السعيد الخميسي:

 

* إن عصر الجاهلية الأولى قبل الإسلام رغم ما فيه من ظلم وظلام وجرائم وحروب ورايات حمر ونكاح استبضاع  ووأد البنات قد عم فيه وشاع , إلا انه اشتهر بحلف الفضول " الذى لا يوجد مثله اليوم فى عالمنا المتحضر كله رغم "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي تم اعتماده فى عام 1948 وتم ترجمة تلك الحقوق إلى خمسمائة لغة , والذي ينص مادته الأولى على مايلى " يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء".   ومازال هذا الميثاق حبرا على ورق مادام الدم الذي يراق دما عربيا مسلما خالصا , ساعتها ستغمض الأمم المتحدة عينيها  وكأنها تقول للمعتدين المجرمين كلوا واشربوا  هنيئا مريئا من دم ولحم العرب والمسلمين . هل يستطيع العالم اليوم بمنظماته وهيئاته وخبرائه وعلمائه ومفكريه وكتابه تشكيل حلف فضول جديد يمنع فيه سفك الدماء وقتل الأبرياء  واغتصاب النساء وقتل الأطفال الرضع والشيوخ الركع؟ هل يستطيع العالم اليوم تشكيل حلف فضول يحرم فيه قتل المدنيين العزل بالأسلحة الكيماوية  والقنابل الفوسفورية؟ هل يستطيع العالم اليوم تشكيل حلف فضول يحرم فيه الاضطهاد العرقي على أساس الدين أو اللون أو اللغة ؟ هل يستطيع العالم اليوم تشكيل حلف فضول يحرم فيه تجارة الجنس والبغاء والدعارة والعرى والسفور وإدمان المخدرات ؟

* والمعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حضر هذا الحلف قبل البعثة وهو فى سن العشرين وقد أشاد به بعد بعثته وقال عنه " لو دعيت إليه فى الإسلام لأجبت " . وهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على أن القيم الايجابية والمبادئ الأخلاقية يجب الإشادة بها حتى ولو صدرت من أهل الجاهلية. أرأيتم كيف....؟.كان هذا الحلف الأخلاقي بمثابة الرقعة البيضاء فى  ثوب الجاهلية الأسود , ووردة حمراء فى حقل ممتلئ بالأشواك . أين أخلاق العالم المتمدن المتحضر اليوم من مبادئ حلف الفضول الجاهلي ؟ إننا اليوم نقتل ونحرق ونسرق ونسجن فى شتى بقاع الأرض ولا حياة لمن تنادى .إن العالم المسمى اليوم بالعالم الحر وكأني بهم وقد وضعوا أصابعهم فى أذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا على استئصال شأفتنا وخلع جذورنا من باطن الأرض السابعة . إن حلف الفضول الجاهلي" شهادة " على أن أهل الجاهلية كان عندهم بقية من أخلاق لو توافرت فى كثير من نخبتنا ومثقفينا وخبرائنا وكتابنا وأحزابنا اليوم لكان خيرا لهم وأقوم . إن الجسد السقيم لايخلو من عضو سليم , والنفق المظلم المعتم  قد تكون فى نهايته إشارة ضوء حتى ولو كانت خافتة باهتة . وإنما يقاس الفرق بين الجاهلية والمدنية بقدر انتشار قيم الخير والحق والحرية وصيانة حقوق الإنسان فى عالم ساد فيه  , بل وغلب عليه ثقافة النسيان وألسنة حداد لا تجيد غير الثرثرة والهذيان وعبادة الأوثان مثل تلك التى كانت فى الجاهلية الأولى..!  .

* وترجع حكاية  "حلف الفضول " فى عصر الجاهلية الأولى إلى أن رجلا غريبا  من  " بني أسد بن خزيمة " قدم أرض مكة بتجارة فاشتراها منه" العاص بن وائل السهمي " وكان سيدا فى قومه , غير أنه أبى أن يدفع ثمن تلك البضاعة فاستجار الرجل ببعض سادات قريش ولكنهم رفضوا مساندته ومساعدته لمكانة " العاص " بينهم . فتفتق ذهن الرجل الغريب عن فكرة فعالة وهى الذهاب إلى مكان اجتماع عشائر مكة عند " البيت " وانشد شعرا حرك فيهم مكنونات المروءة وآثار فيهم نعرات الشهامة وحرك فى دمائهم عصبية القبلية التي كانت تغلي فى عروقهم  . فما كان منهم إلا أنهم اتفقوا فيما بينهم على تشكيل " حلف الفضول " وقرروا فيه على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرها ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا معه على من ظلمه حتى ترد إليه مظلمته . انتصروا للمظلوم فى عهد الجاهلية , ونحن اليوم فى عصر المدنية نعجز عن نصرة مظلوم احتلت أرضه , وانتهك عرضه , وسفك دمه . نحن اليوم فى مصر , بل فى عالمنا العربي والاسلامى فى حاجة ماسة وملحة وعاجلة إلى أن نرتقى سياسيا وأخلاقيا وسلوكيا لنجتمع سويا على كلمة سواء  كما اجتمعت قبائل وعشائر مكة لنضع ميثاق شرف مشترك للعمل السياسي والإعلامي والأخلاقي على ألا يظلم أحد ولا يقتل ولا يحبس حبسا احتياطيا مدى الحياة ولايتهم بدون وجه حق . فهل إلى ذلك من سبيل...! إن شيوع الفساد وترنح البلاد ويأس العباد لايعنى مطلقا خلو الوطن من الفضائل . ولا يعنى أبدا أن الرذائل فيه تحكمت والمصائب فيه تغلغلت وأن طرق الإصلاح قد تبددت وأن سبل لم الشمل قد تآكلت..! كلا... وألف كلا....فالخير فى نفوس هذه الأمة باق وإن طغت أمواج الشر وفاضت . والأمة لن تخلو يوما من الرجال ففى هذه الأمة  مناجم للرجال كمناجم الذهب لا يحجبهم عنا إلا غبار الزمن .


* لا نريد لوطننا ولأمتنا إلا الخير والأمن والاستقرار . ولن يتحقق هذا بالشعارات الجوفاء والاغانى البلهاء والأمانى العرجاء . لن يتحقق هذا إلا برد المظالم إلى أهلها بالتحقيق والتدقيق وفتح ملفات كل المظلومين الذين لا ناصر لهم إلا الله . لان صاحب الحق الذي لم يرد إليه حقه , سيظل قلقا ساخطا ناقما  حتى يرد إليه حقه . كم فى عالمنا العربي وغير العربي اليوم من الذين أريقت دماؤهم وقطعت رقابهم ويتمت أطفالهم ورملت نساؤهم ولم يجدوا من  يرد إليهم مظالمهم . لقد ضاع الحق بين أكوام الباطل. وكما قيل لعن الله قوما ضاع الحق بينهم . فكيف تفتش عن هذا الحق بين أطلال هذا الركام ؟ . كم فى عالمنا العربى اليوم من فضائيات مأجورة وأفواه مسعورة وألسنة من عنقها مسحوبة ومجرورة , تقلب الباطل حقا , والحق باطلا , وتجعل الجاني هو الضحية , والضحية هو الجاني...! تغسل يد القاتل والدم يقطر من كلتا يديه , تطهر فم الجاني ولحم القتيل مازال بين أنيابه وأسنانه ..! تبحث عن ورقة جافة صفراء باهتة شاحبة تستر بها عورة الذين عاثوا في الأرض فسادا وإفسادا . لو كان عندنا " حلف الفضول " مثل هذا الذى كان فى الجاهلية , ما وصلنا إلى هذه الحالة من القلق والخوف والاضطراب والفوضى والقتل والتخريب والتدمير . إن العدل هو الحصن الحصين والسور الذي يحمى البلاد والعباد من شر الفرقة والانقسام والتشرذم وشلالات الفوضى العارمة التى ما أتت على شئ إلا جعلته كالرميم .

* ألا يستحق كل ما سبق ذكره من مآسي ومصائب وكوارث أن نسعى جاهدين لتشكيل " حلف الفضول العربي " فى كل قطر فى عالمنا العربي والإسلامي لرد الحقوق إلى أهلها لكى يعلم الضعيف أنه قوى حتى يسترد حقه , ويعلم القوى أنه ضعيف حتى ينتزع الحق منه   . يجب أن يلتقي أهل الخبرات والسياسات وأصحاب الآراء النيرة والأفكار المستنيرة والعقول البارعة من كل الاتجاهات ومن مختلف الأيدلوجيات ومن شتى الأحزاب ومن مختلف الجبهات , لا أقول لكى يتخلى كل عن وجهته وعن أيدلوجيته وعن جبهته وان ينصهروا جميعا فى رأى واحد وقول واحد وحزب واحد ,فهذا بعيد المنال وبعيد بعد المشرقين . ولكن فقط لكى يضع بل ويتفق الجميع على ميثاق " الشرف السياسي " تنص مادته الأولى على حفظ كرامة الإنسان وماله وعرضه وشرفه .ومجابهة الاضطهاد العرقي على أساس الدين أو اللغة أو اللون أو الجنس . والتعهد برد المظالم إلى أهلها عبر آليات قانونية ودستورية واضحة وشفافة . إن عالمنا العربي بصفة عامة ومصر بصفة خاصة فى حاجة إلى الأمن والأمان والاستقرار , ولن يتحقق ذلك ومازالت دماء الشهداء تسيل كل يوم فى كل شبر فى عالمنا العربى ظلما وعدوانا , ومازالت أنات المقهورين تخترق عنان السماء , ومازالت القوة فوق الحق بلا حياء , ومازالت شرائح غير قليلة تبحث عن كسرة الخبز فى صناديق القمامة السوداء , وآخرون انتفخت بطونهم وعلت حتى أغلقت الطرق والنواصي والطرقات . إن تشكيل  "حلف الفضول " هو الطريق الأمثل لضمان حماية عالمنا العربي ووطننا مصر من التصدع والشقاق والانزلاق والانحدار إلى حافية الهاوية . فهل إلى ذلك من سبيل ؟ اللهم بلغت , اللهم فاشهد . والله من وراء القصد والنية .
 
 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر