قد يحدث فتور في الدعوة؛ فنرى الأفراد هم الأفراد، والمؤسسات هي المؤسسات، والأنشطة هى ذات الأنشطة، ولكن بلا حركة فى المجتمع، ولا إنتاج على المستويات المختلفة، ولا تأثير فى المجتمع، ولا حتى مجرد الإشباع للأفراد.

وإذا نظرنا إلى تاريخنا الإسلامى لا سيما فى السيرة العطرة الغنية بما نحتاج، فإننا نجد أن الدعوة لم يوقفها بطش الظالمين، ولا كيد الكافرين، ولا قوة الجيوش المحاربة، فكانت الدعوة أمام كل هذه التحديات فتيةً عصيةً قويةً فاعلةً، كانت منتصرةً ناميةً، تؤثر وتستقطب الأنصار، وتؤثر فتبنى أفرادها، وتوسع رقعتها الجغرافية والحضارية، وتنبى مجدها خطوة خطوة، فى تسلسل مذهل، وسلاسة رائعة، وتوفيق من الله عجيب. 

 كانت كذلك حين ترصدتها مكة، وحاولت بإصرار وجد، وباستخدام كل ما تملك، وكل من تملك، وبذلت كل ما فى جَعبتها للصد عنها، وصرف المؤمنين عن دينهم، ووقف انتشارها بين الناس، بالتعذيب والتشهير، والحبس والقتل، والمتابعة والتهديد، والحصار الاقتصادى والاجتماعى، فخاب سعيهم، وازدهرت الدعوة وانتشرت، وجاء أبناؤها بعد بضع سنوات لمكة فاتحين منتصرين لا تتملك مكة أمامهم إلا الخضوع.

وكانت الدعوة كذلك قوية منتصرة فى كل موقف كاد لها أعداؤها، حين أجمعوا على اغتيال النبى الكريم ليلة الهجرة، وحين خرجوا مستكبرين فى بدر، وحين استثار اليهود الناس وجمعوهم فى يوم الأحزاب. فما زاد ذلك الكيد وتلك المحاولات- ما زادت الدعوة إلا قوة ورسوخ قدم وأصالة، وما زاد ذلك الدعوة إلا انتشارًا وانتصارًا.

وكانت الدعوة قوية منتصرة فاعلة منتشرة أمام الجيوش التى لا تقهر، حينما حاربت فى وقت واحد كلتا القوتين العظميين، الفرس والروم، بما لديهم من ترسانات الأسلحة، وما لا يحصى من الجنود، وما لا يستهان به من الخبرات الحربية والعلوم العسكرية، والقادة المشهود لهم، لكن الدعوة انتصرت وأزالت الفرس من الوجود، وأطاحت بالروم حتى ردت دولتهم عن كل بلاد أفريقيا ومعظم مناطق وجودهم فى آسيا.

إذًا ما الذى يشل الدعوة؟، وما الذى يوقفها ويعطل مسيرتها، إنها الفتنة الداخلية. حدث ذلك فى حياة النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، فى حادثة الإفك، إذ ظل الناس فى المدينة شهرًا كاملًا فى همٍ شديد، وشمل ذلك الهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا راحة لأحد من المسلمين، ولا طعم للحياة المغموسة بهذه الأراجيف المستقذرة، ولا أمان وهذه التهم تلاحق الكبار الأنقياء الأطهار. حينها فقدت الدعوة حيويتها، وفقدت نشاطها، وانشغل الناس جميعًا بهذا الهم الكبير.

وحدث ذلك مرة ثانية فى عهد الخلفاء، عندما نجح المتآمرون فى نشر مقالة السوء عن عثمان رضى الله عنه، بل حركوا الجموع الجاهلة للثورة على ذي النورين، بل استباحوا دمه الطاهر، فاستشهد كريمًا رضى الله عنه، وهنا امتد الشلل خمس سنوات عجاف، لا جهاد، ولا استقرار، بل فتن متتالية، واقتتال بين المؤمنين، وكان هذا النموذج الأشمل لشلل الأمة وعجزها عن أداء دورها وإرواء وإشباع أهلها والناس أجمعين.

ولم تنشط الأمة من هذا الشلل إلا فى عام الجماعة حين قام الحسن بن على رضى الله عنهما بتوحيد الأمة خلف إمام واحد، وإسدال الستار على هذه الحقبة الصعبة، وحقن الدماء، وتوجيه الناس نحو رسالتهم ودورهم المنتظر.

وما أشبه الليلة بالبارحة! وما أحوجنا لاستدعاء الدرس، والتدبر فيه، ايها الناس، إن الضغط الخارجى لا يزيد الصف إلا تماسكا وقوة، فالمؤمنون أمام الخطر الخارجى ـ مهما كان ـ أقوياء مستثارين للحق، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا }، ومهما بلغت جحافل الأعداء {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.

أما أمام الخطر الداخلى- من بعض المؤمنين- فإن الأمر مختلف، إنه أشبه بقنبلة داخل المبنى، إذا تفجرت- لا قدر الله -كانت الأضرار كلها فى المبنى. 

ولذلك فإن أخطر ما يهدد حركتنا الإسلامية هو الخلافات الداخلية، حين تتوجه سهامنا إلى قلوبنا، وتستهلك قدراتنا وإمكاناتنا فى مشكلاتنا البينية، حين تضيع الأوقات بلا عائد فردى أو جماعى، حين تتوقف الأعمال، وتعطل الخطط، وتشل الحركة. حين يكون بأسنا بيننا، ويكون تدبيرنا علينا، فلا نلتقى إلا لهذا، ولا نتحدث إلا عنه، ولا نستطيع التحرر من هذه الحفرة البغيضة، 

إنه أشبه بالجنون، بل هو الجنون نفسه، فكيف نعبد الله فى هذا الجو الكئيب، وكيف ندعي العمل لهذا الدين ونحن نهدم أخوتنا ونستهين بقيمنا!؟