بقلم : الشيخ سعيد حوى


محتويات

    ١ مقدمة
    ٢ القانون الأول في النظافة والطهارة
    ٣ القانون الثاني في الترتيب وحسن الهندام والهيئة
    ٤ القانون الثالث في خفض الصوت وكتمان الأسرار وعدم الإزعاج
    ٥ القانون الرابع في تنظيم العلم والعبادة
    ٦ القانون الخامس في الاقتصاد في الطعام والشراب واللباس والمعيشة
    ٧ القانون السادس في العلاقات وآداب التعامل
    ٨ القانون السابع في العناية بالصحة والرياضة
    ٩ القانون الثامن في حماية البيت وأهله من الشذوذ والانحراف والحرام والمكروه والضرر
    ١٠ القانون التاسع في الإحسان إلى الجار وإكرام الضيف وصلة الأرحام
    ١١ القانون العاشر في مراعاة الأدب في الدخول والخروج
    ١٢ الخاتمة

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن تسلسل التركيز في الدعوة إلى الله ينبغي أن يكون على البيت المسلم بعد التركيز على الشخصية الإسلامية. وقد نالت الشخصية الإسلامية حظها من التركيز بينما كانت التأليف حول البيت المسلم أقل من ذلك، ومع قلته فقد أغفل الكثير مما يجب أن يصاغ به البيت المسلم. قالمروءات ومكارم الأخلاق ومحاسن الآداب لم ينلها حظ كثير من الإشارات كما أن الكتابة لم تستوعب كل ما يلزم أن يتفطن له المسلم في شؤون البيت، فكانت هذه الرسالة تذكيراً بشيء يجب التركيز عليه، وبأشياء ينبغي التفطن لها.

ولقد كان هذا الدين مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية بكل شعائره وشرائعه، وهذه الرحمة تظهر بشكل واضح فيما أدب الله به المسلم في شئون بيته، فالعلاقات الرحيمة داخل البيت ومع الجوار، والآداب التي يبنغي أن يطبقها المسلم في بيته وعلى بيته كل ذلك من مظاهر الرحمة في هذا الدين، وغياب الأدب الإسلامي في شئون البيت نوع من الشقاء، وإذا كان لمعرفة آداب الإسلام في شئون البيت هذه الأهمية بالنسبة لكل بيت، فقد كان من الضرورة أن نذكّر بهذا الموضوع. وقد كُتب في كثير من الجوانب التي تمس البيت المسلم الشيء الكثير، ولذلك أسبابه ودواعيه، ولكن التركيز المختصر على أهم ما ينبغي أن يلاحظه المسلم في شئون البيت كان قليلاً، ولعل في هذه الرسالة تذكيراً بلباب من الأمر. وإذا كان التركيز على الفرد مهماً فإن التركيز على البيت له تأثيره الكبير في بناء المدنية والحضارة، فمن خلال التركيز على البيت تظهر المدنية المتميزة التي يمتاز بها المسلم، وتظهر الحضارة الإسلامية.

فالنظافة والجمال والستر والعفاف والرحمة والعلاقات النظيفة والحنان المتدفق والأخلاق الحسنة التي تتميز بها الحضارة الإسلامية تنبع من البيت المسلم، ولذلك كان التركيز على إصلاح البيت المسلم تأكيداً على جوانب حضارية وعلى جوانب مدنية، ومن ثَمّ يظهر في ذلك ما نريده لهذا العالم من بناءٍ حضاري أو مدني، وقد اخترنا لهذه الرسالة أن نجعلها تحت عنوان قوانين البيت المسلم، للإشعار بأن كل شيء نتعرض له فيها له صرامة القانون ووضوحه، وأن مخالفته تقتضي العقوبة، لكن العقوبة هاهنا قد تكون شقاءً للإنسان في الدنيا وفي الآخرة أو في الدنيا أو في الآخرة. والقوانين التي ذكرناها في هذه الرسالة هي ما يلي:

القانون الأول: في النظافة والطهارة.

القانون الثاني: في التنظيم والترتيب وحسن الهندام والهيئة.

القانون الثالث: في خفض الصوت وكتمان الأسرار وعدم الإزعاج.

القانون الرابع: في تنظيم العلم والعبادة.

القانون الخامس: في الاقتصاد في الطعام والشراب واللباس والمعيشة.

القانون السادس: في العلاقات وآداب التعامل.

القانون السابع: في العناية بالصحة والرياضة.

القانون الثامن: في حماية البيت وأهله من الشذوذ والانحراف والحرام والمكروه والضرر.

القانون التاسع: في الإحسان إلى الجار وإكرام الضيف وصلة الأرحام.

القانون العاشر: في مراعاة الأدب في الدخول والخروج.

 


القانون الأول في النظافة والطهارة



قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود"[1]. من أولى ميزات المسلم في نفسه وفي بيته وفي دائرة بيته نظافته، وقد يشترك غير المسلم مع المسلم بالنظافة ولكن المسلم يتميز بالطهارة، والطهارة حكم شرعي مرتبط بأسبابه قد يتلازم مع النظافة وقد لا يتلازم، فالكحول مثلاً منظف ولكنه غير مطهر إلا أن ارتباط الطهارة بالماء في الغالب يجعل هناك تلازماً إلى حدٍ كبير بين الطهارة والنظافة فالمسلم يعني بالطهارة والنظافة بآن واحد، وهذا ما يجعله متميزاً عن أصناف الناس، فهو يتحاشى الأوساخ والنجاسات، ويزيلها حسية ومعنوية. ولتحقيق النظافة والطهارة في النفس يلاحظ المسلم أن يكون على طهارة البدن دائماً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، قال عليه الصلاة والسلام: "..... ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"[2].

ومع المحافظة على طهارة البدن فإن المسلم يحرص على طهارة الثياب ومع الحرص على طهارة الثوب والبدن ونظافتهما فإن المسلم يحرص على الطهارة والنظافة في بيته، ومن ثَمَّ فإنه يلاحظ طهارة البيت وطهارة أدواته وطهارة أثاثه ما أمكن، ويتعين عليه تخصيص مكان الصلاة بمزيد عناية في الطهارة، ويراعى أن تكون سلال المهملات كافية حتى لا تبعثر الأوساخ في البيت، ويخص الحمام والمرحاض بمزيد عناية، ويلاحظ تراكم الغبار على كل شيء في البيت فينظف، ومع ملاحظته النظافة داخل بيته فهو يحرص على النظافة في ما يحيط بالبيت، فيلاحظ أن يبقى فناء البيت نظيفاً من الأوساخ والأقذار والغبار، وكل ما يؤذي النظر من مناظر.

وليلحظ المسلم لتحقيق النظافة ما يلي:

    أولاً: أن يُعوِّدَ المسلم نفسه وأهل بيته ألاّ يلقوا شيئاً من الأوراق أو المستعملات إلا في سلات المهملات وخاصة الأوراق التي يستعملها للطهارة فلا يلقيها داخل الحمام إلا في سلة المهملات. ومما يحسن أن يلاحظ بألاّ تلقى أوساخ المطبخ إلا في المكان المخصص لها وضمن صندوق خاص ذي غطاء بعيداً عن متناول أيدي الأطفال، وأن ينظف الصندوق ومكانه دائماً ويعقمان. ومن المناسب ألا تلقى أوساخ الأواني المستعملة في مصارف المياه مثلاً لئلا تؤدي إلى انسدادها، ويستحسن أن تتلقى بمصفاة توضع تحت صنابير المياه عند التنظيف، ثم تلقى بقايا الطعام وغيرها في مكان آخر مناسب لها.

    ثانياً: أن تنظم المرأة أوقات غسيل الثياب وغسيل أدوات الطعام وكل ما يتَّسخ في البيت في مواعيد محددة.

    ثالثاً: يلاحظ أهل البيت الأشياء التي يتجمع فيها الغبار فيخصوها بالنظافة.

    رابعاً: أن تكون هناك مواعيد محددة لكنس البيت بما يتفق مع وضع أهل البيت.

    خامساً: أن ينظم أهل البيت غسل أجسامهم حيث لا يمر أسبوع بدون اغتسال ومن السنة الاغتسال كل يوم جمعة، واستعمال السواك لتنظيف الأسنان وتقوية اللثة فإن لم يكن فاستعمال الفرشاة مع المعجون، وهذا يحافظ على الأسنان من التسوس والتلف ويساعد على بقاء رائحة الفم طيبة واستعمال السواك سنة يستحسن اتباعها والمحافظة عليها.

    سادساً: أن ينظم أهل البيت أمر التخلص من النفايات بحيث لا تؤذيهم ولا تؤذي غيرهم. وأهم ما يلاحظ في النظافة: المطبخ والحمام والعقوبات التي تصيب البيت بسبب إهمال تهويته.

    سابعاً: وقد يصاب أحد من أفراد البيت المسلم بالوسوسة بنظافة أو الطهارة فيغلو في ذلك، وقد يصاب بالتساهل فيفرط وكل منهما يحتاج إلى علاج، والعلاج في العلم، ولكن علاج الوسوسة يختلف عن علاج التساهل، فالموسوس يُعرّف على رخص المذاهب في الطهارة، والمتساهل يعرف على ما ورد في السنة في التشديد في الطهارة، والوسوسة تضييع للمال والجهد والوقت، فهي تدخل أصحابها في دائرة الإسراف لذلك كان علاجها ضرورياً وذلك من خلال التعرف برخص المذاهب، ومن رخص المذاهب أن هناك قولاً قوياً عند المالكية بأن الطهارة من النجاسة الحسية في الثوب والجسم والمكان سنة وليست فريضة، ومن الرخص في مذهب المالكية أن الماء ولو كان قليلاً إذا أصابته نجاسة فلم تغير لونه أو طعمه أو ريحه يبقى طاهراً. ومن رُخَصِ مذهب الحنفية أن حبل الغسيل ولو كان نجساً إذا كان جافاً ونشر عليه الغسيل فإن الغسيل لا يتنجس. ومن رُخَصٍ مذهب الحنفية أن سجاد (الموكيت) إذا كان ملصقاً بالأرض فله حكم الأرض، فجفاف النجاسة وزوال أثرها مطهر له. ومن رُخَصِ مذهب الحنفية أنه إذا أصيب ثوب أو مكان بنجاسة ولم يعرف مكانها، فأي مكان غلب على الظن أنه هو وغسل طهر به الشيء. ومن رخص مذهب الحنفية أن السجاد أو الحصير إذا كان نجساً وجفّ وداس عليه المتوضئ برجله المبلولة ولم يظهر أثر النجاسة على رجله، فإن ذلك لا ينجسها. ومن رخص مذهب الشافعية أن ورود الماء على النجاسة الحكمية كالبول الناشف يطهر النجاسة ويبقى الماء طاهراً، وفروع هذه المسألة كثيرة، فإذا أصيب حصير أو سجاد ببول مثلاً، ونشف فإنه يكفي أن يصب عليه الماء، فيطهر المكان ويبقى الماء طاهراً، فإذا ترك المكان للجفاف يطهر تلقائياً، ولو أن ثوباً أصيب بنجاسة حكمية فصب على المكان ماء فالمكان طهر والماء طاهر، فما تناثر منه على بقية الجسد أو الثوب فهو طاهر، ولو أن امرأة وضعت ثياب طفلها في الغسالة الخالية ثم صبت عليها ماءً، فالثياب تطهر والماء طاهر، فما أصابها منه طاهر لا يُنجِّس، وإذا فاض الماء في إناءٍ فيه ثياب نجسة بحيث صبّ من جوانب الإناء طهر الإناء وما فيه عند الحنفية. إن معرفة رخص المذاهب نوع علاج للوسوسة. ومن رخص المذاهب أن الكحول أو الخمرة أو ما ينتج عن الكحول من عطور وأدوية ليست نجسة نجاسة حسية، فالخمر نفسها عند هؤلاء نجسة نجاسة معنوية، لكن مثل هذه المسائل نعرف عليها من أصيب بالوسوسة ليشفى منها، أما المتساهل فندربه على المحافظة العملية على طهارته ونظافته.

[1] أخرجه الترمذي، حديث حسن.

[2] أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه، حديث صحيح.


القانون الثاني في الترتيب وحسن الهندام والهيئة


عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ".... وإنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأحسنوا لباسكم حتى تكونوا شامة في أعين الناس، فإن الله لا يحب التفحش"[1]. لاحظ قوله عليه الصلاة والسلام: "إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأحسنوا لباسكم حتى تكونوا شامة في أعين الناس" فإصلاح الرحل يقابل في عصرنا إصلاح السيارة، وهي بيت الإنسان الخارجي، وإصلاح اللباس يدخل فيه ما يحسن منظر الإنسان للآخرين، هذا أدب المسلم مع رحمه وإخوانه وهو أدبه داخل بيته، فمن دخل بيتك لا ينبغي أن يقع بصره على شيء مستنكر ولا مستقبح، وهذا يقتضي ترتيباً وتجميلاً وحسن هندام، وينبغي أن يكون هذا أدب أهل البيت جميعاً، فالمرأة أمام زوجها وأمام أولادها ينبغي أن تكون قدوة وكذلك الرجل بالنسبة لأهل بيته، وكذلك سكان البيت ينبغي أن يُؤدبوا على ذلك، إلا لعارض أو لعمل، فالمسلم يلبس لكل حالة لَبوسها. لقد اعتدنا من بعض شيوخنا سواء جئناهم في ليل أو نهار أن يكونوا على أحسن هيئة، وأن يكون كل شيء عندهم مرتباً، فهم كالجندي في حسن ترتيبه وفي استعداده الدائم للقيام بالواجب، وقد اعتاد كثيرون من الناس الفوضى في حياتهم وعدم المبالاة في مظاهرهم، تجد الطاولة بغير نظام والمكتبة بغير نظام، واللباس مبعثراً أو ليس في محله المتعارف عليه، وتقع العين هاهنا على فوضى وهاهنا على منظر غير مريح، وتجد أحياناً امرأة تبقى في لباس نومها بعد الاستيقاظ، وتجد طفلاً في فوضاه وفي أوساخه وكل ذلك يتنافى مع الأدب. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظف أسامة وهو طفل لأنه رآه على غير نظافة وهذه عائشة تنصح المرأة بأن تُحسن منظرها في عين زوجها، وهذا ابن عباس يأمر الرجل أن يتزين لزوجته كما تتزين المرأة لزوجها.

وبالجملة فإن أدب الرجل في بيته وخارج بيته: حسنُ الترتيب وحسن الهندام إلا لعارض... ومن أجل حسن الترتيب وحسن الهندام داخل البيت، فليلاحظ أهل البيت المسلم ما يلي:

    أولاً: أن يكون كل شيء في البيت مرتباً، وأن يرتب كل شيء بعد نومٍ أو عمل، وأن يكون لكل شيء محله الخاص به، وإذا استعمل فإنه يُرجع إلى محله بعد الاستعمال.

    ثانياً: أن يعتاد كل فرد في البيت ألا يبعثر أغراضه وأن يضع كل غرض من أغراضه الخاصة في المحل المعتاد.

    ثالثاًً: أن تعطى كل غرفة حقها في الترتيب بما يناسب حالها سواء في ذلك غرفة الضيوف أو غرفة النوم أو المكتبة أو المطبخ.

    رابعاً: أن يكون كل ما على الطاولات من كتب أو أوراق أو غيرها مرتباً.

    خامساً: أن يسارع أهل البيت بعد الاستيقاظ من النوم إلى لباسهم المعتاد، وأن يُرتب أمر الأولاد بما يعوّدهم الترتيب وحسن الهندام وحسن الهيئة.

لاحظ أن فقهاء المسلمين لم يولوا الترتيب حقه فحسب بل أعطوا الترتيب مستحقه، فمثلاً: يجعلون كتب العربية تحت كتب العلوم الشرعية، وكتب العلوم الشرعية تحت المصحف، فلا يكتفون بالترتيب، بل يلحظون حق الأشياء في الترتيب. ومن المهم أن نتذكر أن ترتيب أمر النوم ضروري وخاصة بالنسبة للصغار مع ما يتفق مع الواجبات الدينية والدنيوية والقواعد الصحيحة، وينبغي أن يراعى في النوم التفريق بين الأولاد وخاصة التفريق بين الذكور والإناث.

[1] أخرجه أبو داود وهو حديث حسن.

 


القانون الثالث في خفض الصوت وكتمان الأسرار وعدم الإزعاج



إن أهل البيت الواحد جيران وزيادة، وخلطاء وزيادة، وأرحام وزيادة، ومن هاهنا يتأكد في حقهم ألا يؤذي بعضهم بعضاً، ومن أهم المزعجات والمؤذيات الضجيج في البيت، ورفع الصوت. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ولا يجهر بعضكم على بعض في القرآن"[1]، فمن باب أولى ألا يشوش بعضنا على بعض فيما سوى ذلك. فالبيت المسلم لا يسمع أهلُه ما يؤذيهم أو يشوش عليهم أو يزعجهم، ولا يسمع منه جيرانه مثل ذلك، وتطبيقات ذلك كثيرة. فأحياناً يفتح أحدهم الراديو والتلفزيون بما يشوش على الآخرين في الدار وخارجها، وأحياناً يقرأ أحدهم بصوت عالٍ مما يشوش على أهل الدار وعلى الناس في الخارج. وأحياناً يفتح أحدهم المكبر أو المذياع بما يشوش على مجمع الناس، وأحياناً يتناقش أهل البيت مع بعضهم أو مع غيرهم بصوت عالٍ بما لا تفهم منه حكمة وبما يتنافى مع أدب الجلسات، وأحياناً يترك للصغار أن يبكوا والضيوف جلوس ولا يهتم أهل البيت بذلك، وأحياناً ترفع المرأة صوتها داخل البيت والضيوف جلوس والجيران يسمعون، وكل ذلك مستنكر مستغرب مخل بالأدب. لقد قال الأستاذ البنا في إحدى وصاياه: "لا ترفع صوتك فوق ما يحتاجه السامعون فإنه رعونة وإيذاء"، فرفع الصوت بالنقاش أو بالضحك والقهقهة أثر عن رعونة النفس ودليل على أنها لم تتهذب ولم يستطع صاحبها أن يضبطها بالضوابط الشرعية، كما أن رفع الصوت فيه إيذاء للغير لأنه يدل على عدم الحشمة وعلى عدم احترام السامعين وهو خروج عن أدب الكلمة وعن طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام.

وهناك أدب عظيم ينبغي أن تنتبه إليه المرأة خاصة: وهو ضرورة التحكم في صوتها وفي كلامها، فمن المعروف أن بعض العلماء يعتبرون صوت المرأة عورة إذا تكلمت لغير ضرورة أو حاجة، أو تكلمت بلهجة خاضعة، قال الله تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض}. وقد دأب أهل الفضل والمروءات أن يُربّوا النساء على ألا يسمع الضيوف أصواتهن وألاّ يسمع الجيران أصواتهن، وقد دأبت فضليات النساء على مراعاة هذا المعنى، بل اعتاد بعض الفضليات أن يكتفين بنقر الباب إذا جاءهم طارق ويسمعن دون أن يتكلمن، وهذا أدب صعب ولذلك لم يأخذ طابع التعميم، ولكنه مستحسن عند أهل الكمال. ومما يحدث عادة بين الجيران أن يتشاجر الأطفال، فينتقل الشجار إلى النساء ثم إلى الرجال، وقد يكون ذلك بين الأقارب فتتقطع بذلك الأرحام وذلك كله من نقصان العقول ونقصان التربية، فلو كانت تربية الأطفال كاملة ما تشاجروا ولو كانت العقول كاملة ما انتقل الشجار إلى الكبار. وإيذاء الجوار كبيرة تدخل صاحبها النار، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رجل "يا رسول الله إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها قال: هي في النار. قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها وإنها تصدق بالأتوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها قال: هي في الجنة"[2]. وإيذاء الجوار يتصور بالتشويش عليهم، ووضع الأذى في طريقهم أو عند بيوتهم، أو في عدم مراعاة أوضاعهم كإظهار الفرح حين يحزنون وعدم المبالاة حين يمرحون، إلى غير ذلك مما يتنافى مع راحة الجار.

وبناءً على ما مر فليلاحظ أهل البيت المسلمون ما يلي:

    أولاً: إذا أرادت المرأة حاجةً من رجال البيت وهم مع ضيوفهم فلتقرع الباب بدلاً من النداء.

    ثانياً: إذا قرع الباب وكان في البيت ذكور فهم الذين يتولون الرد وإلاّ فلتجب النساء بأقل قدر ممكن من الكلام وبصوت لا يظهر فيه أثر لضعف.

    ثالثاً: إذا تحاور الكبار فيما بينهم أو الصغار فيما بينهم أوالكبار مع الصغار فليكن ذلك بخفض صوتٍ. وإن مما ينبغي أن يعتاده أهل البيت المسلم الكلام الهامس بحيث يقابلون باستغراب أي رفع للصوت سواء في ذلك المناقشات أوالحوار أو الطلب.

    رابعاً: أن يتجنب أهل البيت كل ما يزعج من تشويش أو إيذاء أو رفع الصوت.

    خامساً: ألا يستعمل أحد حاجيات البيت مع ضجيج ممكن اجتنابه.

    سادساً: ألا يعامل الأطفال بعدم مبالاة إذا بكوا.

    سابعاً: وإن مما ينبغي أن يعتاده أهل البيت المسلم كتمان الأسرار، فكل ما يجري في البيت لا ينبغي أن يتحدث عنه أهله ومن أهم ما ركز عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ألا يتحدث الزوجان عما يدور بينهما، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم وأبو داود "شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرّها". إن هذا الحديث الشريف معلم من معالم تربية البيت المسلم، لقد جرت عادة بعض النساء أن يتحدثن إذا اجتمعن بما لا ينبغي من أمور الحياة الزوجية الخاصة، وبما يدخل في دائرة اللغو أو السفه وهذا عيب كبير، كما جرت عادة بعض أهل البيت أن يفضحوا ما يجري في البيت مما يسيء إلى سمعته، وقد يتحدثون عن بعض أهليهم بما يسيء إلى سمعتهم، وهذا مما ينبغي أن يحتاط فيه أهل البيت المسلم، فكما أن خفض الصوت مطلوب، فكتمان الأسرار مطلوب.

[1] أخرجه: مالك وأبو داود، حديث صحيح.

[2] أخرجه الإمام أحمد 2/440.

 


القانون الرابع في تنظيم العلم والعبادة



ليس هناك أهم من قضيتين في حياة البيت المسلم هما: (تنظيم العلم وتنظيم العبادة). وأهم ما يدخل في باب العلم العلوم المفروضة والعلوم المطلوبة، وأهم ما يطالب به المسلم في باب العبادات إقامة الفرائض والواجبات والسنن والآداب، وينبغي أن يتعاون أهل البيت على إقامة هذين المطلوبين ليكون أهل ذلك البيت مذكورين عند الله في الملأ الأعلى ينطبق عليهم قول الله تعالى في الحديث القدسي: "ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه"[1]. قال تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: {واذكرن ما يتلى عليكن من آيات الله والحكمة}. فهاهنا مفهوم ومضمون، أما المفهوم: فيدل على أن هناك تالياً يتلو عليهم القرآن والحكمة، فهناك إذن تعليم، وأما المضمون: فهو أمرهن بالتذكر، فهناك إذن تعلم. ومن هاهنا كان لابد من تنظيم العلم والتعليم الشرعيين بأن يكون لأهل البيت جلسات علمية تفقيهية. وقد يكون البيت المسلم مقراً لدروس نساءٍ ورجالٍ من غير أهل البيت، وقد يكون لأهل البيت حضور في مجالس للعلم في المسجد أو في بيوتٍ أخرى. المهم هو تنظيم العلم داخل البيت بحيث يشمل كل سكانه: الأطفال والرجال والنساء، وينبغي أن يكون هناك طموح عند أهل البيت بأن يحصل كل منهم ثقافة إسلامية، وثقافة معاصرة، وثقافة تخصّصية. ومما يدخل في تنظيم العلم أن يكون في كل بيت مكتبة، وأن يكون هناك اعتياد على المطالعة، وأن يكون هناك دفع نحو تلقي العلم. ومع تنظيم العلم فلابد من تنظيم العبادة وخاصة الصلوات وقراءة القرآن وشغل الأوقات بالأذكار والدعوات، واعتياد صيام الفرائض والنوافل، وأهم شيء يحتاج إلى مزيد تذكير وتركيز هو اعتياد إقامة الصلوات في أوقاتها، واعتياد إقامة الجماعة في البيت لمن فاته حضور الجماعة في المسجد. ومن المناسب أن يشعر أهل البيت جميعاً بمزيد الاهتمام بالمناسبات الأسبوعية، كأن يظهر اهتمام الجميع بيوم الجمع في الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وغسل الجمعة، والتبكير إلى الصلاة فيه، وأن يذكر بسنية صيام يومي الإثنين والخميس وصيام يوم عرفة وتاسوعاء وعاشوراء، ومن المستحسن التذكر بالمناسبات الإسلامية في بعض الشهور كفتح القدس في رجب وحادثة الإسراء والمعراج فيه، ومن المناسب الاحتفالات بالمناسبات الإسلامية والابتهاج بها كذكرى المولد النبوي، وينبغي أن تخص المناسبات السنوية بمزيد من عناية كصوم رمضان وقيامه وإقامة سننه ونوافله والاهتمام بأشهر الحج. والمناسب أن تربط العبادة بالعلم الخاص بكل مناسبة كأن تقرأ السيرة للشمائل في شهر المولد، وكان أحد زملائنا يبعث من يدرس السيرة والشمائل بعد كل صلاة في شهر المولد. ولعله من المناسب أن تزداد الدروس العلمية في المساجد أو في البيوت في بعض المناسبات.

[1] متفق عليه.