث سنوات يلتقون سرًا ليتفكروا، فقط يتفكروا في وحدانية الله والجنة والنار ومصائر الأمم الغابرة (بمعنًى آخر، انتزاع هيبة كل ما دون الله من قلوبهم، وتطهيرها بعقيدة التوحيد الخالص، فلم يعد يؤمن أحدهم إلا بقدرة الخالق المطلقة، فلا ضار، ولا نافع، ولا رازق إلا الله الواحد الأحد، ولا مستحق للعبادة إلا الله، ولا شيء يستحق سوى رضاه وحده دون غيره).

ولذلك حين أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة، فلم يعز في قلوبهم شيء على الهروب بدينهم؛ فالوطن هو الأرض التي يتعبدون فيها لله، والأهل هم الأخوة في الله، والذكريات هي دار الأرقم وما تعلموه فيها من سير وعبر وقيم وأخلاق وعقيدة وآداب، والمستقبل حيث يكون الدين، هكذا نشأ الجيل الأول في فجر الرسالة، وهكذا استطاعوا أن يعبروا الصحراء ليقيموا الممالك والبنيان، ويملؤوا الدنيا عدلًا ورحمة.

ثم تدور الدائرة، وتتقلب الأمة قوة وضعفًا، ثم تتهاوى بين الأمم وتخبو حضارتها وتصير مضحكة العالم بعد عزة، وضعفًا بعد قوة، وتبعية بعد ريادة، وتنقسم الحركة الإسلامية على نفسها، وتتحارب الأمة فيما بينها، بينما العالم في أشد ما يكون إليها، فكيف السبيل إلى إعادتها لجادة الطريق مرة أخرى، كيف والعداء العالمي يصب عليها نير حقده من كل اتجاه والأحرار مغيبون؟

هل السبيل هو دار الأرقم وإعادة الناس لحلقات التأهيل السرية في بيوت تعيد أمجاد الماضي وتحيي في قلوبهم معتقداتهم وشريعتهم؟ ألا يوجد سبيل آخر؟ هل يجب علينا انتظار ثلاثة عشر سنة أخرى نربي فيها جيلاً جديدًا يتحمل تبعات المهمة ويعبر بها شاطئ الأمان؟ وهل تحتمل الأمة تلك السنوات كي تستيقظ، أم أنه ما عادت هناك فرصة أخرى والزمن قد فات وسقطت الأمة بغير رجعة؟

إحياء العقيدة؟ أم غرسها؟

تلخصت مهمة دار الأرقم في الثلاث سنوات الأولى حول تبديل عقيدة الفوضى وعبودية غير الله بعقيدة التوحيد حتى خرج هذا الجيل الذي نعرفه من الصحابة، وواجبنا الآن البحث عن جواب لسؤال مبدئي: "ما الذي تحتاجه الأمة اليوم كي يخرج منها هذا الجيل الذي يصنع المستحيل وتولد على يده حضارتها من جديد؟ ثم هل تحتاج الأمة لإحياء العقيدة الكامنة بداخلها، أم تحتاج لغرس عقائدي جديد؛ يصحح مسارها ويحرك جمودها ويجدد ما شوهته الأحداث ويوجه حسب المسار الصحيح؟

إن كافة المحن التي تمر بنا اليوم لا تنم عن تخلي الأمة عن عقيدتها بحال من الأحوال ففيها ورغم الظلمات يهرع الناس إلى الدعاء والابتهال لله أن يرفع عنهم الغمة والكرب وإنما تنم عن حالة غياب وتيه، قشرة رقيقة من العفن العالق بها جراء تعلقها بالحضارة الغربية يكاد أن ينزوي إن هي وجدت القيادة القوية الحكيمة والموجهة ليلتف حولها فتخلع عنها قناع الوهن والمذلة والتبعية.

وإحياء العقيدة الإسلامية داخل الوجدان الجمعي للأمة قادر على إحيائها من جديد، وبث روح المجد بإحياء كل ما يتعلق بتلك العقيدة من عدم قبول الرضوخ والانزواء والاستسلام والضعف والمذلة والتبعية والمهانة، تلك العقيدة التي سلمت من التحريف حين تعهدها الله -عز وجل- بحفظه من دون البشر متمثلة في كتاب الله المقروء "القرآن المجيد"، والأمة الاسلامية لم تتخل يومًا عن عقيدتها -كما قد يحسب البعض ويروج؛ بحثًا عن سبب للخلل الذي تحياه أمة "اقرأ"- فالملايين، بل ومئات الملايين ما زالوا يؤدون الصلاة على وقتها، والأذان يرفع على مدار الساعة في بلاد المسلمين، والصيام فريضة لا تعطل، ما زال الحلال حلالاً والحرام حرامًا في نفوس الناس، ولو ضلت طائفة ممن يفسدون على الناس دينهم، ما زال الناس يوحدون الله في يومهم عشرات المرات، ويصلون على نبيهم في اليوم كذلك عشرات المرات.

المسلمون اليوم لا تنقصهم عقيدة، وإنما ينقصهم تفعيل تلك العقيدة المعطلة داخل نفوسهم ، فإن عقيدة التوحيد الباقية إلى يوم القيامة لم تمت في نفوس الخلق، وإنما مات العمل بها، فالملايين تذهب للصلاة، لكن لم تمنعها صلاتها عن الفحشاء والمنكر والبغي، الملايين توحد ربها، ولم يمنعها توحيد الربوبية من أن توجه طاقة الخوف لديها للرب وحده فشاركت معه الحاكم الظالم والمسؤول الباغي، الملايين تتوجه بقلوبها إلى الله الواحد الأحد، لكن لم يمنعها توحيد إلهها من عبودية الذات والرغبات والملذات فصار التوحيد كالآلة التي لا تعمل حين لا توصل لها التيار الكهربائي، فالآلة غير معطلة، والكهرباء موجودة، غير أن مفتاح التشغيل لم يضغطه أحد.

يقول مالك بن نبي: "ليست المشكلة أن نعلِّم المسلم عقيدة هو يملكها وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها، وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي".

والناظر لتاريخ الأمة -منذ قرنها الخيري الأول مرورًا بالثاني والثالث وحتى فترات الصراع التي أضعفت الأمة- يجد أن تلك الحضارة المنجزة ما هي إلا ناتج من نواتج تفعيل العقيدة المتينة التي بنت النفوس قبل الأشياء، وبنت الصف الاسلامي المترابط قبل المدارس والمصانع.

وكي تستمر الأمة أو لكي تصحح مسارها فمن الواجب على القائمين على ذلك أن يتعهدوا تلك النفوس بالتربية والإصلاح والإيقاظ كي لا يموت أثر العقيدة في نفس الفرد الذي هو أساس أية حضارة أو أي بناء مجتمعي.

إن المهمة المنوطة بالمسلم ليست سهلة، إنها مهمة ثقيلة قال عنها الله -تبارك وتعالى- لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5].

والقول الثقيل هو مهمة حمل كتاب الله والتحرك به والدعوة إليه والتبليغ بما فيه والشهود على الآخر بمقتضاه، وهو جوهر رسالة السماء إلى الأرض تقوم به الأمة المؤهلة والمختارة من الله رب العالمين، المختارة بحسن تطبيقها المنهج المرسل منه سبحانه، فالخيرية ليست بوساطة أرضية وإنما بقدر الأخذ من الرسالة والعمل بها، ولعظم المهمة فقد تعهد الله بإعداد تلك الأمة المختارة وتوجيهها وتأهيلها لتحمل الأمانة فيقول سبحانه قبل التنبيه لثقل المهمة: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6].

والعقيدة البنّاءة هي تلك العقيدة المنزلة من السماء بدون زيادة أو نقصان، بدون تصرف من هوى أو إملاء أو سوء فهم ، العقيدة التي تتعدى القول إلى الفعل، والسكون إلى الحركة، كمن ينتقل بالصوم إلى التقوى وبالصلاة إلى العمل الصالح وبالمسؤولية إلى الشهادة الحق، تلك العقيدة التي تفهم حقيقة الدفع الحضاري وأن الخيرية بالعمل لا بالموقع، وبتعهد النفس بالإصلاح قبل النصح للغير، وأن استقامة القلب لا تغني عن استقامة الجوارح.

الطريق إلى عودة المسلمين

فالجواب إذن أن المسلمين يحتاجون لقيادة تحرك الماء الراكد، والقيادة لا يجب بالضرورة أن تكون فردًا يحمل كاريزما وصفات محددة يقبله الجميع ويهابونه، يسمعون له ويطيعون، وإنما يمكن أن تتخذ أشكالًا كثيرةً، منها الشكل المؤسسي والفكر الجماعي الذي يعتمد عليه العالم اليوم، حتى إذا سقط احدهم، يظل العمل قائمًا؛ فالفكرة في الصدارة، والعاملون عليها تحكمهم شريعتها ودستورها مع إعطاء الحرية اللازمة بالقدر الكافي للحركة والإبداع.

إن حل الإشكالية يقع على عاتق علماء الأمة، بقدر ما تقع على شعوبها؛ فالشعوب بطبيعتها مختلفة، متنافرة بنسبة كبيرة، متشاكسة، متعددة المشارب، متعددة الأهواء، لكنها تجيد الاستماع لمن تثق به، تجيد اتباعه إن هو أحسن ريادتها.

وتلك دعوة أخرى لعلماء الأمة في كل التخصصات الشرعية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، دعوة للهيئات والمؤسسات والجمعيات والجماعات المعنية بالإسلام أن تطلق مبادرات بحثية وتطبيقية لتقديم مشروع إسلامي متكامل نستطيع به أن نخاطب أنفسنا، ونكتشف درر ديننا، ونواجه فيه نقاط الخلاف بيننا لنقرب وجهات النظر، ثم نخاطب به العالم أن الإسلام دين لا يخيف، وإنما هو الحل المنطقي والوحيد لكافة المشكلات العالمية، إنها صرخة لمن يعنيه الأمر، أن انتظار الحل من السماء لن يجدي ولو قضينا النهار صائمين والليل قائمين، فالإسلام دين عمل وعلم وتطبيق وليس دينًا نظريًا نؤديه في خلوة أو صومعة أو زاوية ، تلك ليست دعوتي الأولى ولن تكون الأخيرة حتى يستجيب أحد، أو يقيض الله لهذا الدين من يقوم على أمره.