ليست فقط تلك السيارة كانت تسير عكس الاتجاه، لتزرع الموت والخراب في معهد الأورام، ملاذ المصريين البسطاء للعلاج من السرطان اللعين، بل مصر كلها تسير عكس الاتجاه برعونة إلى أعماق سحيقة، تتجاوز الـ14 مترًا التي تحدث عنها الجنرال المهرّج، وهو يطمئن الجمهور، المقهور، على سلامة عقل الدولة المدفون.

ليس عقل مصر فقط هو المدفون تحت الأرض، بل دفن معه ضميرها وفطرتها منذ ست سنوات، تحديدًا في يوم 14 أغسطس 2013، حين قرّرت مصر الدولة أن تقتل مصر الشعب، بكل ما أوتيت من بلادة وفظاعة، من دون أن يجرؤ ضميرها الجمعي على الإدانة والرفض، باستثناءاتٍ محدودةٍ من شخصيات سياسية وحقوقية، جرى تصنيفها في خانة أعداء الدولة.

ومنذ ذلك اليوم الملطخ بالدم ورماد الجثث المحترقة في "رابعة العدوية"، ومصر تندفع بأقصى سرعة عكس اتجاه الإنسانية والعقل والمنطق والتاريخ والجغرافيا، تلاحقها لعنة الدم، ليصبح السكوت فيما بعد، لا يكفي وحده للنجاة من سلطةٍ تغرس أنيابها ومخالبها في أجساد المصريبن، وتنشر الموت في كل مكان.

كانت مذبحة رابعة نقطة الانطلاق نحو إنهاء زمن المواطن، والاستعاضة عنه بأسراب من الكائنات الإلكترونية، ذبابًا وجرادًا، وذئابًا مفترسة وكلابًا مسعورة، يصطنع بها الجالس في السلطة شعبًا افتراضيًا بديلًا، يصفق للخراب ويمجد القتل، ويرقص حول محرقةٍ لا تتوقف، لتتحول مصر، بعين الحاكم وعلى يده، إلى شبه دولة وشبه شعب وأضغاث تاريخ وجغرافيا ورماد قيم متفحمة.

في زمن ليس بعيدا، كانت الفواجع تمر بمصر فتوقظ إنسانيتها، وتبعث حالةً من الترابط الشعبي والتضامن الوجودي، حائطًا منيعًا ضد الانهيار والضياع، تختفي وراءه الخلافات السياسية والعقدية، لتنبعث روح جامعة من تحت الرماد، تقاوم الخراب وترفض الانهزام، إنسانيًا على الأقل.

أما الآن، فقد صارت الفواجع فرصةً لا تفلتها السلطة لمفاقمة الانشطار المجتمعي والتشظي الروحي، باستغلالها، أبشع ما يكون الاستغلال، لتعلية جدار الفصل العنصري والإنساني بين عموم المصريين، من خلال التوجيه الدقيق لمشاعر نصف الشعب ضد نصف الشعب الآخر، لتصبح الفاجعة فاجعتين: موتًا وخراب نفوس وأرواح واحتراق أخلاقيات جمعية، وقودًا إضافيًا لرحلة مصر السلطة في طريقها عكس الاتجاه.

في فاجعة جحيم معهد الأورام، احتاج عقل النظام، المدفون في عمق الأرض، أكثر من 16 ساعة لحبك رواية معتبرة تؤجّج الحريق المجتمعي، ليخرج على الناس بسيناريو مغاير لما أعلنته الشرطة فور وقوع الحادث، من أنه انفجار ناتج عن تصادم سيارات على كورنيش نيل القاهرة، أمام مبنى معهد الأورام.

هي 16 ساعة من الصمت الإجباري المفروض على وسائل إعلام تُدار عبر الرسائل القصيرة القادمة من تحت الأرض، بعدها انفجرت الصحف والشاشات بتغطياتٍ موسعة، عبارة عن نص واحد، من دون اختلاف في التنويعات، يقطع بإدانة الإخوان المسلمين، ويحملهم الجريمة الإرهابية.

تلك هي الحبكة الدرامية المثلى للاستثمار في الكارثة، وصلت طازجة وساخنة من عقل الدولة السفلي، المدفون على عمق الأمتار الأربعة عشر تحت الأرض، بقيادة الابن الأكبر لعبد الفتاح السيسي، الذي بات صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في جهاز المخابرات العامة، لتنطلق صيحات الشعب الافتراضي تطالب الجنرال الأب، الممسك بعبوات المولوتوف وأجهزة الإشعال، بأن يضرب بيد من حديد، ويفرم ويعدم ويعتقل ويصادر.

وفي هذا المناخ الأسطوري، سيكون كل شيء جاهزًا والطريق ممهدًا لحركة تطهير تطاول رؤوس الأجهزة الأمنية والمعلوماتية، لكي يستكمل الجنرال تشديد القبضة العائلية على السلطة في مصر من ناحية. ومن ناحية أخرى، يستثمر ماليًا وسياسيًا في الكارثة، فتأتي التبرعات المالية من حكام الخليج، رعاة السلطة الانقلابية، يسبقها الإمداد السياسي من العدو الصهيوني، فتحتفل الصحافة المصرية التي لم تعد تجرؤ على نشر خبر خارج النص المرسل من "جهاز السامسونج" في باطن الأرض، تحتفل بتصريح نتنياهو وهو يعلن، كما تنشر"الشروق" بحفاوة "نتقدم بأحر التعازي إلى أسر الضحايا الأبرياء، ونرسل أمنيات الشفاء العاجل إلى الجرحى، ونقف إلى جانب الشعب المصري في معركته ضد الإرهاب".

رحم الله الشهداء، وحفظ مصر وشعبها من الإرهاب الجبان الذي يستدعيه السيسي، ويرعاه، ويتقاسم معه حصيلة الخراب.