وائل قنديل

وأنت تتابع بالوعات البذاءة والشوفينية المفتوحة في وسائل إعلام نظام عبد الفتاح السيسي، ضد السودان، حكومة وشعباً، تداهمك مفارقة تاريخية مدهشة، إذ ربما يكون الشارع الوحيد في عاصمة عربية الذي يحمل اسم دولتين، معاً، هو شارع “مصر والسودان” الممتد بطول منطقة حدائق القبة في القاهرة.

يلفت النظر أيضاً أن العلاقات الرسمية بين القاهرة والخرطوم تتخذ شكلاً محترماً في الأوقات التي تعرف فيها مصر أشقاءها من أعدائها، ثم تدخل في طورٍ من الانحطاط والتدنّي، عندما تقترب الرسمية من أعدائها، وتعادي أشقاءها، بما يجعل الكيان الصهيوني عنصراً محدداً لشكل العلاقة.

وبما أن مصر الرسمية الآن في طورها الصهيوني، بما يجعل حاكمها لا يترك مناسبةً إلا ويعلن فيها حرصة على مصلحة الصهاينة، حكاماً ومستعمرين، فمن الطبيعي أن توجّه فوهات مدافع القبح والبذاءة، صوب الخرطوم، ويتم استحضار السودان عدواً، تروج التسريبات والتلميحات عن استهدافه عسكرياً وأمنياً.

تبدو مصر مع عبد الفتاح السيسي غريبةً على التاريخ واعتبارات الجغرافيا ومحدّدات الهوية، بل تبدو غريبةً عن نفسها، بالنظر إلى هذه الحالة من التصحّر الأخلاقي، والتآكل الاجتماعي، والعري القيمي، الذي يحتفي بالهبوط والتدنّي والقتل والتعذيب وسلب الناس حرياتهم وممتلكاتهم، بزعم الحفاظ على”الدولة”، بينما الحاصل أنهم يعدمون الوطن والمواطن، ومفهوم المواطنة ذاته، من أجل بقاء النظام الذي يعادي كل شيء، إلا العدو الحقيقي.

عقب هزيمة يونيو/ حزيران 1967، لم يكن لمصر من سند وجدار تستند عليه إلا العواصم العربية الشقيقة، وفي المقدمة منها الخرطوم والجزائر، أكثر عاصمتين تعرّضاً لرذاذ البذاءة والسفالة، المنطلق بتعليمات رسمية من النظام الحاكم في القاهرة، وفي ذلك تنهض “حرب الكرة” في العام 2009 واحدةً من أبشع تجليات دخول مصر في خصومةٍ مع التاريخ والجغرافيا والأخلاق، عقب موقعة أم درمان الكروية بين مصر والجزائر.

هذه الحالة من الكفر بالتاريخ والمصير المشترك تتخذ طوراً أكثر فداحةً مع نظام عبد الفتاح السيسي، بدبلوماسيته وإعلامه، ويجد السودان نفسه الآن هدفاً لترسانة العنصرية والاستعلاء.

يروي الفريق محمد فوزي وزير الحربية، الذي عين عقب انكسار العسكرية المصرية المهين في نكسة 1967، يروي في مذكراته المنشورة في القاهرة في تسعينيات القرن الماضي:

“أخذت التحركات تتلاحق في أعقاب قمة الخرطوم، مستهدفة ترجمة شعار “قومية المعركة” بصورة عملية على مدار السنوات الثلاث 1967-1970، وقد قمت بعدة زيارات لكل من الجزائر والسودان والمغرب والعراق، بهدف تقوية التضامن العسكري العربي، باشتراك قوات من هذه الدول في خطوط المواجهة. وقد قدمت الحزائر، على سبيل المثال، لواء مشاة كاملاً مع وحداته المعاونة، ثم جرى تدعيمه بعدد 2 كتيبة مدفعية عيار 155 مم، وقدمت السودان والكويت عددا من كتائب المشاة.

وكان عام 1969 حافلا بالتغيرات الجوهرية في مسرح عمليات الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث شهد قيام ثورتين في كل من السودان وليبيا (مايو/ أيار- سبتمبر/ أيلول 1969) أعلنتا، منذ يومهما الأول، تحالفهما الكامل مع مصر وسورية في صراعهما مع إسرائيل، وقدمتا أراضيهما كعمق استراتيجي للقوات المصرية، حيث تم نقل الكلية الحربية إلى جبل الأولياء جنوب الخرطوم، كما انتشرت بعض القطع البحرية المصرية في القاعدة البحرية في طبرق، وفتحت مراكز تدريب للكلية الجوية في القواعد الليبية المختلفة”.

هذه الدفعات من خريجي الكلية الحربية التي احتضنتها الخرطوم، ووفرت لها الحماية والرعاية، هي التي صنعت انتصار العبور في حرب أكتوبر 1973 في لحظةٍ كان فيها عبد الفتاح السيسي لا يزال يتعرّض للضرب من أقرانه في أفنية المدارس، أو على نواصي اللهو بالشوارع، ويقول لهم “لما أكبر هضربكم”.

لقد كبر عبد الفتاح السيسي بالفعل، وضرب كل قيمةٍ محترمةٍ في مقتل، فصار السودان عدواً، والصهيوني صديقاً وشريكاً وحليفاً.

سيبقى السودان لمصر ومصر للسودان.. بينما السيسي لإسرائيل.

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر