بقلم : د.سيف عبدالفتاح

 ذات يوم، وفي وثيقة الأزهر الشهيرة، خاض شيخ الأزهر معركة مع الجناح العلماني الموصوف زوراً بالتنوير، حول وصف الدولة بأنها "مدنية"؛ وذلك من جرّاء أن بعض هؤلاء العلمانيين الذين لا يصبرون على الكلمات، قد أفصحوا عن أن مقصودهم من كلمة (مدنية)؛ هو: secular؛ أي علمانية (من كلام: جابر عصفور وزير ثقافة  شفيق سابقاً، السيسي حالياً)، مبرراً ذلك أن كلمة "علمانية" صارت ذات مدلولات سلبية لدى عموم الناس في مصر؛ ومن ثم يفضل وصف "المدنية" باعتباره كوداً وشفرة لوصف (العلمانية). 


ومن هنا قام شيخ الأزهر من فوره، ومعه بعض الأساتذة الأجلاء ليخوضوا معركة حول وصف مصر كدولة ب "المدنية"؛ خاصة إذا ما حُملت الكلمة على ما أرادوا أن يموهوه ويزوروه.. وبدلا من ذلك، وضعت مجموعة من الأوصاف تعبر على أن (مصر دولة وطنية ديمقراطية قانونية حديثة)... على اعتبار أن تلك هى الأركان التي تصف دولة العصر في هذا التاريخ... وفي حينه شكر له الناس أن قام بذلك ولم يخضع في معركة لم تعد في ذلك الوقت مجرد معركة فكرية أو أيديولوجية، ولكنها ضمن عناصر صياغة هوية الدولة ومرجعيتها.

واليوم يصدر الحديث تلو الحديث من جانب بعض هؤلاء ممن يدّعون الثقافة أو تمثيل المثقفين، يتحدثون عن علمانية الدولة والشعب والوطن في مصر، وأن فطر الناس مع (علمانية الدولة والشعب). قالها "النمنم"، وقالها بعد ذلك طابور من هؤلاء المتصدرين ثقافيا وإعلاميا من بعده، يحاولون الإشارة من كل طريق إلى (علمانية الدولة لا إسلاميتها).

إلا أن الطامة الكبري حينما يأتي هذا الوصف ممن يدعى "رأس الدولة" بعد انقلاب العسكر، فيقول بلا مواربة: إن مصر دولة علمانية تارة بالتصريح وتارة أخرى بالتلميح وضمن فحوى الخطاب والتصور حول الدين، لا مكان للدين في حكومتها... وبدا ذلك مصحوباً بسلسلة من التصريحات التفصيلية حول تصوره للدين وعلاقته بالدولة، صبت كلها ضمن مسارات تتعلق بتأميم الدين واحتكاره والاستيلاء عليه واغتصاب التحدث باسمه، في مقولات عجيبة وغريبة لا يمكن أن تمرّ هكذا على شيخ الأزهر: الإمام الأكبر الذي خاض معركة من قبل، نقول اليوم إنها كانت هينة فى وقتها مقارنة بما يقال الآن في وصف مصر بـ(العلمانية).

وهنا وجدنا الشيخ ساكتاً مختفياً، كأنه يعلن مع كل أزمة أنه قد اعتزل وذهب إلى بلده كما ذكر من قبل، مقلداً في ذلك الأنباوات حينما يغضبون أو يختلفون مع الدولة فيعتزلون أو يعتكفون، في أديرة وادي النطرون و سانت كاثرين أو غيرها؛ تعبيراً عن احتجاجهم. ولكنه في هذه الحالة للأسف الشديد طالت غيبته، ولم نسمع له تصريحاً أو تعليقاً على أوصاف مباشرة أطلقها رئيس الدولة المزعوم. فما نطق بكلمة، وما علق بحديث، وما تحفظ، وما فسّر ولا أوّل .... ولكنه صمت صمت القبور.

يا شيخ...

بالله عليك، أليست تلك بالمعركة الحقيقية التي يجب أن تخوضها في إطار مؤسسة الأزهر التي تتكفل بهذا الشأن وتحرص على الوصف الدقيق لهوية مصر كما أرادت وكتبت في وثيقتها؟!!
ومن العجب العجاب أن يتطوع هؤلاء الراقصون في موكب الانقلاب، وجوقة سلطة الاستبداد، ويتحدثوا عن واحد من مظاهر (أخونة الدولة)، ويقولوا إننا ما اشتركنا فيما تم في 3 يوليو إلا لأن هؤلاء كانوا يريدون تغيير هوية مصر.

أيها الشيخ...

نرجو منك، بل وجب عليك، أن تخرج بياناً واضحاً شافياً كاملاً قاطعاً مبيناً حول هوية الدولة، ولا نطلب منك أكثر من أن تلقي على مسامع أولئك المثقفين الأدعياء والرؤساء المدّعين ذات الكلمات التي ضمنتها وثيقة الأزهر بصوت عال يُسمع كل أحد.

أيها الشيخ...

لست أنا من يقول لك: إنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة إليه، وأن تأخيره لا يجوز، وقد تأخر كثيراً حتى خاض من خاض وتبجح من تبجح. صار منهم من لا يتحدث فقط عن هوية الدولة، بل يتحدثون أيضاً عن الأزهر نفسه بوصفه (مؤسسة كهنوت) هكذا يقول مثقفو الانقلاب، وأنه لا سلطان لهذا الأزهر على أحد، وخاصة عليهم، وأنه إنما هو مؤسسة حكومية تأتمر بأمر الحكومة وتعمل بغبغانا لها (!) تردد الكلام الذي تريده الحكومة: كيفما تريد ووقتما تريد.

وكذلك وجب عليك –أيها الشيخ- ألا تكتفي بذلك البيان العابر من باب إبراء الذمة، كالذي صدر عن وكيل المشيخة، أو مقالات يكتبها مستشار لك يرد على من يتهمونك بالتأخون؛ لأن من خرجت عنه الهجمات على الدين كما ذكرها وكيلك، ومن يوجه الاتهامات لمؤسستك ليل نهار، ليس شخصاً مثقفاً حرًّا يمثل نفسه كما كان، بل هو المسئول الأول عن ثقافة المصريين وعقولهم ومشاعرهم، كوزير لوزارة ثقافة الانقلابيين، فإذا لم تقم في ذلك، فما الذي يمكن أن تقوم به على الأرض وفي عالم الواقع، حتي يطمئن الناس أن للأزهر شيخاً، يدافع عن حياض الهوية والمرجعية الإسلامية لمصر؟!
ما يمنعك يا شيخ من أن تقوم بهذا، في هذا الوقت بالذات، معلناً أمام رئيس مزيف عبّر بكلام أقل ما يقال فيه: إنه يحدد هوية لمصر لا تعرفها، سوى أن تكون "عسكرة للدولة والمجتمع"... معلنا أن مصر مدنية لا عسكرية، وإسلامية لا علمانية، وواحدة لا مقسمة بين شعبين وربين ورسولين وإسلامين: إسلام جميل تعرفه الفنانات والراقصات، وإسلام غير جميل يعدم لأجله علماء ودعاة ويلقى بهم في غياهب السجون أو يطاردون!!

يا شيخ...

هل تعلم أن معركة (كلمة المدنية) التي كانت أهون علينا من كلمات أخرى، صدرت من سلطة الأمر الواقع ومن طابور المثقفين المدعين علمانية الدولة، ولم تحرك أنت ساكناً ولم ترد غضب غاضب؟.. هل يمكنك أن تدلي لنا بتفسير أو تبرير حول وجود هذا الخطاب، ومحاولة عملقته وتوسيعه وفرضه على عموم الناس وأهل مصر؟

أليس هذا أولى من دورك في الترويج لمشاريع نظام الانقلاب، كما أيدت من قبل (مشروع نهضة مرسي) علنا وبالصوت العالي في إفطارك معه في رمضان؟ ،وكنت وغيرى من الحاضرين، ليس مقامك أن تمنح البركات للمشروعات لكل من استدعاك.. مقامك أن تميز المشروعات شرعا من الممنوعات شرعا، وألا تكتم علما، ولا تبرر ظلما، ولا تسكت عن إساءة إلى الإسلام.

لست أنا أو غيري ممن يدلونك على دورك الذي يجب أن تقوم وتضطلع به، حينما يجدّ الجدّ، وحينما نصل إلى تنازع مقيت على هوية مصر.. وجب أن يكون للأزهر وشيخه كلام واضح وصريح في هذا المقام،أم أننا فى كل مرة سنتعلل بارتكاب أخف الضررين تارة تبريرا وتارة أخرى تهربا، المهم ياشيخ هذه المرة ألا يتأخر فيه البيان؛ لأن تأخير البيان من شخص منوط به البيان هو نوع من السكوت عن الحق ومن الكتمان، وهو ما يوقع الساكت عنه في دائرة الحرام، لا دائرة الجواز والمباح: 
((الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله))

إن مصر-بهويتها ومرجعيتها وشعبها وعلمائها وفطرة أهلها- تستند إلى شرعة الإسلام، غير مستهينة بأي أديان أخرى، مقدّرة لها ولأهلها في سياق جامع المواطنة فيها: لهم مالنا وعليهم ما علينا.
أما هؤلاء الذين يتلاعبون بجوهر حقيقي لهذا البلد، فنقول لك ولهم: إن هذا الشعب لن يستهين بهويته أو مرجعيته.. ومهما فعلتم لن يقبل المصريون مصر علمانية!، لأننا ندرك مواقع ومقام التمييز بين الديني والسياسي. 

سيقول البعض إننا من هؤلاء المفلسين الذين دائما حين تأتي الأزمات، وتكون من طبيعة سياسية، فإننا نحاول أن نقولبها ضمن أزمة الهوية، ونستدعي قضية الهوية من كل طريق لاستنفار عموم الناس .. 

نقول لكم: إن حديث الهوية أنتم من طرقتموه في الآونة الأخيرة بكل اجتراء وافتراء، وبكل بجاحة وتناحة، حينما يخرج رأس انقلابكم ليصف هوية مصر زورا وبهتانا بالعلمانية، ويخرج رئيس الوزراء الانقلابي ليؤكد نفس المعنى، وتخرج جوقة الإعلاميين من سحرة فرعون -قبل إيمانهم- ليروجوا لهذه الأقوال والمواقف والأفعال ...

خسئتم...مصر لن تكون علمانية!!!

يا شيخ... 

أقولها لك -وبما صدر عن لسانك من قبل؛ وسمعته منك بأذني وقرأته لك مكتوبًا واضحًا-: إن مصر لن تكون علمانية.