اللواء/ عادل سليمان

هل ما زالت الثورة مستمرة؟ سؤال يطرح بشدة، بعد مرور سبع سنوات بالتمام والكمال على انطلاق الموجة الثورية التي بدأت من تونس، وكان يوم الرابع عشر من يناير عام 2011 فارقاً فى تاريخ المنطقة العربية، عندما فر رئيس تونس، زين العابدين بن علي، مصطحباً أسرته، باحثاً عن ملاذ آمن يأوي إليه، لم يجده سوى في كنف عاهل العربية السعودية، بعد أن رفضت عواصم عديدة قبوله، وهبطت طائرته أخيراً في جدة. كان ذلك الحدث غير المسبوق بمثابة الشرارة التي ألهبت مشاعر الجماهير العربية التي كانت تتوق إلى الخلاص، ورأت في فرار بن علي دلالة على أن الشعوب قادرة على فرض إرادتها، إذا أرادت.


في الشهر نفسه، يناير 2011، وفي يوم 25 يناير، انطلقت جماهير الشعب المصري، رافعة شعار العيش والحرية والعدالة الإجتماعية، وسرعان ما تطورت الأمور، وازدادت حركة الجماهير حدة حتى وصلت إلى “جمعة الغضب” يوم 28 يناير، عندما انهارت أجهزة أمن النظام، ونزلت القوات المسلحة إلى الشارع، وتطورت الأمور حتى بلغت ذروتها يوم 11 فبراير/ شباط 2011، عندما تخلى حسني مبارك عن السلطة، وسلم الدولة للقوات المسلحة، ممثلة في مجلسها الأعلى.


سرعان ما انتقلت الموجة الثورية إلى ليبيا معمر القذافي، وسورية بشار الأسد، ويمن علي عبدالله صالح. فى ليبيا انتهى القذافي نهاية مأساوية بمقتله على يد الجماهير. وفى اليمن تدخلت العربية السعودية، ومجلس التعاون الخليجي، وفرضت مبادرة يتخلى بمقتضاها صالح عن السلطة. أما بشأن سورية فكان الأمر مختلفاً، فقد تشبث بشار الأسد بالسلطة، ودفع جيشه إلى قمع الجماهير التي تحولت إلى المقاومة المسلحة، وتحولت سورية إلى ساحة لصراع قوى إقليمية ودولية متعدّدة.

هكذا كانت بدايات الموجة الثورية، والتي بدت كأنها تبشر بتغييرات ثورية جذرية في جوهر “مآلات الموجات الثورية جاءت مختلفةً عما تم تقديره فى البدايات” النظم العربية المتكلسة، خصوصا وأن رياح الثورة بدأت تقترب من كراسيّ عديدة للحكم والعروش، وهو ما دفع بعضهم إلى إطلاق مصطلح “الربيع العربي” على تلك الموجة، وارتفع سقف توقعات المراقبين، كما ارتفع أيضاً سقف طموحات الشعوب التي تصورت أنها قاب قوسين أو أدنى من فرض إرادتها. ولأن الرياح لا تأتي دائماً بما تشتهي السفن، فإن مآلات الموجات الثورية جاءت مختلفةً عما تم تقديره فى البدايات. وعلينا مراجعة المشهد في كل دولةٍ على حدة بدقة، وأيضاً المشهد الكلي للمنطقة، وما وصلت إليه، بعد السنوات السبع التي مرت، منذ بدء ما اصطلحنا على تسميته الربيع العربي.

ما أن سقطت رؤوس أنظمة الحكم العتيدة، بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، وصالح في اليمن، واهتز كرسي بشار في سورية بشدة، وتصورت الجماهير أنها حققت أهدافها، أو كادت، حتى تحركت قوى الثورة المضادة بكل أطيافها، وبكل قواها الباطشة، لتوجه ضرباتها المتتالية إلى قوى الثورة الوليدة، حديثة العهد بالسياسة والحكم، والتعامل مع أركان الدولة العميقة، نجحت الثورة المضادة في كسر الموجة الثورية، ومنعها من السريان في أوصال الشعوب المتعطشة إلى الحرية، والكرامة الإنسانية، استخدمت الثورة المضادة في فرض إرادتها كل قواها الصلبة، كما حدث في الحالة المصرية، وكل قواها الناعمة، كما حدث في الحالة التونسية. واختلطت الأمور بشدة بين الثورة والثورة المضادة، وسادت بين الجماهير حالة من عدم اليقين، قامت فى ظلها نُظم حُكم تمكّنت من الإمساك بزمام الأمور بقبضة حازمة، وهي ترتدي ثيابا ديموقراطية مبتكرة، تعتمد على جمع التوقيعات على استمارات التأييد، وحشد الأتباع في تظاهرات التفويض، ثم البحث عن مرشحين افتراضيين للمنافسة في انتخابات استفتائية. وذلك كله مع إغلاق المجال السياسي أمام أي تيارات سياسية معارضة، أو غير مرغوب في تصدّرها المشهد السياسي، إما بالإقصاء والمطاردة، كما هو الحال مع جماعة الإخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي في مصر بعد اتهامهم بالإرهاب، ومع حركة النهضة في تونس، والتي تم تهجينها في إطار توافقي.

اختلف الأمر كثيراً في البلدان الأخرى التي هبّت عليها رياح ثورة الربيع العربي. تحولت سورية إلى ساحة صراع محلي، وإقليمي، ودولي. بشار الأسد وحكومته في دمشق والساحل السوري فى حماية روسيا وقواعدها العسكرية، مدعوما بإيران، وأذرعها المسلحة المتمثلة في حرسها الثوري، وحزب الله اللبناني. تركيا تسيطر على الشريط الحدودي لها مع سورية، وتدعم الجيش السوري الحر المعارض لبشار. ينظم الكرد، مدعومين بأميركا والتحالف الدولي، قوات سورية الديمقراطية، مليشيات وجماعات طائفية متطرفة من أطياف مختلفة ما بين القاعدة و”داعش”، وغيرها. والكل يقاتل الكل، وانتهى الأمر بملايين اللاجئين والنازحين، وملايين القتلى والمصابين.

أما اليمن الذي كان يوماً سعيداً فقد سقط في دوامة صراع قبلي، طائفي، إقليمي، وبادرت العربية السعودية إلى تكوين تحالف عربي خليجي بدعوى دعم الشرعية، وأطلقت حرباً ضارية تحت شعار “عاصفة الحزم”، أسفرت، في نحو ثلاث سنوات، عن تمزق اليمن بين الحوثي “علينا مراجعة المشهد في كل دولةٍ على حدة بدقة، وأيضاً المشهد الكلي للمنطقة، وما وصلت إليه” وأنصاره، مدعوماً من إيران، في صنعاء والحديدة ومناطق واسعة من الشمال اليمني، وبين حكومة الشرعية موزعة بين الرياض وعدن، تسيطر بدعم من التحالف على معظم مناطق الجنوب اليمني وأجزاء من الشمال، والأهم ملايين المشردين والقتلى والمصابين، وملايين الأطفال المصابين بالكوليرا. وعن ليبيا ما بعد القذافي وجماهيريته العظمى، فقد عادت مقسمة إلى أقاليمها الثلاثة التي كانت قبل وحدتها على يد الملك إدريس السنوسي منتصف القرن الماضي، شرق يسيطر عليه الجنرال المتقاعد خليفة حفتر في طبرق وبنغازي، وغرب فيه حكومة الوفاق المعترف بها دوليا في طرابلس، وجنوب تتنازعه القبائل والعشائر، ومبعوث أممي يسعى إلى جمع الفرقاء، وإعادة اللحمة إلى الكيان الليبي الممزق.

إذا ابتعدنا قليلا عن الدول الخمس التي هبت عليها رياح الربيع العربي، وما آلت إليه أحوالها، واتجهنا إلى باقي المكون العربي، من ممالك وجمهوريات وإمارات، فسنجدها قد شدّدت القبضة الأمنية، وأشهرت أسلحة الترويع في وجه شعوبها، حتى تمنع مجرد التفكير في معارضة السلطة.
يبقى السؤال شديد الأهمية، بعد استعراض المشهد العربي، هل لا زالت الثورة مستمرة؟ أو هل لا زالت الثورة ممكنة؟ ستبقى الإجابة معلقة بيد أجيال مقبلة تستوعب دروس ما جرى، وتتسلح بوعي وإرادة تجعلها قادرةً على استعادة ثورة لم يتمكن جيل سابق من استكمالها.


المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر