لعدة مئات من السنوات ظل المسلمون عالة على العالم لا يقدمون له شيئاً بعدما تركوا أنفسهم للضعف والتخلي عن ثوابت دينهم والانقسام الداخلي فيما بينهم، انقسام وصل حد الصراع والتحارب، وتركوا أنفسهم كذلك نهبة لكل طامع وكل راغب في استعمار بلادهم وكأنها بلاد بغير شعوب!

توقف المد الحضاري الإسلامي وبدأ في التراجع منذ ضعف الدولة العثمانية والتآمر الكبير عليها حتى حلها في مطلع القرن العشرين.

توقف الإنتاج العلمي للمسلمين، وهاجرت العقول المبدعة إلى أوروبا وأمريكا بعدما تخلت الأنظمة الحاكمة عن الاهتمام بالعلم والإنفاق عليه واعتمدت الجهل للتقرب من السلطة، وحوربت أول كلمة نزلت في كتاب الله "اقرأ".

وها هو العالم يكتفي ذاتياً، وكل دولة "عظمى" تنأى بنفسها عن الأخرى في مواجهة الوباء العالمي الذي أصاب معظم دوله "كورونا"، لتكتفي الدول بما تمتلكه من أدوات وقاية من المرض، بينما تعاني دول العالم الثالث من نقص حاد من كافة تلك الاحتياجات، ويواجه أطباؤها المرض بوجوه عارية.

لقد وقعت الأزمة، وأصبح لزاماً على كل دولة أن تواجهها منفردة بحضارتها، وعلمها، وقوتها، ووطنيتها، وهويتها، وتمسكها بقيمها، وهنا ظهرت قيمة الإسلام، حين فقد العالم أخلاقه التي طالما تشدق بها لتتخلى بعض الدول عن معالجة كبار السن، بينما يظهر في بلاد المسلمين المعدن الحقيقي الذي غاب طويلاً بالتمسك بالقيم والثوابت، فهل يكون "كورونا" سبباً في عودة المسلمين لدينهم؟

هل يمثل البلاء الكبير دافعاً قوياً للمسلمين أن يقهروا الضعف وينفضوا عن أنفسهم غبار الجهل والاحتياج والاستضعاف ويتمسكوا بدينهم ويستعصموا بربهم فيقدموا للعالم ما يحتاجه في وقت هو أشد ما يكون فيه الحاجة لما يمتلكه المسلمون ويغفلون عنه؟

ماذا ينقص العالم في مواجهة الكارثة

كما قلنا قبلاً: إن العالم اكتفى علمياً وتفوق على العرب والمسلمين بمراحل تبلغ مئات السنوات في كل النواحي، فهو لا يحتاج في مواجهة محنته الكبرى لأعظم سيارة في التاريخ، ولا يحتاج لصناعة أدوات حربية أشد فتكاً، ولا يحتاج لطائرة عابرة للقارات بسرعة الصوت، ولا يحتاج لأسرع قطار، ولا يحتاج للمزيد من الأطباء والعلماء على أهميتهم، ولا يحتاج لأعلى بناء يناطح السحاب في ارتفاعه، ولا يحتاج لشق طرق، فكل هذا يمتلكه العالم ولا يحتاج فيه إبداعاً، إن العالم يحتاج لشق آخر افتقده طويلاً، بل تسبب في حرمان البشرية ونفسه منه، ذلك الشق هو الإيمان المستقيم، الإيمان الذي لا يعرف اعوجاج البشر وتدخلهم بالتحريف لصالح أهوائهم ومصالحهم الشخصية بصرف النظر عن مصالح الآخرين، الإيمان الذي يحض على التكافل وحسن الخلق والنظافة، واتباع سنة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قال في حديث أخرجه البخاري: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها".

    إن العالم يحتاج إلى الإيمان الذي لا يعرف اعوجاج البشر وتدخلهم بالتحريف لصالح أهوائهم ومصالحهم الشخصية بصرف النظر عن مصالح الآخرين، الإيمان الذي يحض على التكافل وحسن الخلق والنظافة

يحتاج العالم لمعرفة واحترام حق الكبير وتقديره، وفضل القيام عليه، وقضاء احتياجاته، والسعي على خدمته.

يحتاج العالم ليوقن بأن ما بعد الموت حياة أخرى، لا ينفعه فيها أن يحصل على صك غفران من بشر مثله، ولا ينفعه فيه إلا عمله الصالح وإيمانه واعتقاده بأن الله واحد، وبأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن كل ما يدور هو مقدر ومسطر في كتاب عند الله لا يخطئ ولا يغفل.

يحتاج العالم لمعرفة أن إعادة الحقوق لا يحتاج لقانون وعقاب، إنما يحتاج للإيمان بأن كل إنسان مجازى ومحاسب على ما قدم في خدمة عباده تحت راية التوحيد.

يحتاج العالم لأن يعرف أن الله -عز وجل- ليس في خصومة مع البشر، وإنما يريد بهم خيري الدنيا والآخرة.

لقد انتهت كافة التجارب البشرية بالفشل الذريع، بل كادت أن تودي بحياة الإنسان ووجوده على الأرض، وآن له أن يدخل في حيز تنفيذ تجربة أخرى، تجربة تطمئن الإنسان على مصيره في الدنيا والآخرة، وتعيد التوازن للبشرية من جديد.
وفي هذا الخضم يقول مالك بن نبي المفكر الجزائري الكبير وكأنه كان يستشرف المستقبل، أو يقرأ النتائج وفق المعطيات الآنية وقتها "يجب أن ينتهي التاريخ في نقطة ما، كي يتجدد من نقطة جديدة"، يعلن العالم إفلاسه، وفشل كل تجاربه، وأنه في حاجة للتغيير الذي لا يعلم ماهيته، وتلك وظيفة المسلم اليوم وهي فرصة كبيرة ليعرف العالم دينه وقد انقطعت الفرص من قبل في وقت لم يكن يستمع للضعفاء.

الآن حانت الفرصة لينشر فكرته ويعرف بها بسلوكه الذي يمكن أن يتفادى به انتقال العدوى ويقلل من خطورة المرض، ليس فقط بنشر تعاليم النظافة والعلم، وإنما بممارسة قيم الحق والعدل والحرية والتكافل، وها هو وقت التجدد قد حان، تجدد يهيئ العالم لأمر جلل، أمر يضبط الموازين، ويعيد البشرية لرشدها كفرصة أخيرة.
رسالة المسلم في المحنة الكبرى

إن رسالة المسلم اليوم تتلخص في إنقاذ البشرية من الفناء والاندثار، غير أن فاقد الشيء لا يعطيه، والذي يحتاج لإعداد لا يمكن أن يعد غيره، إن على المسلم أن يدرك ويعي مفهوم "الخيرية" وأنها ليست منحة أو هبة وهبتها له الأقدار، إنما تعني المسئولية الكبرى تجاه العالم ، هي حمل رسالة وتبليغها والسير بها والعمل بمقتضاها كي يستحق التأهيل لها، يقول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فالخيرية ليست منحة أو هبة، وليست صكاً مملوكاً بغير أجل، إنها عمل مستمر، ودعوة وتبليغ، وحمل رسالة عملية بحقها، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر بالفعل وليس بمجرد القول.

وكي يستطيع المسلم أن يؤدي رسالته بشكل صحيح، فعليه أولاً أن يتخلص من مشاكله الخاصة، ومحنته الداخلية، وينتفض ليعلو فوق جنوحه وتثاقله إلى الأرض .

عليه أن يتخلص من تبعيته لحضارة الغرب ويخرج من مجرد كونه تابعاً، ومستهلكاً لمنتجاتها ولو اضطر للاكتفاء بأقل القليل منها، وما يعينه على تحقيق الحد الأدنى للوقوف على أرض صلبة وحضارة مستمدة من أصوله وهويته وثوابته.

عليه أن يخلص فكره المختلط بالعلمانية والرأسمالية والشيوعية وكافة تلك الأفكار الدخيلة التي وقفت حائلاً بينه وبين فكرته الأصيلة، إن اليد السفلى لا يمكن أن تعطي، والغرب ما زال يعتقد أنه صاحب فضل على البشرية، بل هو صاحب فضل عليها في معظم العلوم كالطب -على سبيل المثال- ولكي يستمع للمسلم يجب أن يرى أنه يتفوق عليه في القوة، أو على الأقل يعادله، والمعادلة هنا -كما ذكرنا آنفاً- تتأتى من الجانب الذي يفتقده العالم، وهو الجانب الروحي والأدبي والنفسي، فالخطوة الأولى أن يترفع المسلم عن الدنايا والتبعية ويصنع نظريته الخاصة وواقعه الخاص من رحم تاريخه المضيء، والمهمة قد يظنها البعض تحتاج للكثير من الزمان كي تكتشف الفكرة وتربي عليها جيلاً يتحرك بها، وذلك من الخطأ بمكان، فالخير في الأمة ما زال كامناً، وتلك التكبيرات التي تلجأ إليها بلاد المسلمين هي شكل من أشكال العودة للذات الإسلامية، غير أنها عودة غير كاملة، عودة تحتاج لأنموذج تسير عليه وتهتدي بهديه.

إن الأمة لا تفتقد للكتب والأفكار، فأرفف المكتبات زاخرة بها، إنما تحتاج للمنفذ، النموذج العملي الكامن في الحركة الإسلامية المباركة التي حافظت عليه لعشرات السنوات ولم تحظ بالفرصة الكاملة لتنفيذه على المستوى الدولي، وحيل بينها وبين ذلك.

لقد وعت الشعوب المسلمة أنه لا خلاص لها إلا بتجربة جديدة واعية، وعودة لما كان عليه الأجداد الذين قادوا الدنيا وملؤوها عدلاً، إن المهمة شاقة لكنها ليست مستحيلة، والأمة سريعة التغيير خاصة في وقت المحن إن وجدت القائد الملهم الذي يستطيع توحيد كلمتها، ولملمة شملها، وتضميد جراحها، وقد تكررت المحن الكبرى عليها والمتابع للتاريخ يدرك حجمها، غير أنها استطاعت أن تستعيد ذاتها، وتحرر أرضها، وتفرض هيمنتها مرة أخرى، فهل تفعلها الأمة مرة أخرى؟ ظني أنها تفعلها، وظني أن تلك المحنة المنحة تهيء العالم لأمر جلل.