د. عبد التواب بركات:

 

 
تعاني الدول المستوردة للقمح من ارتفاع غير مسبوق في الأسعار العالمية وغياب من سوق تجارة الحبوب الدولية بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا التي بدأت في 24 فبراير الماضي وما زالت مستمرة. وتعاني مصر أكثر من أي دولة في العالم من تداعيات الأزمة على الموازنة العامة للدولة وموارد النقد الأجنبي لأنها أكبر مستورد للقمح في العالم بمعدل وصل إلى 13 مليون طن في السنة الماضية تأتي 90% منه من الدولتين المتحاربتين.

 

 
وللتغلب على أزمة استيراد القمح، كشف وزير التموين والتجارة الداخلية المصري علي المصيلحي، عن اتجاه الوزارة لاستخدام البطاطا الحلوة في خليط مع دقيق القمح لإنتاج رغيف الخبز البلدي المدعم، ضمن خطط الحكومة لتقليل استيراد القمح الذي تأثر بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا.

 

 
وكثر الحديث حول الفكرة الجديدة بين مؤيد ومعارض وساخر في البرامج الحوارية ومواقع التواصل الاجتماعي. وكان التركيز على مدى استساغة المواطن المصري لطعم الخبز المحتوي على البطاطا أكثر من احتمال إمكانية تطبيق الفكرة ابتداءً من الناحية الفنية، ونجاعتها من ناحية الجدوى الاقتصادية في حل أزمة القمح بمصر.

 

 
وراء هذه الفكرة باحث من علماء مركز البحوث الزراعية المشهود لهم بالكفاءة والتميز، يقول إنه أمضى 20 عاما من حياته البحثية في استنباط أصناف جديدة من البطاطا غزيرة الإنتاج وذات محتوى عال من النشويات ومنخفضة السكريات لتكون مناسبة لصناعة الخبز البلدي المدعم. وهذا نجاح يحسب للباحث المتخصص في زراعة الخضراوات وإنتاج السلالات النباتية من خلال التهجين بين الأصناف والانتخاب الوراثي.

 

 
إن نجاح فكرة التوصل إلى بديل لدقيق القمح للاكتفاء الذاتي ووقف استيراد القمح الذي يستنزف موارد الموازنة العامة للدولة من النقد الأجنبي ويرهن القرار السياسي للدولة ويعرضها للابتزاز السياسي من الدول المصدرة، ويجبرها على شراء أنواع رديئة من القمح تحتوي على سموم ممرضة تكلف أضعاف تكلفة القمح في العلاج، هو حلم ينشده كل مواطن مصري. لكن البديل يتطلب أن يكون مستساغا ومتطابقا مع دقيق القمح من حيث القيمة الغذائية والخواص التكنولوجية أو قريبا من ذلك.

 

 
القيمة الغذائية للبطاطا

 

 
الخبز البلدي المدعم الذي يصنع من دقيق القمح المستخلص بنسبة 82% هو أهم وأرخص مصدر غذائي للكربوهيدرات والبروتين للمصريين على مدار عدة عقود مضت. وفي دراسة عن الخبز البلدي المدعم في مصر، صدرت سنة 2014 عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 106 صفحات، أكدت النتائج أنه يوفر للمصريين 52% من الاحتياجات الغذائية من السعرات الحرارية و70% من البروتين، وذلك قبل تخفيض وزن الرغيف من 130 غراما إلى 90 غراما. وبالتالي فإن الحذر عند إضافة أي مادة غذائية إلى الخبز البلدي المدعم مهم حتى لا تؤثر في قيمته الغذائية وطعمه ومظهره.

 

 
وللحقيقة، فإن طعم ومظهر الخبز المصنوع من البطاطا ودقيق القمح مقبول جدا. وأذكر أنه قبل قرابة 15 سنة تقريبا، دعاني زميل باحث في محطة البحوث الزراعية بسخا، وهي نفس جهة عمل الباحث، لتقييم جودة خبز حضّره من مخلوط البطاطا الحلوة مع دقيق القمح ومعرفة هل يصلح للتعميم. وكان تقييمي أن طعم الرغيف ومظهره مقبولان. ثم تركز النقاش حول انخفاض القيمة الغذائية للخبز الناتج، وصعوبة تجهيز البطاطا للتصنيع، وهو ما صرف الباحث عن الفكرة.

 

 
أما من ناحية القيمة الغذائية، فإن مراجعة جداول تحليل الأغذية، وهي معتمدة من منظمة الفاو ومرجع لكل باحث ومؤسسة تعمل في مجال التصنيع الغذائي والتغذية، توضح بجلاء أن القيمة الغذائية للبطاطا الحلوة تقل عن مثيلتها في القمح بأضعاف كثيرة. ذلك أن متوسط نسبة البروتين لا تزيد على 2% في البطاطا، مقابل 12% في دقيق القمح.

 

 
وهذه النقطة بالذات كانت كفيلة بثني الباحث عن التفكير في استخدام البطاطا في إنتاج الخبز قبل 20 عاما، والاتجاه إلى استخدامها في أغراض غذائية أو صناعية أخرى، أو استخدامها في إنتاج نوع آخر من المخبوزات أو الأغذية الخاصة، التي يطلق عليها اسم الأغذية الوظيفية، ولكن عذره أنه غير متخصص في مجال تغذية الإنسان وتكنولوجيا الخبز.

 

 
يتضح أيضا من جداول تحليل الأغذية، أن متوسط نسبة الكربوهيدرات في البطاطا الحلوة 25%، مقابل 72% في دقيق القمح، مما يعني أن إضافة البطاطا إلى الخبز سوف تقلل السعرات الحرارية في رغيف الخبز، وهي قيمة غذائية مهمة للمواطن المصري الذي ليس له بديل غير الخبز في توفير الطاقة والبروتين النباتي الذي يعتبر بديلا ناقصا للبروتين الحيواني الغائب عن موائد المصريين. وهذا دليل آخر على عدم ملاءمة البطاطا في إنتاج الخبز البلدي.

 

 
وبعملية حسابية بسيطة يمكن أن نستنتج أن إضافة البطاطا الحلوة المسلوقة إلى دقيق القمح بنسبة واحد إلى واحد سوف تقلل نسبة البروتين في الخبز بنسبة 50%، والسعرات الحرارية بنسبة 30%. وهو ما يجعل استخدام البطاطا المسلوقة أقرب إلى أغذية الحمية المستخدمة في تخفيض وزن المصابين بالسمنة منه إلى خبز يعتمد عليه الملايين في الحصول على احتياجاتهم الأساسية من البروتين والطاقة.

 

 
وكذلك فإن متوسط نسبة الرطوبة أو الماء مجازا في البطاطا هو 70% مقابل 10% في دقيق القمح. وهذا معناه أن إضافة البطاطا إلى دقيق القمح هي إضافة للماء أكثر من أي مكون غذائي آخر. والخلاصة أن خلط البطاطا الحلوة مع دقيق القمح لإنتاج رغيف الخبز البلدي المدعم يقلل القيمة الغذائية للخبز الذي يعتمد عليه 90% من المصريين في سد الجوع وتوفير الاحتياجات من الطاقة والبروتين، ويضر بالصحة العامة خاصة لدى الأطفال في مرحلة النمو.

 

 
التحديات التكنولوجية

 

 
تُعد “القابلية للتطبيق والجدوى الاقتصادية” من أهم جوانب تقييم البحوث العلمية المحكمة في مركز البحوث الزراعية. ومن الناحية التكنولوجية، تحتاج درنات البطاطا إلى عملية سلق لإنجاز ما يعرف بـ”جلتنة النشا، حتى يمكن خلطها بدقيق القمح المعد لصناعة الخبز، وهو ما قام به الباحث في المعمل وعند التطبيق على نطاق صغير في المخبز. ولكن عند تطبيق الفكرة على نطاق واسع، فإن عملية السلق ستكون مكلفة اقتصاديا ومهدرة للوقت والطاقة.

 

 
وذلك لأن العملية تحتاج إلى أيد عاملة لفرز الدرنات داخل كل مخبز، واستبعاد التالف والمصاب بالعفن الذي سيلوث الخبز في حالة التساهل في عملية الفرز. وتحتاج العملية التصنيعية إلى استهلاك كميات كبيرة من المياه في عملية غسيل الدرنات للتخلص من بقايا التربة الزراعية. وكذلك يحتاج المخبز إلى مصدر للطاقة المستخدمة في عملية السلق، غاز أو سولار، مما يعد تكلفة مضاعفة لصناعة الخبز المخلوط بالبطاطا تكفي هي الأخرى لرفض الفكرة.

 

 
اقترح الباحث أيضا طريقة أخرى لتداول البطاطا من خلال تجميدها بعد السلق وتوزيعها على المخابز مجمدة. لكن ذلك يتطلب إنشاء مصانع كبيرة لتجهيز الدرنات وسلقها، ثم تعبئتها في عبوات تزن 25 كيلوغراما، ثم تجميدها وتخزينها في غرف مجمدة تمهيدا لتوزيعها في سيارات تحمل ثلاجات على المخابز المنتشرة في أنحاء الجمهورية التي وصل عددها إلى 33 ألف مخبز، ثم توفير وسيلة أخرى لتسييح مكعبات البطاطا المجمدة قبل إضافتها إلى الدقيق، وهي طريقة أكثر كلفة من طريقة السلق داخل المخابز.

 

 
بدوره، كشف وزير التموين عن طريقة ثالثة لتجهيز درنات البطاطا، وهي تجفيف الدرنات ثم طحنها. ولكنه انتبه لصعوبتها فاستدرك قائلا: إنها إشكالية كبيرة. وهي كذلك بالفعل، وقد يستحيل تنفيذها؛ حيث تحتاج إلى مجففات ضخمة تعمل بالغاز أو الكهرباء لتجفيف البطاطا وهي غير موجودة في مصر، ثم مطاحن تناسب طحن درنات البطاطا الجافة وهي تختلف عن مطاحن القمح وغير موجودة كذلك في مصر. وبعد الحصول على دقيق البطاطا يجب توفير أجهزة لخلطه مع دقيق القمح بطريقة متجانسة. ولصعوبة التجفيف والطحن والخلط المتجانس، من المتوقع أن تفشل هذه الطريقة وغيرها في تجهيز البطاطا، إن كان في مصر بطاطا حاليا أو في العام القادم تكفي للاستخدام في إنتاج الخبز المدعم.

 

 
في تقديري أن رفع نسبة استخلاص الدقيق المستخدم في إنتاج الخبز من 82% إلى 87.5% يمكن أن يكون أكثر نجاحا في حل جزء من أزمة القمح الحالية. بمعنى أن تزيد كمية الدقيق الناتجة من طحن 100 كيلوغرام من القمح إلى 87.5 كيلوغرام بدلا من 82 كيلوغرام فقط. هذه الطريقة توفر نصف مليون طن من إجمالي 10 ملايين طن يتم استخدامها في إنتاج الخبز البلدي المدعم، مع المحافظة على جودة الخبز. ولكنها لن تكون بديلا عن الاكتفاء الذاتي من القمح، وهي الخطة التي وضعها الرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي في سنة 2013 وأصبحت بسبب الأزمة الحالية ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى.

نقلا عن: الجزيرة مباشر