تحامل ناصر واستجاب لنداء البطون الجائعة في بيته، واستلّ عصاه يتوكأ عليها بساق شبه عاجزة، متجها نحو مقر صرف المقررات التموينية في منطقة إمبابة شمال محافظة الجيزة، حيث يجري تجميع المصوتين وحشدهم للذهاب إلى مراكز الاستفتاء على تعديل الدستور بمصر.

يعاني ناصر من جملة متاعب صحية، ويعجز عن شراء كل ما يحتاجه من أدوية لانخفاض معاشه من ناحية، وللارتفاع المطرد في أسعار الأدوية من ناحية أخرى.

دخل العم ناصر مقر لجنة الاقتراع وتسلم ورقة الاستفتاء، ولأنه لا يجيد القراءة سأل الموظفة عن مكان علامة الموافقة، فأشارت له بأنها ناحية اليمين، فانتحى بالورقة جانبا ووضع علامته جهة اليسار حيث رفض التعديلات.

لفت ناصر أنظار من تصادف وجودهم، ومنهم مراسل الجزيرة نت ورفض تفسير تصويته بالرفض، لكنه اعتبر أن من حقه أن يأخذ كرتونة المواد الغذائية التي يوزعها موالون للنظام من أجل حث المواطنين على المشاركة قائلا، إنها حق له طالما لا يجد ما يكفي حاجة أولاده، مضيفا أنها لم تمنعه من أن يصوت كما يريد.

وشهدت مصر استفتاء على تعديلات مثيرة للجدل من شأنها أن تبقي السيسي في السلطة ثماني سنوات إضافية كما تدعم سيطرته على القضاء وسيطرة الجيش على الدولة، وذلك في 368 لجنة تضم عشرة آلاف و878 مركزا انتخابيا، وثلاثة عشر ألفا و919 لجنة فرعية، فتحت أبوابها على مدار الأيام الثلاثة الماضية.

نتيجة عكسية
وبدا واضحا حرص السلطة على نسبة مشاركة عالية توحي باهتمام الشعب وتفاعله، وتداول الإعلام قصصا عديدة لمحاولات حشد الناخبين سواء بالإغراء أو بالإجبار، ما ولّد لدى بعضهم أثرا عكسيا حيث صوت كثيرون -بحسب شهادات- ضد التعديلات أو بإبطال الأصوات.

ومع انتشار صور وفيديوهات توزيع الكراتين خلال اليومين الأولين للاستفتاء، قال ناخبون إنهم لن يدخلوا اللجنة للتصويت إلا بعد الحصول على كرتونة.

وقال واحد ممن تولوا مهمة الحشد إن "الناس أخذوا كراتين المواد الغذائية، ثم صوتوا ضد التعديلات أو أبطلوا أصواتهم"، مرجعين ذلك إلى ما باتوا يعانونه من صعوبة المعيشة رغم الوعود الكثيرة من السيسي بالرخاء.

ارتباك
وبدا واضحا أن سير الأمور على هذا النحو أحدث ارتباكا في لجان الفرز، إذ أظهرت المؤشرات الأولية أرقاما مزعجة للنظام، مما اضطر الهيئة الوطنية للانتخابات إلى ضرب طوق من السرية على عمليات الفرز، ومنع اللجان الفرعية من إعلان النتائج، وذلك على غير المعتاد في كل الاستحقاقات الانتخابية السابقة منذ ثورة 25 يناير 2011.

وحذفت صحيفة الشروق المقربة من النظام خبرا من موقعها الإلكتروني أظهر ارتفاع نسبة التصويت بالرفض في لجنة بالزمالك وسط القاهرة.

ووقعت مشادة حادة وتراشق لفظي، بين رئيس لجنة عامة وقاضي لجنة فرعية تابعة لها، لرفض الأخير قيام موظف في اللجنة بنقل عدد الناخبين الحاضرين في الاستفتاء باللجنة الفرعية إلى اللجنة العامة.

وأبلغ رئيس اللجنة العامة رئيس اللجنة الفرعية أن هذا الموظف مكلف بإبلاغهم بأعداد الحضور أولا بأول، وهي الظاهرة التي رصدتها الجزيرة نت أمس ولم يتسن الوقوف على تفسير لها وقتها.

وقال صحفيون حاصلون على تصاريح بمتابعة الاستفتاء إنهم "مُنعوا من حضور الفرز في اللجان الفرعية بأوامر من الهيئة الوطنية للانتخابات" وطالبهم مسؤولو الهيئة بانتظار الإعلان الرسمي للنتيجة.

تفسيرات
وذهبت أغلب تفسيرات المراقبين لمشهد الاستفتاء وإصرار النظام على حشد المصوتين بالإغراء بكراتين الغذاء، والإكراه بإنزال الركاب من الحافلات واصطياد الشباب في الشوارع عبر أفراد من الشرطة واقتيادهم نحو اللجان، إلى أن النظام يرغب في استغلال ذلك للإيحاء بالمشاركة والتأييد الشعبي.

وسعت المعارضة المصرية في الداخل والخارج إلى التصدي لتعديل الدستور، لكنها انقسمت على نفسها بين الدعوة إلى المقاطعة وبين الدعوة إلى المشاركة بالرفض، وسط تحذيرات من أن يصب هذا الانقسام في مصلحة السيسي في النهاية.

انتهاكات قانونية
وشهد اليوم الثالث تنوعا في طبيعة المواد الغذائية المقدمة للمواطنين، وبعد أن كانت كرتونة تضم سلعا غذائية مثل الزيت والسكر والأرز والمكرونة، أفاد شهود عيان بمحافظة الشرقية شرق الدلتا بتسلم بعض المواطنين لحوما حمراء.

وفي محطة رمسيس للسكك الحديدية، أقيمت لجنة للوافدين، لاحظ مراسل الجزيرة نت وقوف أفراد غير معروفة هويتهم لاقتياد الناخبين إلى داخل اللجنة، ووقوف شباب وفتيات للرقص على باب اللجنة.

وعند نقطة تفتيش للشرطة بمنطقة السلام شرق القاهرة، قام أفراد من الأمن باستيقاف سيارات الأجرة، وإجبارالركاب على التصويت في لجان الوافدين.

وجابت شوارع القاهرة حافلات ضخمة أقلت فتيات وشبانا يقومون بالغناء والرقص على أنغام أغان شعبية تحث على المشاركة.

وفي لجنة بشارع شمبليون بوسط القاهرة جرى تجميع حرفيين في طوابير وهمية كأنهم مستفتون، ولهم قائد يشير إليهم بما يتوجب عليهم فعله من حيث الغناء والهتاف، قبل أن يوزع عليهم وجبات جاهزة في فترات الراحة، ثم يعودون للاصطفاف وكأنهم في طوابير مزدحمة للاستفتاء.

ورصد نشطاء قيام مندوبي حزب مستقبل وطن (راعي توزيع الكراتين) باتهام أمناء شرطة بسرقة الكراتين المخصصة للفقراء المصوتين.

وقالت صحفية أوروبية تعمل في مصر تدعى "أريان لافريلو" في تدوينة لها بصفحتها الشخصية إن شابا قال إنه يعمل مع الشرطة المصرية طلب منها دخول اللجنة والتصويت.

وتمنح التعديلات رئيس الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي عامين إضافيين على فترته الحالية، كما تمنحه إمكانية الترشح لست سنوات جديدة لينتهي حكمه المفترض عام 2030، وتطلق التعديلات يد السيسي في السيطرة على مؤسسة القضاء.

كما تمنح التعديلات المؤسسة العسكرية سلطات سياسية واسعة وإمكانية التدخل لحماية الدستور ومدنية الدولة.