وائل قنديل

في الطريق إلى السلطة، ذبح عبد الفتاح السيسي أربعة رؤساء للمخابرات العامة، في غضون خمس سنوات، لينتهي به المطاف مدشناً لدولة عباسية في مصر، بتعيين ظله، ومحركه، والرجل الساكن في عقله، وتحت جلده، اللواء عباس كامل، مدير مكتبه الخاص، مسؤولاً عن جهاز المخابرات العامة، عقب إطاحة رئيسها اللواء خالد فوزي.

كان أول ضحايا السيسي من رؤساء المخابرات العامة، هو اللواء مراد موافي، ولم يكن السيسي قد أصبح وزيراً للدفاع بعد، بل كان مديراً للمخابرات الحربية، تحت إمرة المشير حسين طنطاوي والفريق سامي عنان.
استثمر السيسي حادث قتل الجنود في رفح 2012 ليوجه ضربة ثلاثية أطاحت رئيس المخابرات العامة ووزير الدفاع ورئيس الأركان، وصعدت به وزيراً للدفاع في الشهور التي حكم فيها الرئيس محمد مرسي.
لا يهم هنا الاستغراق في مسألة هل كان السيسي هو الطعم الذي وضعه المشير طنطاوي، ممثلاً لدولة الجيش، لاصطياد الرئيس مرسي، مستقبلاً، أم أن الجنرال الصغير كان الصياد الذي اقتنص الجميع وانقلب على الرئيس واستولى على البحر كله، فالثابت أن السيسي بعد مرور أقل من شهرين فقط على خلع حسني مبارك فرض هيمنته على كل الأجهزة الأمنية في مصر، وتحديداً في يوم الخامس من مارس 2011 حين دبر عملية استدراج جماهير الثورة لاقتحام مقار أمن الدولة.

قيل كلام كثير عن نقل جميع ملفات أمن الدولة، عبر سراديب تحت الأرض، إلى مبنى المخابرات الحربية، التي يرأسها السيسي، ومنذ ذلك الوقت صار محتكراً لأجهزة المعلومات والاستخبارات، بعد أن أخضع جهاز أمن الدولة لسلطته، فبات تابعاً، مكسوراً ذليلاً، له.

عقب الانقلاب مباشرة أطاح السيسي برئيس المخابرات العامة اللواء رأفت شحاتة، وعين اللواء محمد فريد التهامي، رئيس ابن السيسي في الرقابة الإدارية، ثم تخلص منه في نهاية عام 2014 ليأتي بعده اللواء خالد فوزي الذي بدا مقرباً للغاية من السيسي، وسطع نجمه في ملف المصالحة الفلسطينية، ورافق السيسي في رحلته إلى الولايات المتحدة، حتى تخلص منه هذا الأسبوع، ووضع عباس كامل، كاتم أسرار السيسي، وصانع تسريباته، مكانه.

قبل أسبوع من إقصاء اللواء خالد فوزي من رئاسة جهاز المخابرات العامة، غرقت الساحة في مستنقع تسريباتٍ غامضةٍ، تخص من قيل إنه ضابط مخابرات حربية، يتواصل مع إعلاميين وسياسيين وفنانين وفنانات، يوزع المهام والتكليفات، ويمرر جملة خطيرة تحمل سباً واتهاماً لضباط في المخابرات العامة، بزعم تأييدهم لترشح أحمد شفيق.

تلقفت وسائل إعلام مناهضة لنظام السيسي التسريبات، باعتبارها صيداً ثميناً، يقض مضاجع السلطة، ويعريها، ويؤشر لما يلح عليه بعضهم من أن ثمة صراعاً بين الأجهزة يدور في مصر، وفي ذلك قلت رداً على سؤال: من وراء تسريبات نظام السيسي، فقلت:السيسي نفسه، ذلك أنه يعرف كيف يستثمر هذه التسريبات، ويوظفها على النحو الذي يمكنه من إحكام قبضته على جميع المؤسسات والأجهزة، من خلال عمليات تبديل وتغيير في الأشخاص، بما يتيح له نوعاً من الهيمنة المعلوماتية المطلقة، وعلى ذلك ليس من المستبعد أن تكون التسريبات الأخيرة كانت بمثابة”الشئ لزوم الشئ” أو السنارة التي اصطاد بها السيسي رئيس مخابرات عامة، ليدشن مرحلة عباس كامل.

يقول أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي (364 – 450 هـ / 974 – 1058 م)، وهو أكبر القضاة في نهايات عصر الدولة العباسية، في كتابه “تسهيل النظر”، وهو يتحدث عن ملامح الحكم في الدولة “وإِن الملك لجدير أَن لا يذهب عليه صغير ولا كبير من أَخبار رعيته وأمور حاشيته وسير خلفائه والنائبين عنه في أَعماله، بمداومة الاستخبار عنهم وبث أَصحاب الأخبار فيهم سراً وجهرا”.

عبد الفتاح السيسي مسكون بالهاجس التآمري طوال الوقت، وهو رجل أمن معلومات، أكثر مما هو عسكري نفذ انقلاباً وضعه على قمة الهرم السياسي، وبالتالي ينظر إلى كل ما حوله بعين الشك والحذر، ويدرك أن استقرار مسؤول في موقعه لفترة طويلة يمنحه قوة محتملة، وبالتالي لا يثق بأحد، إلا ظله، وصدى صوته، ومهندس صعوده إلى السلطة، رجل المخابرات الحربية عباس كامل.
هل يعني ذلك أن ثمة صراعاً بين الأجهزة في مصر؟

الوقائع تقول إنه ربما يكون هناك تململ من أفراد في هذه المؤسسات، لكن فرضية أن جهازاً، أو مؤسسة بالكامل، في صدام أو صراع مع السلطة تبقى أمراً غير مقطوع بصحته، ولو كان ذلك صحيحاً لسمع دوي الارتطام وتطايرت ألسنة لهب كثيرة في الأفق، والأوقع أن جنرال المخابرات الحاكم إنما يفعل كل ذلك، لتثبيت دعائم دولة المخابرات، قطعاً لطريق الوصول إلى مرحلة أن جهازاً، أو مؤسسة يفكر في التمرد.
دولة المخابرات دائماً قلقة ومضطربة ومتوترة ومرتابة، ويقول لنا التاريخ إن النكسات والانهيارات هي النتيجة الحتمية لتوحش مثل هذه الدولة.. واقرأوا تاريخ النكسة.


المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر