حنان السيد:


اشتعلت الحروب حولها صارت النار يمينا وشمالا حولها تحاول أن تلتهم كل ما هو ملك لها وقفت شامخة كالجبال صامدة
كأنها شجرة غرست من آلاف السنين هبت رياح المنافقين لتقتلع جذورها فانكسرت تلك الرياح أنَّ لها لتهزم صخرة ثابتة
صامدة رياح وبرق تقذف لتحركها ولتفتتها فانصهروا أمامها أحاط بها الأعداء الغرباء والأخوة ليفنوا تلك الصامدة فعجزوا
وولوا مدبرين خاذلين يا لها من ثابتة صامدة تلك القوية هذا الثبات تربت عليه النفوس في معسكرات الإيمان مجاهدة صابرة ثابتة تعلمت أن تظل عاملة مجاهدة في سبيل الله مهما طالت السنوات والأعوام وبعدت الأزمان حتى تلقى الله وقد فازت بإحدى الحسنيين والوقت جزء من العلاج وفيه : تهذيب للنفوس ، واصطفاء لها ، وتربيتها على مراحل أصعب ، واستعدادها لتحمل ما قُدِّر ؛
فإن الطريق طويل ومجهد ويحتاج لنفس طويل ولكن مع أرواح تثق في نصر الله واستعداد لهذا الطريق وتحملها وتفهمها لما يجرى
 وأن هذه الأمور سنن كونية تحتاج لرجال أسسوا على الفهم الصحيح والعمل بإخلاص وتفانى وتضحية ليستحقوا أن ينالوا نصر الله
 إما نصر في الدنيا أو نصر في الآخرة شهادة في سبيل الله ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب:23( رحم الله الشهيد سيد قطب عندما أمتعنا بأسلوبه الأدبي الراقي
وتفسيره للآيات وتصوره عن الثبات الذي عاشه وكان مثلا للأمة فعل وعمل وليس كلاما يكتب وينشر بلا عمل
عندما فسر قال في بيان ما اشتمل عليه قول الله تعالى : ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾: ( ...
وتنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة .. تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين
الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب ، وما كان يجره هذا الخلاف
من حروب ومتاعب وويلات . . يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة ، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة ،
وليكونوا لها أهلاً : أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم؛ وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر؛
وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة؛ حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم ، لم تزعزعهم شدة ، ولم ترهبهم قوة ، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة استحقوا نصر الله ، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله ، مأمونون على ما ائتمنوا عليه ، صالحون لصيانته والذود عنه .
واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل ، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء .
فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة ، وأرفع ما تكون عن عالم الطين ) الحياة العملية لسيد قطب تعلمك كيف يكون الثبات
على المبدأ واليقين في الخالق والتمسك بالحق لأخر لحظات العمر لتبدأ عمرا جديد يحمل رائحة المسك وجسد لا يتعفن
ولا يعرض لحساب يوم القيامة ويكون مع النبيين وحسن أولئك رفيقا يروي أحدهما القصة فيقول : هناك أشياء لم نكن نتصورها
هي التي أدخلت التغيير الكلي على حياتنا.. في السجن الحربي كنا نستقبل كل ليلة أفرادا أو جماعات من الشيوخ والشبان والنساء ،
ويقال لنا : هؤلاء من الخونة الذين يتعاونون مع اليهود ولابد من استخلاص أسرارهم ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأشد العذاب ،
وكان ذلك كافيا لتمزيق لحومهم بأنواع السياط والعصي ، كنا نفعل ذلك ونحن موقنون أننا نؤدي واجبا مقدسا ،
إلا أننا ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا أمام أشياء لم نستطع لها تفسيرا ، لقد رأينا هؤلاء "الخونة " مواظبين على الصلاة أثناء الليل
وتكاد ألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله ، حتى عند البلاء ! بل إن بعضهم كان يموت تحت وقع السياط ، أو أثناء هجوم الكلاب الضاريةعليهم  وهم مبتسمون ومستمرون على الذكر . ومن هنا.. بدأ الشك يتسرب إلى نفوسنا.. فلا يعقل أن يكون مثل هؤلاء المؤمنين الذاكرين
 من الخائنين المتعاملين مع أعداء الله . واتفقت أنا وأخي هذا سرا على أن نتجنب إيذاءهم ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ،
وأن نقدم لهم كل ما نستطيع من العون . ومن فضل الله علينا أن وجودنا في ذلك السجن لم يستمر طويلا.. وكان آخر ما كلفنا به
 من عمل هو حراسة الزنزانة التي أفرد فيها أحدهم ، وقد وصفوه لنا بأنه أخطرهم جميعا ، أو أنه رأسهم المفكر وقائدهم المدبر
 ( هو سيد رحمه الله ( وكان قد بلغ به التعذيب إلى حد لم يعد قادرا معه على النهوض ، فكانوا يحملونه إلى المحكمة العسكرية
التي تنظر في قضيته . وذات ليلة جاءت الأوامر بإعداده للمشنقة ، وأدخلوا عليه أحد الشيوخ !! ليذكره ويعظه !!
وفي ساعة مبكرة من الصباح التالي أخذت أنا وأخي بذراعيه نقوده إلى السيارة المغلقة التي سبقنا إليها بعض المحكومين الآخرين..
وخلال لحظات انطلقت بنا إلى مكان الإعدام.. ومن خلفنا بعض السيارات العسكرية تحمل الجنود المدججين بالسلاح للحفاظ عليهم..
وفي لمح البصر أخذ كل جندي مكانه المرسوم محتضنا مسدسه الرشاش ، وكان المسئولون هناك قد هيئوا كل شيء..
فأقاموا من المشانق مثل عدد المحكومين.. وسيق كل مهم إلى مشنقته المحددة ، ثم لف حبلها حول عنقه ،
وانتصب بجانب كل واحدة " العشماوي " الذي ينتظر الإشارة لإزاحة اللوح من تحت قدمي المحكوم..
ووقف تحت كل راية سوداء الجندي المكلف برفعها لحظة التنفيذ . كان أهيب ما هنالك تلك الكلمات التي جعل يوجهها كل من هؤلاء المهيئين للموت إلى إخوانه ، يبشره بالتلاقي في جنة الخلد ، مع محمد وأصحابه ، ويختم كل عبارة بالصيحة المؤثرة :
 الله أكبر ولله الحمد . وفي هذه اللحظات الرهيبة سمعنا هدير سيارة تقترب ، ثم لم تلبث أن سكت محركها ، وفتحت البوابة المحروسة ، ليندفع من خلالها ضابط من ذوي الرتب العالية ، وهو يصيح بالجلادين : مكانكم ! ثم تقدم نحو صاحبنا الذي لم نزل إلى جواره
على جانبي المشنقة ، وبعد أن أمر الضابط بإزالة الرباط عن عينيه ، ورفع الحبل عن عنقه ، جعل يكلمه بصوت مرتعش :
يا أخي.. يا سيد.. إني قادم إليك بهدية الحياة من الرئيس – الحليم الرحيم !!! – كلمة واحدة تذيلها بتوقيعك ،
ثم تطلب ما تشاء لك ولإخوانك هؤلاء . ولم ينتظر الجواب ، وفتح الكراس الذي بيده وهو يقول : اكتب يا أخي هذه العبارة فقط :
" لقد كنت مخطئا وإني أعتذر ... " . ورفع سيد عينيه الصافيتين ، وقد غمرت وجهه ابتسامة لا قدرة لنا على وصفها..
وقال للضابط في هدوء عجيب : أبدا.. لن أشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول ! قال الضابط بلهجة يمازجها الحزن : ولكنه الموت يا سيد... وأجاب سيد : " يا مرحب بالموت في سبيل الله .. " ، الله أكبر !! هكذا تكون العزة الإيمانية ، ولم يبق مجال للاستمرار في الحوار ،
 فأشار الضابط بوجوب التنفيذ . وسرعان ما تأرجح جسد سيد رحمه الله وإخوانه في الهواء.. وعلى لسان كل منهم الكلمة
التي لا نستطيع لها نسيانا ، ولم نشعر بمثل وقعها في غير ذلك الموقف ، " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله" . إن الثبات معنى عظيم
 من معاني الدعوة إلى الله فهو يدل على منهجة الفرد الصحيح ونشأته وتربية في جماعة صحيحة وهو ليس ثبات لنفسه فقط بل هو
 مثلا لمن حوله وصمام أمان وشجرة تزهوا بين الأفراد لتعطيهم الأمل واليقين وتأخذ بأيديهم لتخطى الصعاب وتجاوز المحن
فهو يقضى على فتنة المحن والطغاة الذين يفتنون المرء عن دينه فإن ثبات الفرد ويقينه وقوته في الحق لهى الانتصار بحد ذاته
ولنا أمثلة في غاية الروعة من القرآن الكريم : قول الله -عز وجل-: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)﴾ [البروج]. إن الثبات على طريق الدعوة الذي نسلكه لتمكين دين الله في الأرض ونشر دعوة
يحتاج منا الاستعلاء على الضغوط والإغراءات وعدم التنازل أو المساومة مع الأعداء وتحمل الصعاب وتحويل المحنة إلى منحة
فهي تهب من الله إلى عبادة المخلصين وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن: يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "
تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها نكتت في قلبه نكتةً سوداءَ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتةً بيضاءَ، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا؛ لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُربَّدًا كالكوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا
ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه" رواه أحمد ومسلم عن حذيفة مرفوعًا. نحتاج إلى الثبات وتثبيت من معنا إذا تأخر النصر
 ولنعلم أنها سنن كونية تجرى بمقادير الله وأننا ليس علينا إلا العمل والنصر من عند الله ينزله على عبادة متى شاء
وأن أمورنا كلها خير يقول الشهيد سيد قطب: "سنة الله في الدعوات واحدة كما أنها وحدة لا تتجزأ.. دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب، وتتلقى أصحابها بالأذى، وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى.. وسنة الله تجري بالنصر في النهاية
". إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح"
ليعلم الجميع أن دعوة الله ماضية في طريقها وإن تخلينا نحن عنها استبدلنا الله بقوم أعز منا وذو قوة ويقين اعلموا أن العالم كله
يقف أمامكم لأنه يعرف جيدا قوتكم وجلدكم ويقينكم وثباتكم فكونوا أهلا لحمل الأمانة والمضي في طريق الدعوة والاستمتاع بجهاد
 في سبيل الله فهي نعمة يرزقها الله لعبادة المخلصين إن ثباتك ويقينك لهو القوة التي لا تقهر والتي جمعت أعداء الإسلام أمامكم عاجزون بكل أسلحتهم وإمكانيتهم للقضاء عليك اخترنا طريقا لحمل دعوة الله فوق الأعناق والتضحية بكل ما نملك لإعلاء كلمة الله
فكن رجل مواقف بثباتك على الحق حتى لو كنت وحدك في الطريق فثباتك لوحدك يأتي إليك بأفواج ليحملوا راية الجهاد معك
هذا هو الطريق : إيمان وجهاد . . ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . . وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم..


المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر