* الدماء والأشلاء والثبات والإيثار أهم مظاهر ميدان رابعة والمستشفى الميداني إبان مجزرة المنصة

ولأن للمجزرة وجها آخر؛ كان لا بد من رصد طبيعة المستشفى الميداني التي استقبلت الشهداء
والمصابين، وكذلك أحوال الميدان والمعتصمين فيه.
 
بداية تقول ضحى نزار -طالبة-: رغم أني لم أكن في مكان المجزرة، وكنت وقتها بداخل الميدان، لكني أستطيع أن أقول إني رأيت يومها الكثير من معاني الإيثار والأخوة تتجسد أمام عيني؛ فقد رأيت الشباب وهم يركضون في اتجاه المنصة كي يقوموا بإسعاف أحد المصابين، أو يحضروه إلى المستشفى الميداني، وفي خمس دقائق يتحول هذا المسعف إلى مصاب.
رأيت الأمهات تنهار وتتألم عندما تعلم أن زوجها أو ابنها مصابا، في حين كانت تسكن ويتنزل عليها الصبر والاحتمال عندما تعلم أنه شهيد.
رأيتهم يضطرون إلى إخراج المصابين بإصابات بسيطة من المستشفى الميداني لأنهم مضطرون لإدخال إصابات أشد وأعتى، حتى إن خيام الاعتصام تقريبا يومها أصبحت فارغة إلا من المصابين فقط، ويومها أيضا رأيت أن المصابين بإصابات بسيطة يرفضون مساعدة أحد أو أن يحملهم أحد، حتى تفرغ تلك الطاقات للإصابات الخطيرة.
تتابع "نزار": كان الميدان كله يومها عبارة عن روح سارية من الإخاء والتضحية، وكانت الفتيات جميعهن كن يساعدن إما في الإسعاف للحالات البسيطة أو في أي شيء آخر، فالجميع كان له دور. والأهم أن الجميع كان مُصرًّا على استكمال الاعتصام وتحقيق المطالب، فقد أدت الدماء إلى عكس مأربهم منها، فقد أردوا أن يخيفونا، لكن الدماء زادت الجميع إصرارا وقوة.
 
وفي شهادة أخرى تذكر "دعاء أنور" -طالبة-: كنت بالميدان أنا وأمي وأبي، ثم فجأة وبعد بداية الضرب عند المنصة، في لحظات نشط الميدان واستيقظ كل من فيه، وتم فتح طريق للاسعاف، وهنا بدأت تتوالى الجثامين والإصابات، بأعداد هائلة.
الحقيقة حتى ذلك الحين لم أكن أدرك حقيقة الموت، بل كنت أخاف من الموت جدا، أو بمعنى أصح كنت فعلا في غاية الرعب، وكنت أول مرة بالفعل أقول لأمي إني "مرعوبة جدا"، ونصحتني أمي بالوضوء وصلاة ركعتين توبة واستغفار.
تتابع: بعدها قالت لي إحدى الفتيات إن علينا أن نجمع كل ما لدينا من أقشمة وأغطية أو ما شابه علها تصلح في المستشفى الميداني، وبالفعل مررنا على الخيام وجمعنا منها كل ما يمكنه أن يصلح، وذهبنا بهذا كله إلى المستشفى، وهناك كان هول ما رأيت؛ فقد رأيت بحورا من الدماء لم أر مثلها قط، وكانت الدموع تنهمر من عيني دون أن أدري، أنهيت مهمتي وخرجت من المستشفى بعد أن رأيت فيها أطهر الناس؛ فقد رأيت شهيدا يحمل شهيدا، ومصابا يأخذ بيده شهيدا.
 
الأشلاء المبعثرة والدماء
ومن جهته يؤكد معاذ عبد الرحمن -مهندس-: لم أتواجد في الميدان إلا في الصباح، قبل وقف الضرب بساعة تقريبا، في حين أصيب أخي بطلق حي في القدم في تلك المجزرة البشعة.
يضيف: من أقسى المشاهد التى رأيتها عندما كنت أحاول الدخول إلى المستشفى الميداني برابعة؛ حيث أوقفت السيارة الخاصة بي أمامها لكي آخذ أخي إلى مستشفى خارجي بعد علمي بإصابته ووجوده بالداخل، وهناك وقف أمامي "موتوسيكل" بشاب رأسه مفرغة تماما ومخه كله غير موجود، وقد كان هذا من أبشع المناظر التى رأيتها.
 
أما إبراهيم طارق -طالب- فيذكر أنه رأى عددا من المشاهد لا يستطيع أن ينساها؛ حيث يقول: كان دوري أن أقوم بوظيفة التأمين في المستشفى الميداني، وهناك وأثناء توالي الإصابات في يوم المجزرة رأيت مصابا بالرصاص في مؤخرة رأسه،  بحيث كانت أجزاء من مخه على يديّ، في حين كان قلبه ينبض حتى فارق الحياة، وقد كان الطبيب يقف أمامه عاجزا لا يعرف ماذا يفعل!! كان الطبيب يبكي بكاء العجز؛ وفي حين كنت أصرخ وأقول له إنه مازال على قيد الحياة، كان الطبيب ينظر لي ويبكي ويقول ماذا أفعل ..."خلاص.."، انقله إلى غرفة الشهداء"، وأنا بدوري أصرخ وأقول: "كيف أنقله إلى غرفة الشهداء وهو ما زال ينبض بالحياة"، وظللنا على هذه الحالة إلى أن فارق الشاب الحياة. ولا أستطيع يومها أن أنسى أن أهل هذا الشاب وبالتحديد أخاه كان يقف ويرجو الطبيب أن يفعل أي شيء.. "اعمل أي حاجة بالله عليك! أخويا هيموت!" في حين أنه قد أسقط في يد الطبيب ولم يكن في استطاعته فعل شيء.
ويتابع "طارق" وهناك مشهد آخر أيضا لا أستطيع أن أنساه، وهو أننا وأثناء نقلنا هذا الشهيد من القاعة إلى غرفة الشهداء، وفي الممر الواصل بين القاعة والغرفة، كان مصور الجزيرة يتبعنا ويصور هذا الشهيد، وبعد أن وضعناه في غرفة الشهداء، أخذ المصور يسجل أشكال الإصابات والأشلاء، وعندما وضعنا هذا الشهيد الذي كان معنا والذي كان مخه خارجا عن رأسه، وبدأنا في تغطيته بالقماش، هنا وجدت بعض أجزاء من مخ هذا الشهيد على ملابسي، وجمعنا تلك الأشلاء ووضعناها فوق الجثمان، وأثناء خروجنا وقع المصور على الأرض، وألقى بالكاميرا من يديه، وأخذ يبكي بحرقة، من هول ما رأى.
يتابع "طارق": أما المشهد الثاني، فقد احتاج الأطباء إلى طبيب تخدير، فخرجت وذهبت إلى المنصة وطلبت منهم أن ينادوا على طبيب تخدير للتطوع في المستشفى فوار، وبالفعل جاءتنا طبيبة، وأدخلتها إلى المستشفى الميداني، ولكنها وما إن نظرت إلى مشاهد الدم والإصابات إلا وتجمدت في مكانها، وفي لحظتها نادى أحد الأطباء قائلا: "تخدير تخدير"، فنبهتها وقلت لها: "يا دكتورة الحالة دي بسرعة.. بسرعة"، فبدأت تهرول وأخذت "سرنجة" وبدأت تجهزها والدكتور يقول لها بسرعة..بسرعة. أتذكر تقريبا أن الإصابة للمريض كانت في الرأس أو ما يسمى بمربع الموت!!
وكان الطبيب يحاول إسعاف المصاب، وهي تحاول أن تستجمع قواها لتُدخل السرنجة في يد المصاب ولا تستطيع، فظلت ترتعش وتنتفض من مشاهد الأشلاء، ومن مشهد المصاب أمامها..حتى أدخلت السرنجة أكثر من ست مرات بطريقة خاطئة، وظلت كذلك حتى استشهد المصاب لأن اصابته كانت خطيرة، وقال لها الطبيب "خلاص يا دكتورة..."، وقال لي: "انقله إلى غرفة الشهداء"..!!
 
أما الطبيبة فقد ظلت تمسك بيد الشهيد، وتحاول ادخال السرنجة، وهي تبكي بكاء هيستيريًا والدكتور ينبهها ويقول: "خلاص يا دكتورة"، وظلت كذلك في حال انهيار، وقمنا بإخراجها من المستشفى، فلم تستطع المسكينة أن تتحمل أكثر من دقائق عدة في رؤية تلك الدماء والأشلاء.
والحقيقة أنها لم تكن هي فقط التي حدث لها ذلك، فقد كان هناك الكثير من الأطباء أصيبوا بانهيار في نصف اليوم تقريبا، ولم يستطيعوا إكمال دورهم. وهناك من تلك المشاهد الكثير -يردف طارق- فمثلا أحد الشباب قد أخذ دلوا يملأ فيه الدماء من فوق الأرض ويضعها في دلو آخر أكبر؛ فالدماء يومها كانت مثل البحر فعلا.. وبين الحين والآخر نستخلص من تلك الدماء بعض الأشلاء.
 
الشهيد الحي.. ونداء الواجب
وفي شهادتها أيضا تقول "شيماء منير": بدأ الضرب والاعتداء من قبل قوات الداخلية والبلطجية تقريبا من الساعة 11 مساء يوم 17 رمضان، وقد كان مكاني في المركز الإعلامي بداخل اعتصام رابعة، وقد كنا وزملائي هناك نشعر بتقصير شديد، لأننا لم نكن قادرين على عمل أي شيء، في حين أن عدد الشهداء والمصابين كان آخذا في الزيادة، في البداية ظننا أن الأمر سيأخذ ساعتين مثلا وينتهي، ولكن توالت الساعات، ولم ينته.
تضيف: كان المصورون يذهبوا لتأدية عملهم عند مكان الحدث، فيعودوا مصابين، ثم يصرون على العودة ثانية لاستكمال مهامهم، بمن في ذلك المصورات من الفتيات، فقد أصررن على الذهاب رغم الهجوم الشديد، وشدة القصف.
أما عن دوري، فقد كان حينها هو أخذ المتوافر من معلومات وبيانات ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي لإطلاع العالم كله على حقيقة المذبحة.
استمر الأمر كذلك حتى جاء وقت السحور والضرب ما زال على أشده، وقد علت وجوهنا جميعا في المركز الإعلامي علامات الذهول والدهشة، بل والشعور بالتقصير وقلة الحيلة، لعدم مشاركتنا في الأحداث بشكل مباشر، وهنا بدأت في تغيير شيء من حركتي ودوري، فقد شجعت أخي أن يذهب للتصوير، وبالفعل أخذ الكاميرا الوحيدة التي كانت معي، وذهب ليقوم بالتصوير للمرة الأولى في حياته؛ فيحين استعرت أنا كاميرا من صديقة لي، ثم اتجهت بها إلى المستشفى الميداني، وهناك جاهدت بشدة خوفي من الدماء، وتحاملت على نفسي لأرى ما لم أكن أظن أني أراه في حياتي، وهي المشاهد التي ما زالت تؤثر على حتى الآن حتى أكاد أشم رائحة الدماء في أنفي.
تتابع "منير": في المستشفى الميداني، ذهبت هناك لأصور ما لم أكن أتوقعه ولم أره من قبل لا في أفلام الرعب أو أفلام دراكولا الأشهر في الدموية والإخافة، فقد كانت هناك أشلاء وليست إصابات عادية؛ رأيت الأحشاء كانت تتدلى من جثامين الشهداء؛ ثم فجأة تزايدت أعداد الجرحى والمصابين والشهداء وازداد معها بكاء الأمهات والآباء والأصدقاء، رأيت صديقا يحمل صديقه الشهيد، ورأيت أبا يبحث هنا وهناك عن ابنه الذي لم يعرف مصيره بعد، ورأيت الأم التي تزغرد حين ارتقى ابنها شهيدا بإذن الله، كذلك فقد رأيت الآباء والأمهات يطردون صحفي "اليوم السابع" حين علموا أنه صحفي في جريدة كهذه حيث يرى مثلنا جميعا ويصور تلك الأشلاء ثم يكتب: "انظر ماذا فعل الإخوان بالأبرياء"!!
تضيف منير: امتلأت المستشفى والغرف المجاورة لها؛ فقد كان المصابون والشهداء من الكثرة بحيث افترشوا الطرقات والأرض، ولم أكن أجد بقعة من الأرض فارغة لأقف عليها وأوثق بالصور الشهداء، فكافة الأماكن مليئة، ولا مكان سوى لشهيد أو مصاب، أو دماء أو ربما أعضاء بشرية ملقاة..
وهنا قرر القائمون على المستشفى أن يوسعوا المكان لاستقبال المزيد من المصابين والشهداء؛ وللأسف فكان اتساع المكان لا يعني الكثير، حيث إن أعداد المصابين والشهداء كانت في تزايد أيضا بل أكثر وأكثر؛ وهنا امتدت المستشفى بحيث لم تكتفِ بقاعتها المخصصة ولا بالغرف المحيطة ولا بالطرقات، ولكن أيضا امتدت لتأخذ قاعة المركز الإعلامي، بل والمسجد بعد أن أخرجوا النساء منه ليتسع للمصابين.
وفيما كنت أمارس دوري في التوثيق، جاءني خبر باحتمال استشهاد أخي الأكبر حيث اتصل بي أبي الذي كان في إحدى الخيام وقال لي:"دوّري على أخوكي !" وهنا تصارع بداخلي نداءان؛ نداء الأخوة ونداء الثغر الذي كنت أقف فيه وهو التوثيق فشاء الله تعالى أن أستجيب لنداء الثغر وأكمل عملي؛ ولكني تحولت من موثقة وفقط، إلى موثقة وباحثة عن أخي الشهيد أو المصاب فلم أكن أعلم وقتها! ثم تناسيت مع كثرة الأعداد والمصابين والشهداء ورائحة الدماء قصة أخي، حتى فجأة وجدته يدخل من باب المركز الإعلامي -الذي تحول إلى مستشفى- وكان فقط مصابا والحمد لله، ولم تكن إصابته خطيرة فقط إصابة بالخرطوش بالظهر، ولكنه كان منهكا جدا، ما أدى إلى فقدانه الوعي، وهو ما جعل البعض يظنه قد فارق الحياة، وهنا عندما ذهبت مسرعة لأطمئن أمي وأبي، وجدتهما وقد استعدوا منذ ساعات أن ابنهم شهيد في حين كانا في قمة الثبات والصبر، وعندما أخبرتهما أنه بخير، ظنا أني لم أتحمل الصدمة وأني من شدة الحزن أقول هذا..حتي تأكدوا من صدق ما أقول.
ومن بين من صادفت من حالات أثناء التوثيق؛ ذلك الشاب الذي لم يقبل أن يذكر اسمه أو أي شيء عنه، وحاولت كثيرا إقناعه، بأن ذلك في مصلحته حتى يأتي حقه، فأجاب: "ربنا بس اللي هيجيب لي حقي"، ورفض تماما، لأنه كان يشعر أنه قدم تضحيته تلك لوجه الله تعالى وفقط.
وهناك مصابون آخرون كان ألمهم ليس للإصابة، وإنما لأنهم لم يرتقوا شهداء كغيرهم في سبيل الله. أما عن أشكال الإصابات فقد كانت معظمها في هذا الوقت أي -صباح اليوم التالي- بالرصاص الحي، ومعظمها في الساق أو العين.