غيّرت التكنولوجيا كثيرا من ملامح حياتنا وعاداتنا، وتغيرت معها نظرتنا للأشياء وطريقة تعاملنا معها. وامتدت يد التقنية إلى عالم النشر والكتب باستحداث وسائل جديدة للقراءة تعيد تشكيل علاقة القارئ بالكتاب.

فبعد أن بقي الكتاب المطبوع عمود صناعة الثقافة والوعي منذ اختراع غوتنبرغ للطابعة عام 1447، يبدأ الكتاب الإلكتروني بالحلول تدريجيا محل الكتاب المطبوع، مستعينا بفورة التكنولوجيا واقتحامها كل مجالات حياتنا، ويقدم نفسه بديلا يختصر على القارئ الوقت والمال والمساحة، ويجعل القراءة تجمع بين الفائدة والمتعة والتفاعل.

بدأت أجهزة القراءة الإلكترونية بالظهور على نطاق واسع منذ العام 2010، وشهدت ذروة الإقبال والنجاح بين عامي 2011 و2014، لكنها ما لبثت أن تراجعت لأسباب عديدة، من أبرزها انتشار الأجهزة اللوحية المتطورة -مثل أجهزة آيباد- التي وفرت تطبيقات للقراءة جعلت الناس يزهدون في اقتناء أجهزة مخصصة للقراءة ولا يمكنها منافسة الأجهزة اللوحية من حيث تعدد المهام.

انتعاش
لكن العام 2017 شهد صحوة جديدة لسوق أجهزة القراءة الإلكترونية التي استقطبت اهتمام الناس وشدت انتباههم مجددا، لأسباب نذكر منها:

- تطور أجهزة القراءة الإلكترونية التي ارتقت إلى مستويات تقنية كبيرة، لا سيما من حيث وضوح الشاشات التي تعتمد على تقنية الحبر الإلكتروني، ونجاحها في تقديم تجربة قراءة مشابهة لقراءة الكتب المطبوعة.

- استثمار شركات تقنية عملاقة في النشر الإلكتروني مثل "أمازون" و"آبل" و"غوغل"، وبهذا استقطبت عددا كبيرا من الناشرين والمؤلفين لتقديم باقات متنوعة من الكتب تناسب كل الأذواق والاهتمامات.

- تطور تطبيقات القراءة التي أصبحت بفضل الخدمات السحابية امتدادا لأجهزة القراءة الإلكترونية، حيث يمكن متابعة قراءة الكتاب نفسه على تطبيق موجود في أكثر من منصة وأكثر من جهاز.

- رغبة القراء في الابتعاد عن كل ما يشتت انتباههم عن القراءة، إذ إن الأجهزة اللوحية والهواتف والحواسيب تشتت الانتباه بسبب تنبيهات التطبيقات وإغراء القارئ بتصفح الإنترنت بشكل يتعذر عليه متابعة قراءة الكتب دون انقطاع.

- معاناة القراء من مشكلات سطوع شاشات اللوحيات وأجهزة الهاتف، في مقابل توفير أجهزة القراءة الإلكترونية لتجربة قراءة مريحة تقضي بشكل كبير على مشكلات سطوع الشاشة وتأثيرها السلبي على العين.

- انفتاح أجهزة القراءة الإلكترونية على لغات عديدة، بينها العربية، وهو ما جعل قاعدة النشر الإلكتروني تتوسع وتستقطب ناشرين ومؤلفين وقراء بشكل تصاعدي.

ولئن شهد سوق القراءة الإلكترونية أفول نجم كثير من الشركات، بمن فيها "سوني" مثلا التي كانت رائدة في هذا المجال قبل أن تقلص إنتاجها بشكل كبير، فإن شركات أخرى نجحت في فرض نفسها والتحليق عاليا بما تقدمه من أجهزة ومنصات للنشر الإلكتروني، ومن أهمها:

شركة أمازون، إذ قدمت عددا كبيرا من أجهزة القراءة الإلكترونية، آخرها "كيندل أوايسيس" بنسخة 7 بوصات، ونسخة مطورة من "كيندل بايبر وايت"، و"كيندل فوياج" وغيرها.

شركة راكوتن كوبو، إذ طورت عددا من أجهزة القراءة الإلكترونية، أحدثها جهاز "كوبو فورما"، تلاه "كوبو أورا وان" و"كوبو أورا إتش2 أو".

وحسب إحصائيات ذكرها موقع "ستاتيستا"، فإن نحو 54 مليون أميركي اقتنى أجهزة قراءة إلكترونية عام 2017، في حين يذكر مركز "بيو" للأبحاث أن نحو خُمس الأميركيين يستمعون إلى الكتب الصوتية، وهو ما يكشف حجم العائدات الكبير الذي تُدره سوق النشر الإلكتروني.

القراءة كفعل عاطفي
ما الذي يجعل تجربة القراءة الإلكترونية -واستخدام أجهزتها تحديدا- مغرية بشكل ينافس قراءة الكتاب الورقي وقد يتفوق عليه؟

تعيد القراءة الإلكترونية تشكيل علاقة القارئ بالكتاب، إذ يستطيع اختيار الخط المناسب للقراءة وحجمه ومتابعة نسبة ما قرأه، وكم تستغرق قراءة الفصل الذي بين يديه، وكم بقي له من الوقت ليكمل الكتاب كله.

ويمكن للقارئ أثناء تقليب الصفحات تظليل النصوص التي يرغب في الرجوع إليها لاحقا، وبمقدوره نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي أو تصديرها في ملف واحد كي يستفيد منها.

كما تتيح هذه القراءة الوقوف على معنى أي كلمة بالاستعانة بقواميس مدمجة، أو معرفة ترجمتها، أو حتى توسيع معلومات القارئ عن الكلمة بالرجوع إلى موسوعة ويكيبيديا.

ومع تطور صناعة هذه الأجهزة التي صارت تقدم نسخا تحتوي على ذاكرة 32 غيغابايتا، أصبح بالإمكان أن يضم الجهاز الصغير الحجم مئات الكتب، وهو ما يجعل من القراءة المتنوعة أمرا يسيرا في أي مكان وُجد فيه الشخص، بما في ذلك أثناء استخدامه وسائل النقل الجماعية، حيث يحمل الإنسان مكتبة كبيرة في جهاز يحمل بيد واحدة.

ويمكن استخدام القارئ الإلكتروني أثناء الاستحمام لكونه مصنوعا بمعايير مضادة للماء، وهو أمر لا يمكن فعله مع الكتاب الورقي.

وتوفر بعض الأجهزة -مثل أجهزة كيندل- خدمة ربط الجهاز بموقع "غود ريدس" الذي اشترته شركة أمازون صانعة كيندل، ويمكن من خلاله إعداد قائمة بالكتب التي يريد القارئ الاطلاع عليها، ويقرأ تعليقات قراء آخرين عنها وتقييمهم لها. كما يمكنه الدخول في نقاش حولها مع آلاف القراء.

وتسمح أجهزة القراءة الإلكترونية الانتقال بين قراءة الكتب والاستماع إلى نسخها الصوتية عبر خدمات تقدمها شركات مثل "أمازون" و"راكوتن كوبو" وغيرهما.

ورغم هذه المغريات، ما زال هناك من يفضل الكتاب الورقي لأن القراءة ليست عملية تخزين للمعلومات فحسب، بل تتداخل فيها المعرفة باللمس وشم رائحة الورق والشعور بخشخشته أثناء تقليب الصفحات، وهنا تصبح القراءة فعلا عاطفيا لا معرفيا فقط.