علي أبو هميلة:


شهدت مدن وشوارع مصر 16 حادثة خلال يوم واحد، الأولى قتل في الطريق العام أمام جامعة المنصورة، وفي وجود العديد من المارة في الشوارع، لم يتقدم أحد لإنقاذ الفتاة إلا بعد أن أتم القاتل جريمته، فتحركت قوات الشرطة التابعة للجامعة وألقت القبض على الجاني. وتلا هذه الجريمة البشعة حادثتان في المدينة نفسها، حادثة انتحار شاب بسيارته من أعلى كوبري المدينة، بعد أن ترك رسالة يوصي فيها بألا يحضر أبوه جنازته!!، وكانت الثالثة التي شهدتها المنصورة -أو مدينة الورد كما يطلق عليها أهل الدلتا- دهس مجموعة من الشباب المارة في أحد شوارعها الرئيسية، بالإضافة إلى حادث راحت ضحيته فتاة آخرى، ثم تتالت الأخبار عن حوادث قتل واختطاف، قبل أن يسبق تلك الحوادث والجرائم انتحار شاب من أعلى برج القاهرة في صرخة مدوية، بما يمثله هذا العمل من بشاعة، لتصرخ مصر كلها عشية ذلك اليوم، فماذا يحدث في مصر؟ وماذا جرى للمصريين؟


حضر العامة وغاب علماء النفس والاجتماع


تبارى الجميع في تفسيرات وتحليلات لحادثة فتاة الجامعة، وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي ليدلي كل من يتعامل مع تلك الوسائل بدلوه، وكعادة برامج المساء والسهرة على الشاشات المصرية، فقد سارع مذيعو هذه البرامج إلى امتطاء ظهر التريند اليومي، إذ بدأ الجميع بمحاكمة الجاني، بل وصل الأمر ببعضهم إلى محاكمة المجني عليها، فهناك مِن الشباب مَن برر تلك الجريمة البشعة لصاحبها، وأدان القتيلة، مما حدا بمجموعة من الناشطين الحقوقيين إلى اصدار بيان لإدانة هؤلاء، ووصل الأمر إلى انتشار فيديو لأحد المشايخ يدين زي الفتاة، ويطالب النساء والفتيات بالخروج من المنزل (قفة) وفق تعبيره، وإلا سيتم قتلها لأنها عرضه لمن يلهث خلف ملابسها!! حسب قوله (حياتك غالية عليكي اخرجي من بيتك قفة).


هكذا حضر الجميع وغاب علماء النفس الاجتماع، وبالطبع سيغيب المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (استمرارًا لغياب دراساته خلال السنوات العشرين الماضية) عن البحث والتحري الاجتماعي والنفسي بشأن الجريمة، ولم يبادر أحد الإعلاميين بسؤال علماء النفس: كيف وصل الأمر بهذا الشاب إلى قتل فتاة في عرض الشارع بهذه البشاعة؟ لم يخرج علينا أحد علماء الاجتماع ليفسر لنا ما جرى للشعب المصري حتى يقف متفرجا على الجريمة التي وصلت إلى ذبح القتيلة.


شعب كان يهب لإغاثة من يطلب النجدة، ويدافع عن النساء حتى وإن أخطأن، وكانت الكلمة الشائعة بين المصريين (حد يتعارك مع أنثى) فماذا جرى للمصريين؟ حسب تعبير الدكتور جلال أمين في كتابه المعنون بالسؤال ذاته. وفي الإطار نفسه، أذكر كتاب عالم الاجتماع الراحل الدكتور سيد عويس (هتاف الصامتين) وهو أحد الكتب التي كنا نقتنيها له لنفهم تطورات المجتمع.


أحداث كثيرة جرت


شهد مجرى المصريين الساري كما سريان النيل تحولات كثيرة في مياهه مثل التحولات في تدفق النهر، فالجفاف بدأ منذ سنوات، حين اعتدنا رؤية الدم يجري في الشوارع فلا نتحرك لإيقافه، كيف لم نمنع أنهار الدم؟! كيف وقفنا متفرجين على مقتل إخوة وأقرباء ومعارف؟! نعم جرى الدم أنهارا في الشوارع فلم نوقفه، كيف أصبح المثل والقدوة حامل السيخ والسيف؟! أفردنا له مساحات في الإعلام بحجم مساحاته في الفن، وصرنا نجري وراء ترينداته الإعلامية.


غاب العدل والعدالة، وصار كل شيء تحت السيطرة، أحكام حسب الطبقة الاجتماعية والثروة وحجمها، فإن كان الجاني يمتلك الثروة والنفوذ كانت يد العدالة رحيمة به إلى حد الليونة، وإن كان ينتمي إلى فصيلة النملة -حسب تعبير أستاذة الأدب رضوى عاشور- صارت العدالة سيفا بتارا في محاكمات عاجلة وحاسمة.


غاب الأب والأم، وصار المنزل مكانا للمرهقين من العمل، فاختلالات الحياة الاقتصادية صارت قاسية، والأعباء أكبر من أن تتحملها وظيفة واحدة للأب والأم، وأصبحت وسائل التواصل والشاشات -صغيرة كانت أم كبيرة- هي المربي والمعلم، وحينما يعود الوالدان إلى المنزل متعبيْن، لا يبحثان إلا عن مكان للنوم.


غابت المدرسة والمدرس، فقد صرنا في زمن مكان الدروس الخصوصية (السنتر) و”الساعة بكذا واللي بعده” (والحسّابة بتحسب)، مدرس من خلفه حرس ورجال أمن، لا يبحث إلا عن المادة، ولا مكان ولا وقت للتربية ونقل الخبرات وحكايات مدرسي الزمن الماضي. أما المدرسة، فعندنا وزير للتعليم يقوم كل صباح ليجرب ما تصور ليلا أنه عبقرية ومعجزة لحل مشاكل أبنائنا. أما الجامعة، فصارت مجالا للتجارة أيضا، ففي عالم الفلوس والمظاهر وملايين تُصرف على الأفراح، لا وقت لأي قيم ومبادئ ومُثل عليا.


صرخة البرج


منذ عامين، صعد شاب في كلية الهندسة بهدوء شديد إلى برج القاهرة (أعلى مبنى بالعاصمة بطول 167 مترا) ثم ألقى نفسه من أعلاه، تاركا رسالة علّها تصل إلى هؤلاء الغارقين في البحث عن حلول لهموم الحياة، وعن متعة بسيطة عبر الشاشات، عن إبراء ذمة من أزمات مجتمع أصبح بحاجة إلى فدائيين لتغييره، صرخ الشاب (أنا مظلوم من صمت هذا المجتمع.. أخي مظلوم في سجن ظالم) أنقذوه، ولم يسمع أحد صرخة مهندس المستقبل، ولم ينقذ أحد أخاه القابع في السجون مظلوما، وها هي صرخة أخرى من المكان نفسه، يطلقها شاب آخر في اليوم ذاته الذي شهد 16 حادثة وجريمة في مصر.

انتحار البرج ليس مجرد انتحار لشاب اعتراضا على المجتمع بقيمه ومعاييره ومبادئه التي سببت شروخا كثيرة، إنه صرخة ضد الظلم الاجتماعي والاقتصادي، وزمن (اللي معاه مال يساوي مال).


صرخة ضد الاستبداد وإلقاء أبرياء في سجون المغول، حتى يشيبوا ويموتوا داخل الزنازين، ضد أحكام جائرة يومية، وحسابات على الكلمة والتنفس، صرخة ضد ضياع قيم العلم والاجتهاد والتفكير، وإعلاء قيم التزلف والمهادنة والنفاق.


حينما يختار المنتحر هذا المكان، فإنه يذكّرنا بالشاب عبد الحميد شتا الذي انتحر من على كوبري قصر النيل بالقاهرة في سبتمبر 2003، عندما أعلن مدويا صرخته ضد الظلم الاجتماعي، إذ تم رفضه بسبب أنه من وسط اجتماعي لا يناسب وظيفته في وزارة الخارجية المصرية.


كان انتحار شتا صرخة اعتراض ضد قيم فاسدة، وواقعة البرج الأولى منذ عامين والثانية منذ يومين تحمل الصرخة نفسها، فهل وصلت الرسالة لنا؟ وهل نلبي نداء المنتحرين ظلما وقهرا واستبدادا؟ (وييجي شايل حمولها شايل.. ويعدِل المايل) أم سنبحث لأنفسنا عن مبرر لإبراء الذمة ثم نغلق الهواتف والشاشات، لنذهب إلى الأسرّة بحثا عن راحة تساعدنا على الاستمرار في طاحونة الحياة صباح يومنا القادم؟!


نقلا عن : الجزيرة مباشر