بقلم: هاني بشر

إذا قوي المجتمع قويت الدولة، والعكس ليس صحيحا. فمجتمع قوي يستطيع بناء دولة قوية ويستطيع أن يحافظ عليها. أما الدولة المستقوية على المجتمع فهي عبء على الجميع وعلى نفسها حتى ينتهي بها الحال إلى غزو خارجي بعد أن يكتمل ضعفها وتكون قابلة للاستعمار، بحسب وصف المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي. والأمثلة على هذا الأمر أكثر من أن تحصى، آخرها سوريا التي جلب لها نظامها الطائفي كل غزاة العالم تقريبا يدكون مدنها وقراها دكا.

لقد كانت الثورات العربية عام 2011 دليلا على أن هناك بقية أمل في المجتمعات العربية وخاصة الفئات الشبابية، من ناحية القدرة على التنظيم والحشد والخيال. هؤلاء البقية الباقية حاولوا كبح جماح الدول المجنونة وهي تسير بسرعة على منحدر الضياع. لكن سرعان ما ربحت الثورات المضادة جولة تلو أخرى ضد هذه الصحوة المجتمعية لتعيد توجيه عربة الدولة العربية الحديثة نحو هذا المنحدر. في الوقت نفسه لم تستطع النجاحات الجزئية للثورات المضادة أن تسترد شرعية الأنظمة التي سقطت في 2011. فالغالبية العظمى من الأنظمة العربية اليوم فاقد لقشرة الشرعية التي كانت تداري بها سوأتها قبل سبع سنوات. وربما يفسر هذا العنف الشديد في تعاملها مع المعارضين. فلم يعد لها سوى العنف سبيلا لترسيخ وجودها.

المشكلة الكبيرة الآن أنه تتم عملية تجريف ممنهجة للمجتمعات عبر كتم الأصوات المستقلة، وتأميم وسائل الإعلام، والتضييق على الجمعيات الأهلية في معظم الدول العربية. هذه العملية لم تكن بنفس الحدة قبل ذلك. وبالتالي فنحن اليوم أمام دولة عربية تحكمها أنظمة فاقدة للشرعية ومجتمعات مأزومة، والصدام ليس حلا لأنه الوصفة الأسرع للحرب الأهلية وهلاك الجميع. كما أن رد الفعل السلبي ليس حلا؛ لأنه يعطي مجالا لهذا الفساد كي يتمدد وينمو والوصول للنتيجة الكارثية ذاتها.

يكمن الحل إذا في وضع المجتمع أمام السلطة ليتحمل هو مسئوليته من دون وسطاء. فالدولة المتسلطة لديها خبرة في التعامل مع كافة الجماعات المعارضة على اختلاف مشاربها، لكنها تخاف المجتمع ككل. وتخاف بالضرورة التشكيلات الاجتماعية العفوية التي تنشأ بسبب حاجة إنسانية ما. فالنظام المصري مثلا يحسب ألف حساب لألتراس أندية كرة القدم. ولم يتمكن من محاصرته سوى بعد عدة سنوات من الكر والفر، وفي ظل ظروف غير طبيعية بعد ارتفاع موجة الثورة المضادة. كما أن النضال الفلسطيني الحالي هو ثمرة مهمة لحراك مجتمعي بالأساس تراكم عبر سنوات؛ فليست هناك دولة، بالمعنى التقليدي، تملك الجيش والعلم والموارد. ومع ذلك، فإن النضال الفلسطيني يفرض نفسه على الأرض وعلى وسائل الإعلام وعلى الشرق والغرب، وساهم في إبقاء القضية الفلسطينية حية وترسيخ الهوية الفلسطينية.

إن المرحلة التاريخية القاسية التي يمر بها العالم العربي اليوم تحتاج أن يولي العرب فيها وجههم شطر المجتمع ليلتحموا به وبقضاياه عبر ابتكار آليات نضال اجتماعي تتنوع بين ما هو حقوقي وما هو تكافلي أو خدمي. وليس بالضرورة أن تكون هناك مركزية في النضال، فمسألة مركزية الدولة والسياسة بشكل عام في الفكر السياسي المعاصر تحتاج إلى مراجعة في ظل المتغيرات التي تموج بها منطقتنا. ولنتذكر أن معظم الحركات السياسية الحالية كانت ثمرة لنضال اجتماعي فرضته ظروف تاريخية قديمة. فضلا عن أن التراث العربي والإسلامي يموج بمثل هذه الخبرات.

قد تكون هذه العملية طويلة الأمد لكنها مضمونة النتائج، وستوفر أساسا صلبا لدول قوية مستقبلا تستند على كفاح اجتماعي أصيل. كما أنها ستوفر فرصة للتحرر من أسر الاستقطابات الأيدلوجية والفكرية والسياسية التي أفشلت كثيرا من محاولات الإصلاح في العالم العربي عبر العقود الماضية.

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر