وائل قنديل:


من المفترض أن حادثة مقتل الطالبة الجامعية المصرية، نيرة أشرف، تظل قضية جنائية، ذات أبعاد اجتماعية، لكن وبما أنها وقعت في مجتمع متصحّر سياسيًا، فقد أراد لها النظام أن تكون القضية الوطنية الأولى على جدول أعمال المجتمع.


آلة إعلامية جبّارة تشتغل على حادث مصرع الطالبة على يد زميلها، تتداخل فيها كل الأصوات وتشتبك كل الأسلحة، فتصير بسرعةٍ شديدةٍ المعركة الوحيدة التي تحضُر فيها كل الأطراف، من شيوخ الفضائيات والبرلمانيين والنسويات والذكوريين، والمتدينين والعلمانيين، كلهم يناضلون من أجل تقديم عرضٍ مبهر على المسرح الوطني، يمكن أن تضع لها عنوان: مجتمع من الشياطين وحكومة من الملائكة.


في هذا العرض، الكل متّهم ومدان، من الشعب الدموي سيئ الخلق غليظ الطباع، مرورًا بالفن الفاسد الهابط الذي يزوّد المجتمع المتوحش بدراما شرّيرة تزيده توحشًا، والشيوخ الرجعيين الذين يُصدرون آراء وفتاوى تحرّض على استباحة المرأة، والنسويات المتطرّفات اللاتي يوجهن الإهانات إلى رجال الدين، والذكوريين المرضى نفسيًا الذين لا يسيطرون على غرائزهم البهيمية كلما رأوا أنثى جميلة.


النيابة العامة تنتقل من كونها جهة تحقيق عدالة قانونية إلى ما يشبه دارًا للفتوى أو مركزًا للدراسات النفسية والاجتماعية، فتعلن في بيان إلى الأمة أن "الفشل أول طريق النجاح وأن البلاء مفتاح الفرج وتهيب بالكافة نشر روح الأمل بشتى الوسائل في نفوس شبابنا".


الشيخ التلفزيوني يحضر حاملًا "قفة" ممتلئة بالإسفاف في الفتوى والابتذال في توظيف الدين دراميًا في عرضٍ شديد الركاكة، أراده المتحكّمون في المسرح منصوبًا ليلًا ونهارًا، فيتحدّث عن ملابس البنت التي تدفع الشاب إلى التحرّش والطمع حد القتل، فتلتقط نسويات المجالس الحكومية الهدية ويبدآن قصفًا مضادًا بالمدفعية الثقيلة، وسط تغطيةٍ إعلاميةٍ هائلةٍ تتفوّق على الإعلام الأميركي في تغطية الحرب في أفغانستان، ثم العراق، وأخيرًا ينقشع الغبار عن إعلان انسحاب "شيخ القفة" واعتزاله التمثيل، أو الظهور الإعلامي، مع بلاغاتٍ تطالب بإحالته إلى المحاكمة.  


هنا، لا فرق بين الشيخ المبروك والممثلة الاستعراضية، وبين السياسي والمهرّج، فكلهم يؤدّون أدوارهم كما يريد المنتج والمخرج، في دراما متكرّرة. ومع ذلك، يتفاعل معها الجمهور بمنتهى الجدية.


ثم تتهاطل الأخبار عن البنت التي قتلت الشاب الذي رفض الزواج منها، والشبّان الذين ينتحرون في النهر ومن أعلى برج القاهرة، في تصاعد درامي تشعر معه وكأن المجتمع كله صار انتحاريًا وانتقاميًا، وكارهًا للحياة، وأن هذه هي الحالة العامة في مصر. وفيما المعركة مستعرة، بكامل العتاد والأفراد، لا تجد الصحافة وقتًا أو رغبة في متابعة أخبار من نوعية خروج 12 من رجال الأعمال المصريين في رحلةٍ لطرق أبواب الكيان الصهيوني، لمدّ جسور التعاون وتدفئة مناخ الاستثمارات المشتركة.


في أزمنة ليست بعيدةً كان مثل هذا الخبر يثير شهية الإعلام المكتوب والمرئي، للتنافس من أجل الانفراد بالكشف عن أسماء البعثة التطبيعية، ثم تجريس أصحابها في مقالات رأيٍ ومتابعاتٍ صحافية موسعة، غير أن الظرف اختلف، وما عاد لدى أحدٍ الرغبة في السبق، أو الانفراد، أو يمكن القول ربما صار رفض التطبيع والكشف عن المطبّعين والتنديد بهم هو الجريمة المهنية، على الرغم من أن مواد ميثاق الشرف الصحافي وقرارات الجمعية العمومية لنقابة الصحافيين لا تزال تجرم التطبيع، وتعاقب مروّجيه.


أما وأنه وقع الاختيار على جريمة قتل الطالبة لتكون القضية الأولى، فمن المنطقي ألا ينشغل أحد ببناء مزيد من جسور التطبيع، الرسمي وغير الرسمي، كما أنه لا وقت ولا رغبة لتتبع موضوع مثل اختفاء المطربة آمال ماهر، بعيدًا عن البيانات الرسمية الصادرة عن نقابة الموسيقيين، رغم أنها، بالمعايير المهنية، قضية تستفزّ حواس أي صحافي أو إعلامي وتدفعه إلى التحقيق والاستقصاء، والعودة إلى الجمهور بالخبر اليقين.


ولكن كيف ذلك، والمطلوب إدانة المجتمع بكل مكوّناته وإظهاره كأنه مجموعة من الأشرار، الذين يحكمهم نظام هو مجموعة من الأخيار الطيّبين، على رأسهم ملاكٌ بجناحين، ينثر العدل والرحمة على الجميع.

نقلا عن: العربي الجديد