لمطالعة ما سبق :

الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية (3/1)

 الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية (3/2)



 بقلم- الدكتور فتحي يكن :

 

الاستيعاب الداخلي

أعني بالاستيعاب الداخلي القدرة والأهلية على الاستيعاب ضمن الدعوة وفي صفوفها سواء كان ذلك من قبل القيادة أم من قبل الأفراد ..

فإذا كان الاستيعاب الخارجي يحقق اجتذاب الناس إلى الإسلام وإلى الدعوة والحركة وهو مهم فإن الاستيعاب الداخلي هو الذي يحقق حسن الاستفادة من هؤلاء في عمل الدعوة والحركة ..

إن المرحلة الأولى من العمل أشبه باستخراج المعادن من الأرض وهو عمل (المناجم) والعاملين فيها في حين تشبه المرحلة الثانية عملية تصنيع هذه المعادن والخامات وتحويلها عبر (المانع) إلى أدوات مختلفة ..

وإذا كان مهما أن نستخرج الخامات البشرية من (منجم ) المجتمع الكبير فمن الأهم التمكن من تحويل هذه الخامات عبر الدعوة إلى طاقات فاعلة على كل صعيد ..

فلنرى كيف يجب أن تتم عملية التحويل والتصنيع هذه ..

إن عملية تحويل خامة بشرية إلى طاقة موجهة وقدرة فاعلة لا بد وأن يتم عبر مراحل ووفق أسس وقواعد شأن ما يفرض في ذلك على التصنيع المعدني فما هي هذه المراحل وتلك القواعد والأسس؟


المرحلة الأولى : الاستيعاب العقائدي التربوي ...

في هذه المرحلة يتعين على الحركة أن تقوم بصياغة الوافدين إليها صياغة نوعية جيدة ...

تنقيهم من كل الرواسب الماضية أفكاراً وممارسات وتغسل أدمغتهم وعقولهم مما ران عليها أو علق بها من معطيات غير إسلامية ..

تصحح عقيدتهم .. تقوم سلوكهم وأخلاقهم .. تهذب أحاسيسهم ومشاعرهم .. توجه رغباتهم وتطلعاتهم .. تحدد وتوضح أهدافهم وغاياتهم ..

إن هذه المرحلة هي أهم المراحل على الإطلاق لأنها بمثابة الأساس الذي سيبنى عليه العمل كله ويقوم عليه البناء كله ..

فإن حصل استيهان في هذه المرحلة وما أكثر ما يحصل فيترتب عليه خطر كبير وشر مستطير على صعيد الفرد والجماعة ..

فالذي يكبر من غير تربية والذي يرتفع من غير التزام والذي يتبوأ المسئوليات بغير جدارة وأهلية يكون عبئاً على الدعوة وبلاءاً عليها في كثير من الأحيان ..

إن مهمة (القيادة) في هذه المرحلة أن تضع وتهي كافة الأسباب والأدوات والمناهج اللازمة لعملية الاستيعاب العقائدي هذه وأن تكون ساهرة مراقبة دقيقة في إجراء هذه العملية ..

أعرف إنساناً تسلق جدار الدعوة بدون جدارة وأصبح داعية قبل الأوان .. وكان يشكو ويعانى من علل وأمراض شتى ((أقلها العجب ومنها الصلف والفظاظة .. ولما علت منزلته وارتفعت درجته وارتفع معها عجبه وصلفه وفظاظته لم يعد من الممكن السيطرة عليه وضبطه مما أدى أخيراً إلى سقوطه وخسارته ... وأعرف غيره ساعدت الدعوة على قتله حين دفعته في طريق وعر قبل أن تعده لسلوكه ورشحته لأمر لم يكن أهلاً له واختصرت به مراحل قبل الأوان فلنتصور كيف كانت النتيجة ؟؟

فعملية التصنيع إن لم تأخذ مداها الكافي وتتوفر لها كافة الاحتياجات كانت عملية فاشلة وأدت إلى بروز صناعات مشوهة مما يتسبب بكساد البضاعة والإساءة إلى سمعة المصنع وبالتالي إلى فشله وانهياره ؟؟

وكما أن الصناعات المدية الحسية لا تظهر حقيقتها ومدى جودتها إلا عند التجربة كذلك الحال مع الدعاة والعاملين فقد لا تظهر معادنهم وتتضح مؤهلاهم وجداراتهم إلا حين وضعهم على المحك ومن خلال التجربة وهذا يفرض وضعهم على المحك وتجربهم قبل تقليدهم المسئوليات لتكون تجربتهم على حسابهم وليس على حساب الدعوة ..

ثم أن التغاضي عن علة في فرد واحد ستدفع إلى التغاضي عن هذه العلة أ غيرها في الصف كله وبذلك يصبح الصف بلا ضابط ..

صحيح أن الناس يتفاوتون في قدرات الحمل والالتزام ولكن هذا لا يجوز أن يدفع إلى التساهل في القواعد والأسس التي تقوم عليها الشخصية الإسلامية .. فمعالم الشخصية يجب أن تكون واحدة لأنها إن لم تكن كذلك ستؤدى إلى بروز شخصية غير إسلامية ...

إن الاستيعاب التربوي يجب أن يكون قوياً متيناً قائماً على إدراك سليم لأحكام الشريعة ومعالم الحلال والحرام ومن ثم التزام بذلك كله ..

والاستيعاب التربوي يجب أن يكون دائماً غير محكوم بمرحلة أو ظرف فلا يجوز أن يكون قائماً عند المبتدئين متعطلاً عند المتقدمين ذلك أن المتقدمين أخطر في انحرافهم على الدعوة والصف من المبتدئين كما أن أسباب الانحراف تكون عندهم أكثر وأوفر ..؟؟

والاستيعاب التربوي يجب أن يلحظ المتغيرات الحياتية والمراحل الطبيعية والاستثنائية التي يمر بها الأفراد فلا يكون النمط واحد للكبار والصغار للمتزوجين وغير المتزوجين للطلاب والعمال لمحدودي الثقافة وأصحاب الاختصاصات والخريجين ..

فالاستيعاب التربوي الذي يحتاجه طبيب متخرج غير الذي يحتاجه طالب ثانوي أو صاحب مهنة . والاستيعاب التربوي يجب أن يغطى المساحة التربوية كلها فلا يكون فكرياً فحسب أو روحياً فقط ((وإنما يسد كافة الاحتياجات الفطرية لدى الإنسان ..

والاستيعاب التربوي يجب أن يكون موزوناً محكماً بمقاييس الشرع آخذاً بعزائمه ورخصه وليس وليد انفعالات وتحكمات شخصية لأن من شأن ذلك أن يجعل الدعوة الواحدة دعوات والحركة حركات كما من شأنه أن يمزق الصفوف كما حصل في العديد من الأقطار والتنظيمات ..

والحقيقة أن أكثر ما تعانى منه الحركة الإسلامية من مشكلات وانقسامات ومن تساقط للأفراد خلال السير والعمل ومن بروز ظواهر مرضية في هذا الجانب أو ذاك سببه الأساسي والأصيل عدم نجاحها في الاستيعاب التربوي وإخفاقها في تكوين الشخصية الإسلامية وإيجاد الفرد المسلم وفق المواصفات التي وردت في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

فلننظر إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تكوين الشخصية الإسلامية وإيجاد الفرد المسلم لما لهذا الجانب من أهمية بالغة ومن أثر جذري على سائر الجوانب ..


سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في تكوين المسلم

لقد نهجت السنة النبوية الشريفة نهجاً فريداً في تكوين الفرد بما يتناسب مع كمال المنهج الإسلامي والفطرة التي فطر الله الناس عليها ..

فلم يكن المنهج النبوي في تكوين الفرد ذا طابع روحي بحت يسقط من حسابه لحاجات المادية العضوية كما لم يكن منهجاً مادياً محضاً شأن المناهج الوضعية والفلسفات المادية ..

فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم نظرت إلى الإنسان وعاملته كإنسان متكامل الميول والنوازع والحاجات .. فهي لم تتعامل معه كملاك كما أنها لم تعتبره حيواناً كبقية الحيوانات ليس إلا ..


قواعد أساسية من السنة

فيما يلي سنعرض لعدد من القواعد التي بينتها السنة النبوية الشريفة في نطاق التكوين والتي من شأنها بناء الفرد بناء سليماً لا تفريط فيه ولا إفراط ..


1- تغليب الإيجابية على السلبية

فقد كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حرباً على السلبية والجمود والتقوقع والرهبانية من أول يوم .. فدعوة الإسلام دعوة حية متصلة بالحياة بكل ما تعنيه كلمة الحياة من معنى ..

فهناك فريق من المسلمين فهموا الإسلام فهماً ضيقاً دفعهم إلى تعطيل طاقة الفرد وحيويته وإنتاجه بحجة العزف عن الدنيا المبالغة في الزهد الإقبال على الله .. فمنهم من اعتزل المجتمع منهم من تخلى عن الوظيفة بل إن منهم من دفعه غلوه إلى الامتناع عن الصلاة في المساجد العامة بحجة أنها تابعة لمؤسسة رسمية كوزارة أوقاف أو ما شاكل ذلك ؟؟

وهذا النهج فضلاً عن كونه يصطدم اصطداماً مباشراً بطبيعة الإسلام الحركية فإنه يسهل على أعداء الإسلام اختلال مراكز القوى في بلاد المسلمين والحيلولة دون عودة هذه البلاد إلى قيام الإسلام ومنهجه في الحياة .

وفيما يلي بعض الشواهد النبوية التي ترفض هذه الظاهرة :

-لقد رؤى أحد المسلمين في عصر النبوة معتزلاً الناس يتعبد على رأس جبل فأتى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له : ((لا تفعل أنت ولا أحد منكم لصبر أحدكم في بعض مواطن الإسلام خير له من عبادة أحدكم أربعين عاماً )).

- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد )) رواه أحمد في مسنده .

-ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )).


2- تغليب الاعتدال على التطرف

وقاعدة أخرى من قواعد التربية والتكوين في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتتمثل في الحض على الاعتدال والنهي عن التطرف والغلو ..

- ففي إطار الالتزام الشخصي بالإسلام يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الغلو والتنطع فيقول : ((ألا هلك المتنطعون .. ألا هلك المتنطعون )) ويقول :(( إن هذا الدين شديد فأوغلوا فيه برفق)) - وفي إطار الدعوة واجتذاب الناس إلى الإسلام يقول الرسول ((يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا )) وفي ذلك ترجمة صادقة لقوله تعالى :{ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } وقوله { أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } .

وأوضح دليل يمكن أن يساق على نهج اعتدال السنة النبوية الشريفة في تكوين الفرد ما رواه أنس بن مالك رضى الله عنه حيث قال (( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما اخبروا كأنهم تقالوها وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم : أما أنا فأصلى الليل أبدا .. وقال الآخر وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر .. وقال الآخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا .. فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله أنى لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منى ..))

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدلجة ))رواه البخاري .


3- القليل الدائم خير من الكثير المنقطع

ومن القواعد النبوية كذلك الحض على الاستمرارية والديمومة في أعمال البر والخير مهما كانت ضئيلة لأنها تكون بذلك أصيلة ومستطاعة وفي مقدور الإنسان القيام بها من غير عناء ..

وفي أكثر الأحيان تكون الالتزامات القاسية والأعمال الكثيرة التي يقوم بها الإنسان وليدة ردة فعل مؤقتة لا تلبس أن تخب تضعف قد تتلاشى تدفع بصاحبها في اتجاه معاكس تماماً .. كما قد تكن مدخلاً من مداخل العجب إلى النفس في ذلك هلاكها كذلك ..

من هنا كان توجيه النبي يؤكد على الاستمرارية في أعمال البر الخير دونما اهتمام بحجم هذه الأعمال بل من هنا كان الحرص على خواتيم الأعمال ليس على مطالعها .

- فعن عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه سلم دخل عليها عندها امرأة قال : من هذه ؟ قالت : هذه فلانة تذكر من صلاتها قال :((مه ، عليكم بما تطيقن فالله لا يمل الله حتى تملا )).

-وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : قال لي رسول الله ((يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ))متفق عليه .

-في رواية عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : ((أدومها وإن قل )).

-وفي رواية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(( سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل )) رواه البخاري ومسلم .

-وفي رواية (( كان أحب الأعمال إلى الله عز وجل الذي يدوم عليه صاحبه ))رواه مالك والبخاري - وفي رواية ((القليل الدائم خير من الكثير المنقطع )).


4- السنة وتغليب الأولوية في التكوين

ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في التكوين تغليب الأولوية وتقديم الأهم على المهم ..

فالأخلاق الكريمة يجب أن تكون محصلة العبادة والعبادة الحسنة يجب أن تأتى نتيجة العقيدة الصحيحة .. وهكذا يجب أن تبنى الأعمال لي قواعد وأصل فق سلم الأولويات ..

أما التكوين الذي لا يلتزم بسلم الأولويات فهو تكوين كيفي مزاجي هش لا يقوم على قواعد راسخة ولا ينهض على أسس قوية متينة ولذلك يبقى عرضة للتداعي والتساقط وريشة في مهب الريح وهذا هو الفاصل الجذري والفارق الأساسي بين الأخلاق في مفهوم الفلسفات المادية المبينة على المصلحة ..

من هنا كان النهج النبوي في تكوين الفرد يعتمد على بناء العقيدة أولاً وقبل كل شئ .. بل إن هذا النهج جاء ترجمة عملية لسياق التنزيل القرآني ومراحله وآفاقه ..

فالقرآن الكريم كان يركز بشكل دائم ومستمر على بناء العقيدة طيلة العهد المكي الذي استمر ما يقرب من ثلاثة عشر عاماً لتكون بعد ذلك سائر الفروع الأخرى من عبادات و توجيهات تشريعات مبنية على قاعدة عقائدية صلبة وأسس مبدئية راسخة ...

ومن خلال استعراضنا لسياق الآيات القرآنية التكليفية يبدو ترتيب الآيات واضحاً وثابتاً ومسمراً .. من ذلك قوله تعالى :

-{ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } العصر 1-3

- {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات } البقرة 25 .

- { والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } البقرة 82 .

- { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة 277 .

- { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم } المائدة 9 .

-{ وإذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } المائدة 93 .

- { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب لكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين آتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل السائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء حين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } البقرة 177 .

وهكذا تتكاثر الآيات مؤكدة ترتيب الأولويات التكليفية حسب الأهمية ..

تأتى بعد ذلك السنة النبوية الشريفة لتترجم هذه القاعدة من خلال السلوك النبوي في الجانب التكويني :

-قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟ فقال ((العلم بالله عز وجل )).

-روى : أن رجلاً جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : علمني من غرائب العلم فقال له : ما صنعت في رأس العلم ؟ فقال وما رأس العلم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هلا عرفت الرب تعالى ؟ قال : نعم قال : فما صنعت في حقه ؟ قال : ما شاء الله قال صلى الله عليه وسلم هل عرفت الموت ؟ قال : نعم قال : فما أعددت له ؟ قال : ما شاء الله قال النبي صلى الله عليه وسلم اذهب فأحكم ما هنالك ثم تعالى نعلمك من غرائب العلم )) رواه أبو نعيم وابن عبد البر .

وقال صلى الله عليه وسلم : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم وهذا القول ه ترجمة عملية لقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دن ذلك لمن يشاء } النساء 48- 116 .

من كل ذلك يتضح أن عملية التكوين يجب أن لا تكن كيفية غير مبينة على أسس أو مقيدة بمراحل وأوليات لأنها إن كانت كذلك فهي مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومكتوب عليها الفشل من أول الطريق .. ما مظاهر التشوه في الشخصية الإسلامية المعاصرة إلا إحدى نتائج الخلل في اتباع السنة في أولويات التكوين ..


5- التكوين من خلال القدرة

والسنة النبوية الشريفة حضت على أن يكون التكوين بالقدوة معتبرة أن لسان الحال أوقع من لسان المقال وأن أثر العمل أقوى من أثر القول وصدق الله تعالى حيث يقول { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } ويقول { يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون } .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى والأسوة الحسنة للمسلمين في كل زمان ومكان ولقد كان صلوات الله وسلامة عليه الترجمة العملية للقرآن الكريم وعندما سئلت عائشة رضى الله عنها عن خلق الرسول قالت :((كان خلقه القرآن )).

ولقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أثر القدوة في كثير من توجيهاته وأنها دليل الأمان وثمرته .. وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم :

.((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل )) رواه الديلمى في مسند الفردوس .

- ((ما آمن بالقرآن من استحل محارمه )) رواه الترميذى .

-(( ما من عبد يخطب خطبة إلا الله عز وجل سائله عنها )) رواه البيهقى .

- ((مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضئ على الناس وتحرق نفسها)) رواه البزار .

- (( كل بنيان وبال على صاحبه إلا ما كان هكذا وأشار بكفه وكل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به )) رواه الطبرانى

- ((إن الرجل لا يكون مؤمناً حتى يكون قلبه مع لسانه سواء ويكون لسانه مع قلبه سواء ولا يخالف قوله عمله ويأمن جاره بوائقه )) رواه الاصبهانى .

وأود أن أسوق هنا قولاً لعلى بن أبى طالب في فضل القدوة وأهميتها يقول على رضى الله عنه :(( من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتهذيب نفسه قبل تهذيب غيره وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم )).


6- التكوين الكلى لا الجزئي

ومن الخصائص التي تمز بها الأسلوب النبوي في تكوين الفرد النظرة الكلية الشمولية فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تهتم بجانب من جوانب التكوين أو بجانب واحد من جوانب الشخصية الإسلامية وإنما عنيت بالجوانب كلها وبالشخصية كلها ...

فهي لم تهتم بتنمية الفكر على حساب الروح .. ولا بالروح على حساب الجسد .. ولا بالجسد على حساب الروح .. ولا بواحدة من هذه على حساب غيرها إنما كان اهتمامها كلياً وشاملاً ومتوازناً من غير تفريط أو إفراط ومن غير جنوح أو انحراف وبدون تطرف أو مبالغة .. أ- ففي معرض عناية السنة النبوية بتكوين (العقلية الإسلامية ) وتنمية القدرات الفكرية لدى الفرد نسوق طائفة من الأحاديث الشريفة :

- (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )) رواه البخاري ومسلم وابن ماجة .

-((أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع )) رواه الطبرانى .

-(( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة - الحديث )) رواه الترمذى . - (( ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدى صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى وما استقام دينه حتى يستقيم عمله )) رواه الطبرانى .

- (( ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ولكل شئ عماد وعماد هذا الدين الفقه )) رواه البيهقى والدارقطنى .

ب- وفي معرض عناية السنة النبوية بتكوين (النفسية الإسلامية ) ورياضة القلب والروح نسوق نماذج من الأحاديث الشريفة :

- ((لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء )). -(( إن لكل شئ صقالة وصقالة القلوب ذكر الله وما من شئ أنجى من عذاب الله من ذكر الله قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولو أن يضرب بسيفه حتى ينقطع )) رواه البيهقى .

-(( الإنسان عيناه هاد وأذناه قمع ولسانه ترجمان ويداه جناحان ورجلاه بريد والقلب منه ملك فإذا طاب الملك طابت جنوده )).

- (( إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه ))

(( من كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ )) مسند الفردوس .

-(( روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت )).

- (( روحوا القلوب ساعة فساعة )) رواه أبو داوود .

ج- وفي معرض عناية السنة النبوية بجسد الفرد ليبقى قوياً معافى جلداً قادراً على النهوض بمسئوليات الحياة وواجبات الرسالة وطاعة الله نسوق نماذج من الأحاديث والتوجيهات النبوية :

-(( ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه )) رواه الترميذى .

-(( لكل داء دواء فإذا أصاب الدواء الداء برأ بإذن الله عز وجل )) رواه مسلم .

- (( نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا ووضع له شفاء غير داء واحد قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم )) رواه أحمد والنسائي .

- ((المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف )) رواه مسلم .

-((علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل )).

- (( تمعددوا واخشوشنوا وانتضلوا )) رواه الطبرانى .

-(( إن لجسدك عليك حقاً )).

- (( والذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار والذي يقتحم يقتحم في النار ))رواه البخاري .


7- سلامة البيئة وأثرها في التكوين

ومن أجل نجاح عملية التكوين عمدت السنة النبوية إلى الاهتمام بسلامة البيئة بل جعلت لهذه البيئة دوراً أساسياً وفعالاً في تكوين الفرد المسلم تكويناً سليماً ومتكافئاً ..

أ -فالبيتية (أو العائلية ) تعتبر المحضن الأول المعنى بعملية التكوين .. والأبوان مسئولان ابتداء عن إشاعة الأجواء المساعدة في هذه العملية من خلال التربية النظرية والعملية ومنها كانت التوجيهات النبوية واضحة وفاصلة في تبيان مسئولية الأبوين :

- ((يولد الولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ))

- ((الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها )) رواه البخاري ومسلم .

- ((أدبوا أولادكم وأحسنوا أدبهم )) رواه ابن ماجة .

- ((علموا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فذلك وقاية لهم من النار )) رواه ابن جرير . -((أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم وحب آل بيته وتلاوة القرآن فإن حملة القرآن في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله )) رواه الطبرانى .

ب- واختيار الأصدقاء والأصحاب عامل مهم في عملية التكوين والسنة النبوية الشريفة بهت إلى ذلك وحذرت من مخالطة الأشرار ومصاحبة المنحرفين فقال عليه والصلاة والسلام :

-(( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )) رواه الترمذى .

-(( مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير )) فحامل المسك إما أن يحذيك ((أي يعطيك )) أو تشترى منه أو تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحاً منتنة )) رواه البخاري ومسلم .

-(( المرء مع من أحب وله ما اكتسب )) رواه الترميذى .

-(( إياك وقرين السوء فنك به تعرف )) رواه ابن عساكر .

ج- ولقد حضت السنة النبوية بشدة على ضرورة تنظيف المجتمع من عوامل الفساد درءاً للمفاسد ومساعدة للفرد على الاستقامة وسلوك سبيل الصالحين وتحقيقاً لقاعدة (درهم وقاية خير من قنطار علاج ). وفيما يلي طائفة من التوجيهات النبوية على هذا الصعيد :

- ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم جوا جميعاً )) رواه البخاري والترميذى .

-(( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) رواه مسلم والترميذى وابن ماجة والنسائي .

- ((إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب ))رواه النسائي .

- ((لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها وتصرف عنهم العذاب والنقمة ما لم يستخفوا بحقها .. قيل وما الاستخفاف بحقها ؟ قال : يظهر العمل بمعاصي الله فلا ينكر ولا يغير )) رواه الاصبهانى .


8- أثر الثواب والعقاب في التكوين

ومن الأسباب المساعدة في عملية التكوين والمتوافقة مع فطرة الإنسان وتكوينه الخلقي التأثر بمبدأ الثواب والعقاب جاءت السنة النبوية تطبيقاً علياً لبدأ (الجزاء) التي حفل بها القرآن الكريم .. وفي مقدمتها قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلك تتقون } .

ولكن هذا لا يعنى أن يكون التكوين (بالعقوبة) ابتداء وإنا في أعقاب استنفاد كل الوسائط والأسباب وعلماء التربية المسلمون يرون أنه لا ينبغي للمربى أن يلجأ إلى العقوبة إلا عند الضرورة القصوى وأن لا يلجأ إلى الضرب إلا بعد التهديد والوعيد وتوسط الشفعاء وفي قول لابن خلدون : ( من كان رباه العسف والقهر سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحله على الكذب والخبث خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر وعلمه المكر والخديعة ولذلك صارت له هذه عادة وخلقاً وفسدت معاني الإنسانية التي له )).

ولذلك كان لا بد من اتباع الأولويات في التكوين ومراعاة الفوارق النسبية والجذرية بين فرد وآخر - فيكون التكوين ابتداء بالتوجيه ..

-ثم يكون بالملاطفة ..

- ثم يكون بالإشارة والتنبيه ..

- ثم يكون بالتوبيخ ..

- ثم يكون بالهجر والمقاطعة ..

- وأخيراً يكون بالعقوبة الرادعة ..

وهاكم طائفة من الأحاديث النبوية جاءت في معرض التحذير والعقوبة :

- ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر )).

- (( أقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم )) رواه ابن ماجة .

- ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه))رواه أبو داود .

- (( في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف قال رجل من المسلمين : يا رسول الله متى ذلك ؟ :إذا ظهرت القيان والمعازف وشرب الخمور )) رواه الترمذى .

- (( من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ))رواه الترميذى وأبو داود . - ((إذا استحلت أمتي خمساً فعليهم الدمار : 1 - إذا ظهر التلاعن 2- وشربوا الخمور 3- ولبسوا الحرير 4- واتخذوا القيان 5- واكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء )) رواه البيهقى . - ((الزنا يورث الفقر )) رواه البيهقى .

-(( إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله )) رواه الحاكم .

وهكذا تتكاثر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أساليب وأسباب التربية والتكوين تكاثر الأمراض والطباع والعادات والتقاليد والمجتمعات تأكيداً لعظمة الإسلام وإعجاز وقدرته على تغطية كل الاحتياجات ومعالجة كل النفوس في مختلف الأزمنة والأمكنة وسنة رسول الله ثابتة ماضية ى هذا السبيل لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وصدق الله تعالى حيث يقول :{ وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحي } وصدق رسوله المصطفي صلى الله عليه وسلم حين يقرر:((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي )).
المرحلة الثانية : الاستيعاب الحركي

والمقصود بالاستيعاب الحركي قدرة الحركة على استيعاب أفرداها والمنتظمين فيها والمنتمين إليها حركياً .. كما أن المقصود منه كذلك استيعاب الحركة وأفرادها للشؤون والأصول والقواعد الحركية .

الأول : ( ما يعلق باستيعاب الحركة لأفرادها )

استيعاب الحركة لأفرادها هو الشرط الأول والأساسي لنجاحها فكم من حركة تضم الآلاف من الناس لكن من غير استيعاب له واستفادة من طاقاتهم وإمكانياتهم مما يجعلها عديمة الأثر محدودة السير بينما وجد في المقابل حركات تضم بضعة عشرات ن الأفراد مستوعبين بالكلية لحركاتهم ومن حركاتهم أصبحت ذات شأن وأثر وفاعلية في المجتمع ..

فما هي الشروط التي تمكن الحركة من استيعاب أفرادها :

الشروط الأول : أن تكون قد نجح ابتداء في عملية التكوين ومرحلة التربية لأن استيعابها للأفراد حركياً يجب أن يسبقه الاستيعاب التربوي والبناء الحركي يجب أن يسبقه بناء تربوي فإن لم يتحقق ذلك أصبح البناء الحركي عملية غير مضمونه النتائج والعواقب ..

الشرط الثاني : أن تكون الحركة قد اكتملت لديها الطاقات والإمكانيات اللازمة لعملية الاستيعاب هذه كالقدرات التنظيمية والتربوية والتخطيطية والفكرية والسياسية الخ ..

فالحركة كل حركة تبقى قاصرة ومحدودة وضعيفة حتى تتمكن ن توفير الأجهزة والبدائل اللازمة لكل جانب من جوانب العمل .. وعندما تتمكن من ذلك تصبح حركة أصيلة قادرة على إنجاز عملية الاستيعاب الخارجي والداخلي بنجاح وإتقان ..

إن التفسير الصحيح لتعثر الحركة أحياناً وتخبطها كونها لا تزال في طور النمو والبناء ولم تصبح بعد قادرة على القيام بواجباتها والنهوض بمسئولياتها على الوجه الأكمل ..

الشرط الثالث : أن تعي حقيقة أفرادها وأن تعرفهم حق المعرفة هذه المعرفة التي تكشف لها طاقاتهم ميولهم مواطن القوة والضعف عندهم والتي من خلالها يمكنها أن تصنفهم وأن تعين لهم وتحدد مهماتهم ومسئولياته وأن تضعه في المكان المناسب .

إن حسن توظيف الإمكانات هو الذي يؤدى إلى الإثمار والنماء والعطاء أما إذا كان التوظيف عفوياً وكيفياً فإن إنتاجه لن يكون موفوراً ولا مشكوراً ..

الشرط الرابع : أن تقوم بتجنيد كافة أفرادها في العمل وليس فريقاً منهم أو المتفوقين فيهم إن إيجاد عمل معين لكل فرد مهما كان بسيطاً ومحدوداً من شأنه أن يضاعف الإنتاج وأن يجنب الحركة الفتن والمشكلات الناجمة عن العاطلين الذين ليس لهم دور ومهمة والذين يصبحون بؤرة ضعيفة يدخل من خلالها البلاء إلى الجسد كله ...

فالحركة الأصيلة الناجحة هي التي تحرك أصغر الإمكانات فضلاً عن أكبرها وتحسن الاستفادة من أضعف الأفراد إمكانية فضلاً عن أقواهم كل في مجاله وضمن إمكاناته ..

ثم أن الحركة بمسيس الحاجة إلى جميع أنواع وأصناف الإمكانيات واكتفاؤها بنمط معين من الإمكانيات يعرضها للفشل والإخفاق ..

فالذين يخططون قد لا يحسنون التنفيذ أو أن من المستحسن أن لا يتولون ذلك والذين يشتغلون في التربية قد لا يحسنون العمل السياسي أو العمل العسكري أو العمل الرياضي أو العمل الاجتماعي .. وتوزيع المهمات على المجموعة كلها أفضل بكثير من حصرها في نطاق ضيق ...

إن حصر المهمات والمسئوليات في عدد محدود من الأفراد له كثير من النتائج السيئة ويكفي من ذلك أنه يعرض الحركة للانهيار لدى أقل محنة أو مكروه يصيب القيادة لأنه يحول دون توافر البدائل ويبقى الأفراد متفرجين وبدل أن تكسبهم الأيام خبرة وتجربة وقدرة على تحمل المسئولية وتجشم الصعاب واقتحام العقبات يصابوا بالبلادة في الحركة والتفكير وباللامبالاة واللاشعور بالمسئولية ويصبحوا كلاً وعبئاً على الحركة بدل أن يحملوا أعباءها وأثقالها .

الشرط الخامس : أن تقوم الحركة بتوظيف القدرات بشكل جماعي وليس بشكل فردى إن من أخطر الأمراض التي تعانى منها الحركة ويعانى منه العمل الإسلامي النزعة الفردية في العمل أو بتعبير آخر قيام العمل على كاهل الأفراد لا الأجهزة وهذا بالتالي يجعل العمل مرتبطاً بالفرد متأثراً بطبيعته مرتهناً لإمكانياته وطاقاته محكوماً بأفكاره وتوراته واجتهاداته مما يجعله عرضه وباستمرار للتعثر والتوقف وللانحراف والتشوه كما يعرض القائم به للغرور والانتفاخ ويجعله في الحركة في موقع الإملاء عليها والتحكم فيها لشعوره بأنه على ثغرة لا يسدها غيره وبأنه يقدم أكثر مما يقدم سواه وأن الحركة لا تملك حياله شيئاً وأنه لا عوض عنه ولا بديل ..

الثاني : ( ويتعلق باستيعابها هي الحركي )

إن الدعوة قيادة وأفراداً بحاجة إلى الاستيعاب الحركي ابتداء والقيادة يجب أن تكون معينة بذلك قبل غيرها وفاقد الشيء لا يعطيه ..

فما هي الجوانب التي يجب أن تستوعبها الدعوة ويستوعبها الداعية في النطاق الحركي :


أولاً : الاستيعاب الكامل والصحيح للأهداف والوسائل


وكل لبس أو تشوه أو تناقض في التصور للأهداف والوسائل يترتب عليه خلاف بين العاملين وتباين في تقدير الأمور وخروج عن الخط وانحراف عن الهدف ..

فما يترتب على الاعتقاد بأن الهدف (تغييري) يختلف جذرياً عما يترتب عن كونه (إصلاحي) وتقييم ودراسة الأمور كل الأمور أهمها وأبسطها والحكم عليها وتحديد المواقف منها يخلف بين أن ينظر إليها بهذا المنظار أو ذاك ولهذا كان لا بد من حديد واستيعاب ..


ثانيا: الاستيعاب الكامل والصحيح للتنظيم وطبيعته

فعدم وضوح الشؤون التنظيمية يؤدى إلى عدم معرفة الحقوق والواجبات وإلى عدم التعامل وفق القواعد والأصول وإلى التجاوزات والفرديات وإلى تصادم الصلاحيات وإلى نشوء الحساسيات إلى ما لا نهاية له من النتائج الوخيمة المدمرة ..

وليس المهم أن يكون هذا الاستيعاب نظرياُ من غير تطبيق وتنفيذ فالتنفيذ هو الذي يجعل (حركة التنظيم ) فاعلة فتتلاشى الفوضى والتعديات والتجاوزات وما يترتب على ذلك كله ... فإذا عرفت طبيعة وصلاحية جهاز من الأجهزة أصبح من الخطأ الكبير طرح ما ليس من طبيعته وصلاحيته عليه ...

وإذا تحددت صلاحية فرد أصبح من الخطأ تجاوزها منه أو عدم التزامها من سواه .. أذكر أن منطقة من مناطق العمل كانت تعانى جموداً كبيراً بينما تشهد المناطق الأخرى نمواً وانتشاراً ملحوظين ..

وبعد البحث والتدقيق تبين أن الجهاز المشرف على العمل والمسئول عن المنطقة يعانى مشكلة تنظيمية تتمثل في (تجاوزه لصلاحياته) فبدل أن يكون اهتمامه بشؤون منطقته كان يتجاوز ذلك إلى الاهتمام بشؤون العالم الإسلامي كله فينسى ما هو مسئول عنه ويترك ما هو واقع ضمن صلاحيته ومهمته لينساق وراء العاطفة الإسلامية التي تشده بعيداً عما يجب أن يشد إليه ..

وأذكر أن مكتباً إدارياً تشكل من أفراد لم يسبق لهم أن اطلعوا على النظام الداخلي أو اللوائح التنظيمية للأقسام والتي تحدد طبيعة العمل في كل مجال من المجالات ..

وبعد البحث والتدقيق تبين أن هؤلاء لم يمروا عبر القنوات التنظيمية المحددة ولم يترقوا في التنظيم وفقاً للقواعد والأصول إلى تؤهلهم لمثل هذه المسئوليات وعندما حصل فراغ قيادي لظرف من الظروف سيقوا إلى الهيجا بدون سلاح ..

من المعروف أن تنفيذ أية مهمة حركية يجب أن تمر بمراحل ليتحقق في النهاية التنفيذ على أكمل وجه ولتتم الفائدة المرجوة ومن الاستيعاب التنظيمي مرور هذه المهمة وانتقالها عبر المراحل كلها بشكل جيد أو حسن وحين تتعثر هذه المهمة أو تتوقف في مرحلة من المراحل أو لا يكون تنفيذها جيداً في إحدى هذه المراحل تكون النتيجة سيئة وغير جيدة ..

أذكر أن لقاء من اللقاءات تقرر فيه إقامة احتفال جماهيري كبير ولقد استغرق اللقاء وقتاً طويلاً بحثت فيه كافة العناصر التي تضمن نجاح الاحتفال الخطباء مكان الاحتفال ترتيبات الاستقبال الترتيبات الأمنية مكبرات الصوت المقاعد بطاقات الدعوة ... الخ ..

وبعد أن توزعت الأعمال وتم التنفيذ وجاء موعد الاحتفال كانت المفاجأة مذهلة حيث لم يحضر الخطيب الرئيسي والذي عليه المعول وبعد سؤال وجواب تبين أن المكلف بالاتصال بالخطباء وتبليغهم لم يعثر على الرجل في بيته فكلف زوجته بذلك على الهاتف دون أن يكلف نفسه معاودة الاتصال به مرة أخرى على الأقل ودون أن يدرى أنه بهذا التهاون قد عرض ملاً كبيراً للفشل والبوار ..

وفي احتفال مماثل كانت المفاجئة المذهلة في قلة الحور حيث تبين فيما بعد أن أكداساً من الدعوات الحائطية واليدوية لا تزال في الجوارير ولم توزع على الناس ..

وأذكر فيما أذكر أن مجموعة من طلبات منح الدراسة كانت قد قدمت من قبل أصحابها إلى أحد المختصين بهذا الشأن وبدل أن يبادر هذا إلى إجراء ما يلزم ومن ثم تحويلها إلى من يليه في هذا الشأن وهكذا حتى تبلغ المنتهي فقد ألقى بها في أحد الأدراج وكانت النتيجة أن مر الوقت وفاتها القطار وضاعت سنة كاملة من عمر أصحابها والذين كانوا ينتظرون وصول القبول دون أن يعلموا أن طلباتهم لا تزال ملقية كالمهملات في الجارور ..


الثالث : الاستيعاب الكامل لطبيعة الأصدقاء والأعداء ولما يقتضيه ذلك :

إن من الخطأ الشنيع والخطورة البالغة لي الدعوة وعلى الداعية الجهل وعدم المعرفة بطبيعة الأصدقاء والأعداء وبما يميز الصديق من العدو وبأهداف كل منهما ووسائله ومبادئه وأدواته وخططه وتحركاته وسياساته ورجاله قيادة وأفراداً ..

فالحركة التي لا تعرف ما يجرى حولها ولا تحسن تصنيف الناس من حولها حركة فاشلة مكتوب عليها الإخفاق معرضة للتصفية والسحق من قبل أعدائها ..

أعرف دعاة يحاربون الشيوعيين وهم لا يعرفون شيئاً عن الشيوعية .. وآخرين يغازلون القوميين وهم لا يفقهون شيئاً عن القومية وآخرين وآخرين يصادقون أو يعادون ويحاربون أو يهادنون من غير معرفة واستيعاب لحقيقة هؤلاء أو أولئك ولأساليب هؤلاء أو أولئك ..

كما أعرف البعض الآخر ممن لا يقيمون وزناً لصديق أو عدو ولا يكلفون أنفسهم عناء استجلاء الآفاق أو استكشاف ورصد التحركات من حولهم معتبرين ذلك جرأة وإقداماً وهو في الحقيقة جهل بطبائع الأمور واحتياجاتها ونحر للدعوة وتدمير لها ..

إن الحركة الإسلامية تعيش في عصر تكاثر فيه الأعداء وتعددت وتنوعت أساليب المكر فإن لم تتبين كريقها وتتثبت من مواطئ أقدامها وتتوسل بالحيطة والحذر مع العمل والإقدام والجرأة فستتعرض للسقوط في منتصف الطريق دون أن تحفظ الظهر أو تبلغ الهدف .


الرابع : الاستيعاب الكامل لمختلف جوانب العمل وطبائعها واحتياجاتها :

فالذي يحقق نفاذ الدعوة إلى كافة قطاعات المجتمع استيعاب الدعاة لطبيعة هذه الجوانب وتحديدهم للنهج والأسلوب الذي يصلح لكل جانب .

فلا بد من دراسة وتحليل وتفكير وابتكار وتجديد وتنويع ولا بد من الاستفادة من الظرف والحدث والمناسبة .. ولا بد من المراجعة والمحاسبة ونقد الذات واستكشاف العيوب والأخطاء ..

صحيح أن المبادئ التي يجب أن تعطى وتلقن للجميع يجب أن تكون بالنتيجة واحدة ولكن لبلوغ هذه النتيجة الواحدة يحتاج الدعاة إلى سلوك سبل مختلفة وإتباع أساليب متعددة ..

والداعية الناجح هو الذي يعرف كيف يبدأ ومن أين يبدأ مع ضمان الوصول إلى النتيجة المطلوبة .. والقطاعات المجتمعية أصبح لكل منها في عصرنا هذا خصائص ومعطيات وبالتالي شؤون ومشكلات بعضها خاص وبعضها مشترك فالقطاع الطلابي له شؤونه ومشكلاته وقضاياه .. والقطاع العمالي له ما يختص به ويميزه .. وكذلك قطاع النساء والخريجين والعلماء والسياسيين ورجال الأعمال وغيرهم .... والمدخل إلى كل قطاع من هذه القطاعات قد يتقارب وقد يتباعد ، أو قد يتقارب في جانب ويتباعد في آخر ... وهذا كله يحتاج من الدعوة و الداعية إلى دراسة وتمحيص واستيعاب كلى لشئون كل قطاع ومشكلاته ، ليتحدد بنتيجة ذلك النهج والأسلوب الذي يحتاجه ويصلح له ... وبغير ذلك يصبح عمل الدعوة خبط عشواء ...

أذكر أن موضوع التصنيف هذا طرح في أحد مراكز العمل ، فلم يلق قبولاً وتجاوباً من عدد من الدعاة و العاملين ... حيث أصر هؤلاء على إلغاء الأقسام وحصر العمل بقسم واحد ، بحجة أن ما يجب إعطاؤه واحد فلا داعي للتعدد الذي من شأنه تبديد الطاقات فضلاً عما تسببه من تصادم للصلاحيات .

و النتيجة ستكون عدم تمكين الدعوة من النفاذ إلى القطاعات المختلفة ومن ثم الإمساك بها و السيطرة عليها وإنما الاكتفاء بجذب بعض العناصر من هذا القطاع أو ذاك بصفتهم الفردية ... وهذا من شأنه أن يعزل الدعوة و الدعاة عن معترك الصراع ويجعلها عديمة الشأن و الفاعلية والأثر ...


الخامس : عدم الاستنكاف شرط للاستيعاب :

إن الدعوة حتى تكون مستوعبة للمجتمع ، وأن الدعاة حتى يكونوا مستوعبين للناس ، بحاجة إلى معالجة ظاهرة الاستنكاف .

وظاهرة الاستنكاف هذه آخذة في الاتساع والانتشار في محيط الدعوة وواقع العاملين للإسلام يوماً بعد يوم ... وفي بعض الأقطار الإسلامية أخذت هذه الظاهرة منحى مخيفاً وطابعاً خطيراً .

فالاستنكاف عن مخالطة الجماهير و التعامل معها بالإسلام ودعوتها إليه من شأنه أن يجعل هذه الجماهير عدوة للإسلام و الحركة ويجعلها مسخرة ضد الدعوة و الدعاة من قبل أعداء الإسلام .

والاستنكاف عن العمل السياسي من الدعوة و الدعاة بحجة أن محيط العمل السياسي فاسد ويفسد من يلج إليه ، وأن السياسة ملعونة ملعون من يمارسها - إلى ما هنالك من أقوال ما أنزل الله بها من سلطان - سيجعل سياسة البلد وقيادته وقراراته بيد أعداء الإسلام ، وموجهة ضد الإسلام و العاملين له ... واستنكاف الحركة في قطر من الأقطار عن المشاركة في الأجهزة المكونة من تيارات مختلفة لمعالجة مشكلة من المشكلات ، سيجعل تلك التيارات هي الحاكمة و الفاعلة وهي المهيمنة حتى على الشارع المسلم ، مسخرة جماهيره لأغراضها وأهدافها ، ومحرضة إياه ضد الحركة الإسلامية نفسها ...

واستنكاف العاملين عن التوظف في أجهزة الدولة المختلفة - التربوية والإعلامية و العسكرية وغيرها - بحجة أن نظامها غير إسلامي ، سيجعل هذه الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها بؤرة لأعداء الإسلام ، مما يعيق أو يحول دون تحقيق أهداف الحركة القريبة و البعيدة ويجعلها مشلولة مغلولة ...

والاستنكاف عن الاختلاط بالناس بحجة بعدهم عن الإسلام وسوء أخلاقهم وكثرة انحرافاتهم من شأنه أن يزيد المشكلة تعقيداً ، ويوسع الهوة بين هؤلاء وبين الإسلام ...

وإذا كان الناس مرضى واستنكف الطبيب عن معالجتهم ، فإن هذا المر سوف يستفحل ، وسيقتل الطبيب نفسه فضلاً عن المريض .

ثم إنه ما قيمة الدعوة وما قيمة الدعاة إن كانوا مستنكفين عن خوض عملية التغيير في المجتمع ... وهل يظن هؤلاء أن عملية التغيير يمكن أن تتم من خارج المجتمع وبدون اختراقه و الدخول إليه و التأثير فيه و التعامل معه ؟..

إن الدعوة حيال هذا الموضوع أمام خيارين لا ثالث لهما :

الأول : أن تبقى الدعوة دعوة لأصحابها قاصرة عليهم مهتمة بهم دون غيرهم ، غير عابئة بالناس وبهدايتهم ... وعند ذلك تكون دعوة ( صالحين ) غير مصلحين ، ودعوة ( صفوة ) لا جماهيرية ... وعليها أن تدرك إن كانت كذلك ، أن نهجها هذا مخالف للإسلام ولطبيعة الدعوة ، وأن عملها هذا قد لا ينجيها ويعصمها من طغيان الجاهلية وطوفان الفساد ما دامت مستنكفة عن العمل لمواجهته ووقفه أو الحد منه ...

الثاني : أن تكون الدعوة للناس كل الناس - المريض منهم قبل المعافى - و المنحرف فيهم قبل المستقيم - تحمل الهداية إلى الجميع وتحنو على الجميع ، وتريد الخير للجميع ، وتحرص على الاستفادة من كل طاقة وتوظيفها في خدمة الدعوة ومعركة الإسلام ...

إن عقائدية التغيير الإسلامي يحتاج من الحركة أن تكون ( صفوية ) قيادة وطليعة ، كما أن الجذرية التغيير و الشمولية يحتاجها إلى أن تكون ( جماهيرية ) كذلك .

أما إن بقيت الحركة تراوح مكانها بعد مرحلة الاصطفاء دون أن تخرج بمن اصطفتهم إلى دنيا الناس ، ومن غير أن تدربهم على ذلك ، أو تدفعهم إلى تجربة ذلك ، أو تقودهم من خلال ذلك فإن مآلها إلى انعزال ، وإن أثرها إلى انحسار ، كما وأن عناصرها ( المحنطة ) المستنكفة عن المخالطة الناس والاهتمام بشئونهم وتبنى مشكلاتهم ورفع ظلامتهم ستصاب بإدبار قبل إقبال ، وبتآكل بعد تكامل ، لأنها تكون قد فقدت عنصر القوة في معاركة ( تصارع البقاء ) وصدق الله تعالى حيث يقول { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } .