مجدي مغيرة:
 

 

لا يمل البعض كلما اجتمعوا وتناقشوا أن يكون جزءا من حديثهم عن ضرورة إعادة صياغة الشعوب مرة أخرى ، حتى تتمكن من إزاحة الطغاة والمفسدين ؛ حيث سيطر الخوفُ على الناس ، واستعذب الكثيرون منهم القهر والاستبداد ، بل إن بعضهم يرفض التغيير ليس حبا في القهر والاستبداد ، بل خوفا من البديل الأسوأ ؛ لأن الحرية في ظنه رديفٌ للفوضى.

ويستشهد هؤلاء بقصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل حيث حرَّم الله تعالى عليهم دخول الأرض المقدسة أربعين سنة ، تاهوا خلالها في أرض سيناء ، وبعد أن تكوَّن جيلٌ جديد بعيدا عن ذل القهر والاستبداد ، استطاع تحقيق أمر الله تعالى بدخول بيت المقدس وتحريرها .

لكن نسي هؤلاء سؤالا مهما !

إذ كيف ستعمل على إعادة صياغة جيل جديد بينما الطغاة والمفسدون يحكمون الناس ، ويتحكمون في كل شيء في حياتهم ؟ !

فلم يعد الحكام كما كانوا قديما ، فَهُمُ الآن يتحكمون في وسائل تربية الشعوب من خلال المدارس والجامعات ، والمساجد ودور العبادات ، و يتحكمون في أغلب وسائل الإعلام بمختلف أنواعه ، ويصبون في عقول الناس الأكاذيب ليل نهار ، ونتج عن ذلك تصديق فريق كبير من الناس لأكاذيبهم التي لا تثبت أمام أي تفكير من منطقي ، لكن كثرة الإلحاح ونشر الخوف ، وصناعة الجوع وفقر الحاجة جعلت الكثيرين يستقبلون تلك الرسائل ويتقبلونها دون عناء التفكير في مضمونها ، أو في آثارها السلبية عليهم .

أضف إلى ذلك أن لا صوت للمثقفين مسموع إلا إذا كان تشكيكا في الدين ، وهدما في العقائد ، وطعنا في البديهات ، وتنقيصا للحرية وتبريرا للظلم والفساد والقهر والاستبداد .

وإذا أفلت بعض الناس من هذا التأثير المدمر بسبب سلامة فطرته ، فما أسرع أن تنالهم أيدي الظالمين بالتشويه وتلفيق التهم والسجن والتعذيب حتى يكونوا عبرة لغيرهم .

إذن مسألة إعادة صياغة المجتمعات بعيدا عن القهر والاستبداد أمر في غاية الصعوبة ، طالما بقي هؤلاء الطغاة يحكمون شعوبهم بالحديد والنار .

 لكنْ لا يعني ذلك استحالة تكوين النواة المؤمنة التي ستنتصر على هؤلاء الطغاة !

ولتفسير الجملة السابقة دعنا نعود إلى قصة موسى عليه مع بني إسرائيل ، إذ سنجد فيها حقائق واضحة وضوح الشمس !

الحقيقة الأولى أن الذين آمنوا برسالة موسى عليه السلام لم يكن كلُّ بني إسرائيل ، بل بعضهم ، و قد آمنوا رغم ما فيهم من آفات نفسية نتجت عن خضوعهم للقهر والاستبداد سنواتٍ طويلة: " فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ"   (83) سورة يونس.

الحقيقة الثانية أن بعض بني إسرائيل الذين أرسل الله تعالى موسى لتحريرهم من عبوديتهم لفرعون لم يكتف بعدم الإيمان برسالة موسى عليه السلام ، بل وقف بجانب الفرعون ضد موسى:" إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ" (76) القصص.

الحقيقة الثالثة أن الكثير من بني إسرائيل اغتروا بكثرة أموال قارون وعبَّروا عن رغبتهم في أن يكونوا مثله ، وهذا يعني إعراضهم عن دعوة موسى ، ورضاهم عن كفر قارون : "فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ"   القصص (79).

الحقيقة الرابعة أن القلة التي آمنت بموسى عليه السلام نصحت قارون ألا يغتر بعلمه وبماله: " إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)" القصص ، ونصحت المغترين بغناه ومكانته:" وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)" .

وبرغم الحقائق الدالة على صعوبة موقف موسى عليه السلام واتباعه ، إلا أن الله تعالى أهلك قارون ، وأغرق الفرعون ، وتحرر بنو إسرائيل ، ثم انطلقوا ليحققوا وعد الله تعالى بدخول الأرض المقدسة ، لكن ظهرت فيهم عندئذٍ آثار الاستبداد !!

 ففي أول ابتلاء لهم لم يميزوا بين الله الإله الحق ، وبين غيره من الآلهة الباطلة :" وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ "   الأعراف (138) .

ورفضوا الاستجابة لموسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة خوفا من بطش العدو :" قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)" ... "قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)" ؛ فكان جزاؤهم أن الله تعالى :" قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)" المائدة .

إذن إعادة صياغتها الشعوب مرة أخرى بما يتفق مع فطرتهم التي فطرهم الله تعالى عليها تبدأ بإزالة الطغاة أولا ، ثم في جو الحرية المطلق الخارج عن سيطرة الدول الكبرى تتم إعادة تربية الشعوب ثانيا بعيدا عن القهر والخوف والذل والظلم والاستعباد .
 

 

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر