في رائعة الأديب الأميركي راي برادبري "فهرنهايت 451" يأمر النظام الشمولي بمصادرة الكتب وحرقها، وكذلك حرق البيوت التي تخبئ الكتب، وبعد عشر سنوات من عمل رجل المطافئ في مهمة حرق الكتب حدث ما كان يخشاه النظام الذي يستخدم الدعاية والتلفزيون بكثافة لمواجهة الثقافة.

التقى رجل الإطفاء بجارته القارئة التي حكت له عن التاريخ وآمال المستقبل، وأقنعته بقراءة رواية جميلة وقع في حبها، وأصبح من المتمردين على السلطة أيضا، واعتبرت الرواية ردا أدبيا على حقبة الإرهاب الثقافي الذي مارسه السناتور جوزيف مكارثي على الكتاب والمثقفين في أميركا واتهاماته المرسلة بالعمالة للشيوعية.

وبعد عقود طويلة من الحقبة المكارثية تعيش مصر نموذجا مشابها، إذ تعتقل سلطات العسكر أصحاب المكتبات وتغلق العديد منها وتصادر الكتب التي لا تروقها، دون أدلة وبطريقة تشبه الانتقام المكارثي الذي كان اتهامه للعشرات بالشيوعية كافيا ودون أدلة للتنكيل بهم.

حبس الثقافة في مصر

لم يمض عامان على تحفظ سلطات العسكرعلى الشركة العربية الدولية للتوكيلات التجارية المالكة لمكتبة "ألف" والمملوكة لرجل الأعمال الشاب عمر الشنيطي حتى قبضت قوات أمن الانقلاب على الشنيطي رئيس مجلس إدارة مكتبات ألف أمس الثلاثاء 25 يونيو الجاري ضمن حملة استهدفت 19 كيانا اقتصاديا قيمتها 250 مليون جنيه بزعم تمويل مخطط وتحركات معارضة للنظام.

وكانت سلطات الانقلاب العسكرية قد تحفظت على مكتبات ألف وأسندت إلى شركة أخبار اليوم للاستثمار إدارة الشركة، وبحسب بيان رسمي، وشمل القرار 37 فرعا للمكتبة بمختلف محافظات الجمهورية ومنها القاهرة، الجيزة، أسيوط، الإسماعيلية، السويس، المنوفية، الدقهلية، الساحل الشمالي.

وبدأت "مكتبات ألف" في العمل بقطاع الثقافة والتوزيع منذ ثماني سنوات وتحديدا منذ العام 2009، بحسب بيان سابق لإدارة المكتبة بخصوص التحفظ عليها.

وساهمت المكتبات في تطوير القطاع الثقافي بالانتشار في 37 فرعا تغطي عشر محافظات، وفرع وحيد بالخارج في المملكة المتحدة، مر عليها أكثر من ألف موظف ويعمل بها حاليا 250 موظفا، كما تتعامل مع أكثر من 400 دار نشر مصرية توظف وتشغل آلاف الموظفين، بحسب البيان الذي يؤكد كونها منصة ثقافية مستقلة ومحايدة وعدم تبعيتها لأي حزب أو فصيل سياسي.

ولا تعد قصة اعتقال الشنيطي والتحفظ على مكتبة ألف غريبة في مصر التي أيدت فيها محكمة عسكرية في فبراير الماضي حكما بحبس خالد لطفي مؤسس مكتبة ودار نشر "تنمية" وناشر رواية "الملاك" لمدة خمس سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة وإفشاء أسرار عسكرية بعد توزيعه رواية "الملاك" .

تنمية والبلد والكرامة

وتعود القضية لعشرة أشهر مضت بعدما نشرت دار "تنمية" بالتعاون مع "الدار العربية للعلوم ناشرون" اللبنانية طبعة محلية من الرواية الإسرائيلية "الملاك الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل"، ويتناول قصة أشرف مروان صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ومستشار خلفه السادات.

وبعد نشر الرواية شن صحفيون مصريون مقربون من سلطات العسكر هجوما على المكتبة وصاحبها، وجرى لاحقا القبض عليه ومصادرة الكتاب وتحويل الناشر إلى محاكمة عسكرية.

وفي نهاية العام 2017 أغلقت سلطات الانقلاب العسكرية مكتبة البلد، بشارع محمد محمود وسط القاهرة، وتعود ملكية المكتبة التي تمارس نشاطها منذ 2007 للسياسي فريد زهران رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي المشارك في أول حكومة بعد الانقلاب العسكري 2013.

وأتاحت مكتبة البلد لروادها فرصة قراءة الكتب مع تناول المشروبات، كما نظمت بها العديد من الندوات الثقافية والملتقيات الشبابية قبل أن يجري إغلاقها بالشمع الأحمر بدعوى عدم ترخيصها.

واستمرت مطاردة سلطات العسكر لمراكز نشر الثقافة، وأغلقت سلطات العسكر في بداية ديسمبر 2016 سلسلة مكتبات الكرامة التي تعود ملكيتها للمحامي الحقوقي جمال عيد والتي أنشأها في الأحياء الفقيرة والشعبية.

وقالت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان بعد سنتين من حظر السلسلة إن إغلاق وتشميع المكتبات يكشف عن جوهر نظام عسكري يعادي المعرفة والثقافة والتعليم ويحرم الشباب والأطفال الفقراء من حقهم في الوعي والثقافة.

ولم يصدر أمر قضائي بإغلاق المكتبات وإنما فقط تعليمات من جهاز الأمن الوطني، بحسب بيان الشبكة الذي رصد رحلة سلسلة المكتبات بدءا بمكتبة الكرامة العامة في طره البلد، ومكتبة خطوة في دار السلام بالقاهرة، ثم امتدت لتشمل باقي المكتبات في الزقازيق (محافظة الشرقية) وبولاق والخانكة (محافظة القليوبية) وعين الصيرة.
 


هولوكوست الكتب

وفي منتصف يونيو من العام 2015 أصدر محمد مختار وزير الأوقاف بحكومة الانقلاب العسكري قرارا بإعادة فرز مكتبات المساجد، وحرق جميع الكتب التي وصفها بالمحرضة، وذلك في أعقاب إشارة أجهزة أمن العسكر إلى وجود كتب لرموز تاريخية من الإخوان المسلمين مثل حسن البنا وسيد قطب في مكتبات الأوقاف ومساجدها والمكتبات العامة.

وأمرت سلطات العسكر كذلك بحرق كتب فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي وكتب لرموز الإخوان والجماعة الإسلامية، وقامت وكيلة وزارة التعليم بمحافظة الجيزة بثينة كشك بحرق الكتب في فناء مدرسة فضل الحديثة، وقالت "الكتب التي أحرقت تدعو للتطرف والعنف وغير مدرجة بقوائم التربية والتعليم، أنا فخورة بحرق كتب كانت ستدمر طفلا".

وكانت العاصمة الألمانية برلين قد شهدت في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي أكبر حملة نازية لإحراق الكتب، وشاهد عشرات الآلاف من الألمان مراسم حرق أكثر من 20 ألف كتاب في أحد الميادين بدعوى مخالفتها للروح الألمانية.

وشملت الكتب المحروقة أعمال الشاعر الراحل هاينريش هاينه الذي قال "أينما تحرق الكتب، فسينتهي الأمر بحرق البشر أيضا" وبالفعل وقع ما توقعه منذ القرن التاسع عشر.